في حقبة سحيقة ليس بإمكاننا تغطيتها بأي نوع من التاريخ المكتوب انتشرت مجموعة من البشر لتغطي جميع قارات الأرض بإستثناء أفريقيا. وما زال ورثة ذات الخطوط الجينية الذين يحملون المجموعة الفردانية سي (Haplogroup C) موجودون بنسب متباينة في عدد كبير من الشعوب اليوم، كما يمثلون الأغلبية في بعض الشعوب. وصلوا إلى جنوب شرقي آسيا خروجاً من أفريقيا ومروراً بالهند ثم انطلقوا نحو شرق آسيا ونحو استراليا من جهة، وانطلق الخط الآخر الخارج من أفريقيا ليستوطن أوروبا بفترة مبكرة جداً تسبق الهجرات اللاحقة إلى أوروبا جميعاً، وتكللت تلك الهجرة الطويلة بعبور مجاميع يحمل رجالها ذات المجموعة الفردانية إلى العالم الجديد من مضيق بيرنغ.
الطفرات والخروج من افريقيا
في المقال السابق انتهينا بتفرعات عدة نتجت من المجموعة الفردانية BT والتي هي بدورها تمثل إحدى تفرعات المجموعة الفردانية A وذكرنا حدث الخروج من أفريقيا الذي يعد بذاته أمراً محيراً عزا البعض حدوثه لبركان كبير غير المناخ وهو بركان توبا – رغم أننا نرى أن البحوث في المجالات ذات الصلة لا تجمع على ذلك – وطرحت تفسيرات أخرى مناخية حول الخروج. غير أن مسيرة المجموعات الفردانية التي خرجت من أفريقيا والمجموعة الفردانية C إحداها تظهر مساراً مسرعاً نحو شرق آسيا لم يعثر فيه أي من العلماء على حلقات وصل كثيرة بين الذين خرجوا من أفريقيا وأبناء عمومتهم الباقين في أفريقيا لكن الافتراض الصائب كان ممكناً من خلال الطفرات المشتركة بين المجموعات الفردانية تلك.
مر البشر الذين يحملون هذه المجموعة الفردانية بسواحل شبه القارة الهندية ربما ووصلوا إلى جنوب شرق آسيا، ثم ليبدؤوا رحلتهم شمالاً نحو شرق آسيا قبل حوالي أربعين ألف سنة، ونحو أستراليا وبابوا غينيا الجديدة في ذات الحقبة، وشقوا طريقهم إلى العالم الجديد قبل حوالي 15 ألف سنة. قد يكون هؤلاء البشر هم من اوائل من استوطن شرقي آسيا، وما يعزز هذا بالإضافة إلى دلائل الحمض النووي ذاتها هو الأدلة من العظام التي تقترح أن البشر الأوائل في شرق آسيا يرجعون في أصولهم إلى جنوب شرق آسيا [1]
يرى أستاذ العلوم الجغرافية بافيل دلوخانوف (Pavel Dolukhanov) أن سبب توجه المجموعات البشرية مثل حاملي المجموعة الفردانية C وغيرهم إلى سيبيريا ومناطق شمال الصين هو أن تلك المناطق رغم كونها شديدة البرد في الحقبة الجليدية الأخيرة (33 ألف – 16 ألف سنة قبل الآن) غير أنها أفضل حالاً من أوروبا حيث أن جفاف المنطقة يترك طبقة خفيفة من الثلوج فقط، مما يسهل على الرعاة وحيواناتهم العثور على العشب تحت طبقة خفيفة من الثلج، بخلاف المناطق الممتدة من غربي روسيا الحالية حتى أوروبا حيث يكون الثلج سميكاً جداً.[2] مع ذلك، فإن استيطان البشر في أوروبا لم يكن منعدماً، بل كانت هناك مناطق كثيرة تصلح للسكن، وقد اتجه ذات الخط من الذكور الذي نعرفه اليوم بالمجموعة الفردانية سي بشكل مبكر بعد الخروج من أفريقيا إلى أوروبا، ليمثل فئة من الصيادين الجامعين الأوروبيين كما سنأتي لذلك.
الشعوب التي تنتشر فيها المجموعة الفردانية C اليوم
من سكان أستراليا (ليس الأوروبيين) وبولونيزيا في المحيط الهادئ حتى شعب الياقوت في أقصى شمال سيبيريا، ومن المغول، والمنشوريون والصينيون حتى شينغيانغ تبلغ نسبة الذكور الذين يحملون تفرعات مختلفة من المجموعة الفردانية C في كروموسوم واي نسبة تزيد على 40% وفق دراسة نشرت في نيتشر 1 (Nature) كما تتواجد بنسب تصل إلى 10% في اليابانيين وفي شعب السيبو (Xibo)، ونسب قليلة مشابهة في الكازاخ والقرغيز والأوزبك وغيرها من الشعوب التركية وبعضاً من الشعوب الإيرانية القاطنة في وسط آسيا أيضاً كالطاجيك.
احدى أوسع حالات الانتشار للشعوب التي يمتلك ذكورها المجموعة الفردانية سي تتمثل بالغزو المغولي، حيث اكتشفت تاتيانا زيرجال (Tatiana Zerjal) وزملائها عبر دراسة عينات عابرة للشعوب من الحمض النووي أن 8% من الرجال المنتمين لـ 16 شعباً في الإقليم الممتد بين المحيط الهادئ إلى بحر قزوين يمتلك فرعاً من المجموعة الفردانية سي انتشر بشكل مفاجئ قبل حوالي 1000 سنة ولا توجد ظاهرة تفسر هذا الانتشار المفاجئ سوى الاجتياح المغولي للعالم. تعني هذه النسبة أن 0.5% من ذكور العالم قد يمتلكون هذه المجموعة الفردانية كما يقترح الباحثون[3].
قبل سنوات وتحديداً في العام 2014 شاع الحديث عن الأوروبي القديم من العصر الحجري والذي يمتاز بملامح غريبة مقارنة بالملامح الأوروبية اليوم وهي الأعين الزرقاء والبشرة الداكنة، في الحقيقة ينتمي هذا الأوروبي لصنف منقرض من البشر تقريباً ولا يماثل الاوربيين المعاصرين الذين يعتبرون مهاجرين جدد إلى القارة. عثر باحثون إسبان على بقايا رجل عاش قبل 7000 سنة أطلقوا عليه تسمية لا برانيا 1 (La Brana) نسبة إلى الموقع الأثري الذي وجد فيه موقع لا برانيا ارينتيرو (La Brana-Arintero)[4]. كان الرجل الذي عاش هناك صياداً جامعاً، والغريب في الأمر أنه كان ينتمي لفرع مختلف من المجموعة الفردانية سي في شرق آسيا. لم يعد هناك وجود لهذا التفرع في الأوروبيين الحاليين ويرجح أنه منقرض أو موجود بأعداد نادرة لم تكشفها الفحوص الجينية حتى الآن.
لكن الرجل الذي عثر عليه في لا برانيا لم يكن الوحيد، بل عثر على رجل آخر ينتمي لفرع منقرض من المجموعة سي قرب نهر الدون في روسيا. كما عثر على فلاح أناضولي وآخر في البلقان وبقايا لرجلين في وسط وغرب أوروبا أيضاً كلهم ينتمون لفروع متقاربة من المجموعة سي مما يرجح فرضية تفرع المجموعة سي بين شرق آسيا وأوروبا.[5] ننصح بقراءة مقال بشر منقرضون من العدد 51 من مجلة العلوم الحقيقية: بشر منقرضون.
في الأمريكتين، وصلت طلائع البشر الأولى عابرة من أمريكا الشمالية عبر ألاسكا ممن يحمل ذكورهم المجموعة الفردانية C أو Q. وقد مضى هؤلاء الذين يحملون المجموعة C حتى النصف الشمالي من أمريكا الجنوبية. وبذلك يكون الصنف سي منتشراً بجميع القارات باستثناء أفريقيا.
الإرث اللغوي – الجيني – الثقافي العابر لآسيا
في العام 2015 مول الاتحاد الأوروبي مشروعاً نتج عن العديد من الفصول و25 ورقة بحثية نشرت حول الزراعة والجينات واللغة للعائلة الآلتائية من اللغات والتي تسمى أيضاً وسميت بالمشروع باللغات الترانزآسيوية أي العابرة لآسيا[6]. وهذه العائلة اللغوية تشمل اللغات التركية بدءاً من سيبيريا حتى الأناضول، اللغات الكورية، اللغات المغولية، اللغات اليابانية، واللغات التنغزية. يجمع متحدثي هذه اللغات بشكل غريب نسب معينة من المجموعة الفردانية C للذكور وتتقاطع بعض الأدلة حولها مع أدلة عن الهجرات البشرية القديمة. قادت البحث الباحثة في اللغويات المقارنة مارتينا روبيتس (Martine Robbeets).
لم يكن ذلك البحث هو الأول من نوعه، يحلل دلوخانوف2 أيضاً تحول سيبيريا وسهول روسيا الشرقية إلى ملتجأ لمختلف الأقوام القادمة من هجرات آتية من أفريقيا أو من غرب آسيا ويرى أن العناصر اللغوية المشتركة بين هؤلاء قد تمتد لحقب سحيقة في العصر الجليدي الأخير.
يصنف انتقال اللغات وفقاً لبعض الباحثين تصنيفاً جنسياً. أي أن اللغات قد تنتقل عبر الآباء أو عبر الأمهات وفق الفرضية، فتسمى مجاميع لغوية معينة بلغات الآباء أو لغات الأمهات. وكانت فرضية البحث أن اللغات الالتائية هنا هي لغات أبوية، غير أن وجود بعض الغموض حول انخفاض نسبة الذكور من المجموعة الفردانية C في اليابان، وحول تاريخ دخول اللغات اليابانية غير المتزامن مع دخول مهاجرين ممن يحملون المجموعة سي ترك بعض الحيرة التي تفتح الباب لاحتمالات أكثر. مع ذلك فإن الارتباط بين مجموعة لغوية معينة ومجموعة فردانية جينية، وبالأخص هذه المجموعة يبقى موضوعاً ينال الدعم في البحث العلمي.[7]
المراجع
[1] Zhong, H., Shi, H., Qi, XB. et al. Global distribution of Y-chromosome haplogroup C reveals the prehistoric migration routes of African exodus and early settlement in East Asia. J Hum Genet 55, 428–435 (2010). https://doi.org/10.1038/jhg.2010.40
[2] Dolukhanov, Pavel M. “Archaeology and languages in prehistoric northern Eurasia.” Nichibunken Japan Review (2003): 175-186.
[3] Zerjal, Tatiana, et al. “The genetic legacy of the Mongols.” The American Journal of Human Genetics 72.3 (2003): 717-721.
[4] Olalde, Inigo, et al. “Derived immune and ancestral pigmentation alleles in a 7,000-year-old Mesolithic European.” Nature 507.7491 (2014): 225-228.
[5] Kivisild, Toomas. “The study of human Y chromosome variation through ancient DNA.” Human Genetics 136.5 (2017): 529-546.
[6] Millet and beans, language and genes. The origin and dispersal of the Transeurasian family, MAX-PLANCK-GESELLSCHAFT ZUR FORDERUNG DER WISSENSCHAFTEN EV
[7] Robbeets, Martine, and Chuan-Chao Wang. “About millets and beans, words and genes.” Evolutionary Human Sciences 2 (2020).
راجعت المقال لغويا ريام عيسى وتم نشره في مجلة العلوم الحقيقية العدد 52 شهري نوفمبر-ديسمبر 2022