في الفصل الحادي عشر، يبدأ دينيت في التحقيق في الآثار المترتبة على نموذج المسودات المتعددة. وسيعود لاحقًا إلى مشكلة التعبير عن الأفكار المقترحة في الفصل السابق. الفصل 11 يسمى “تفكيك برنامج حماية الشهود”. يتضح من العنوان أن دينيت يشير هنا إلى فكرة مركزية أخرى، وهي الشاهد الذي يشهد على كل المعلومات المعروضة على أذهاننا.

إن العمى يجعلنا غير واعين لمحفزات محددة مثل الرؤية، ولكننا واعون لمحفزات أخرى كالسمع. في بعض الأحيان، ولأسباب مختلفة، نفقد البصر في بقعة معين في مجال الرؤية. على سبيل المثال، يعاني الأشخاص المصابون بعمى النصف الأيمن من العمى الكامل في نصف الحقل الأيمن فقط. لدينا جميعًا بقعة عمياء في رؤيتنا فمجال الرؤية محجوب بالأنف مثلاً أو بعدم قدرة العين عن النظر إلى مجال العين الأخرى نظراً لمحددات الحركة، ولا تحتاج أدمغتنا عادة للتعامل معها لأن كل عين تعوض البقعة العمياء للعين الأخرى. الفكرة إذن، لا يوجد شيء في دماغنا يشير إلى غياب هذه المعلومات، من البقعة العمياء مثلاً. ولكن عندما تكون لدينا بقعة عمياء بشكل مفاجئ فقط، فمن المتوقع أن يتم الإبلاغ عن المعلومات المفقودة والإبلاغ عنها. من جهة نرى إذن عدم وجود ما يبلغ عن غياب المعلومات من حاسة معينة كالبصر ولكن من جهة أخرى، تظهر بعض التجارب كيف يمكن للأشخاص المصابون بالعمى أن يشعروا بطريقة ما إذا كان هناك ضوء في المجال. لماذا يأتي دينيت بهذه الأمثلة حول ابلاغنا عن تجاربنا؟ لماذا يعد هذا مهمًا لفهم الوعي؟ سوف نأتي إلى الجواب.

ماذا عن الأشخاص الذين يعانون من العمى الهستيري وما هو الدليل عمى أحدهم بشكل عام؟ (العمى الهستيري هو الاعتقاد النفسي بالعمى دون وجود خلل في آليات البصر). إذا تجاهلنا الأدلة التجريبية وركزنا على الظواهر المتغايرة وما يزعمونه، حتى مع وجود الأدلة المتاحة، لا يمكننا أن نتجاهل تمامًا أن الأشخاص المكفوفين هستيرياً لا يستطيعون الرؤية. نعود إلى ادعاء بعض المصابين بالعمى بأنهم قادرين على الإحساس بالضوء، حتى لو أكدوا أنهم لا “يدركون” ذلك. من منظور ظاهراتية الشخص الثالث، لا يمكننا إنكار وجود تجربة اصحاب العمى الهستيري أو العميان الذين يدعون قدرتهم على الشعور بالضوء، لكن لا يزال بإمكاننا التفكير في ما يختبرونه. في هذه الحالة، يمكن أن تكون تجربتهم مجرد تخمين. تتحسن قدرات التخمين لدى الأشخاص المكفوفين الذين يقولون أنهم يشعرون بالضوء في التجارب التي حاولت اختبار ذلك. قد تكون تخمينات هؤلاء قادمة من خلل متأصل في تصميم التجربة، وبعضها يشير إلى أن القائم على التجربة يقدمها عن طريق الخطأ، على سبيل المثال يمكن أن يصدر أصواتاً معينة دون أن يشعر. لكن، بشكل عام، التخمين في حد ذاته لا يكفي لكي نكون واعين بشيء ما. إنها طبيعة ما ندركه هي التي تحدد وعينا به أم لا، أي أنه يجب علينا أن نكون قادرين على تحديد ما ندركه، وما هو مكنونه (وهذا رابط مع الفكرة من الموضوع السابق حول التعبير عن أفكارنا سواء في حالات الأمثلة عن العمى وما نتلقاه من معلومات أو في حالات الأفكار التي نعبر عنها باللغة). عبر تلك الأمثلة نقترب من أمر معين وهو دور تعرضنا للتجربة الحسية في وعينا بها وبمكنونها. 

عندما نبحث عن شيء لم نره بعد، مثل الكشتبان في لعبة “إخفاء الكشتبان”، نلاحظ أننا في بعض الأحيان أننا لا نستطيع العثور عليه حتى عندما يكون أمام أنوفنا. وبعد ذلك، بعد أن نتفحصه، يصبح “في وضع يمكن التعبير عنه” بأذهاننا كما يوضح دينيت. التدريب إذن – مثل حالة تطور حدس العميان مع المزيد من التدريب والتجارب – يعزز قدرتنا على التعرف على بعض التأثيرات. من خلال التعرض للتجربة، يمكننا أن ندرك شيئًا لم نكن قادرين على إدراكه من قبل. تجربتنا لن تكون مختلفة عن تجربة العميان. يمكن للأشخاص الذين يعانون من العمى أيضًا تعزيز هذا الارتباط بين تجاربهم كما يحدث عندما تبدأ تخميناتهم في التحسن. لدينا هنا عنصر آخر يضاف إلى النقاش حول الوعي: الكواليا Qualia التي تعرف بالعربية بالكيفيات المحسوسة ويمكن تعريفها باختصار بأنها الكيفية التي تبدو لنا الأشياء بها.

السبب وراء فتح دينيت لكل هذه القضايا هو مناقشة الوهم المسرحي الديكارتي الذي يفترض وجود عنصر مركزي يقوم بملأ الفراغات أو تكوين الصورة أو تلقي مشاهداتنا. الافتراض هو أن دماغنا يملأ تفاصيل حول التلوين المفقود في الصورة، أو التفاصيل المفقودة، أو النقطة العمياء في نظرنا. يتبنى كثير من المفكرين هذا المفهوم الذي يدحضه دينيت لسبب واضح، لن يكون هناك من يفتقد الجزء المفقود في الصورة إذا لم نفترض وجود آلية مركزية لتقرير ذلك. سيتم إهمال الجزء المفقود بكل بساطة من قبل أدمغتنا. هذا التحدي مهم لإدخال سمة أخرى للوعي، وهي كونه منقطعاً غير مستمر.

“إن غياب التمثيل ليس هو نفسه تمثيل الغياب[والعكس صحيح]” يقصد دينيت أن غياب تمثيل شيء ما في أدمغتنا هو ليس ذاته عملية تمثيل ما نعتقد أنه غائب فليس هناك من يعتقد بوجود شيء غائب لعدم وجود شاهد مركزي. وهكذا يقدم دينيت فكرة الحضور الافتراضي. لنرى ما هي هذه الفكرة يمكن أن نعرج على مثال استرجاع المعلومات من أذهاننا. إذا أردنا أن نرى كيف يمكننا استرجاع المعلومات من آلاف الأجزاء المخزنة من المعلومات، فكيف يمكننا القيام بذلك إذا كان الدماغ يعمل في هذا الوضع اللامركزي الذي يرى العالم الخارجي دون ملاحظة ما هو مفقود؟ كيف يمكن للعديد من العملاء العاملين بشكل متوازي في أدمغتنا أن يقرروا تخزين شيء ما في المكتبة اذا لم يكن هناك سلطة مركزية؟ سيتم تخزين المعلومات “دون أي تكلفة” وفقًا لدينيت، ومن ثم سيتم استرجاعها بواسطة نظام يشبه نظام إعارة المكتبات حيث تكون المعلومات “حاضرة فعليًا” وليس افتراضيا. ومع ذلك، لا يزال نظام الإعارة هذا موزعًا على ملايين الحراس المسؤولين عن تلك المهام. إن نظام ادخال المعلومات يعتمد على نظام إنذار لأي شيء جديد عندما يتعلق الأمر بالرؤية مثلاً (وهنا نفهم لماذا ذكر تجربة الكشتبان وتحسن الحدس بالتعرض للتجربة). يستمر هؤلاء العملاء بتسجيل المعلومات حول أي شيء يرونه جديداً. لكن العملاء في هذا النظام لن يكلفوا أنفسهم عناء إضاعة جهودهم طيلة الوقت في ملء التخيلات في كل ما يطاله مجال رؤيتنا (لهذا السبب نرى أن دينيت يذكر كيف لا ننتبه للبقعة العمياء في البصر وغيرها من الأمثلة).

لا يوجد مع ذلك ما يعطينا إشعاراً بتلك الانذارات لو حدثت في نطاق رمشة العين. اختبر دينيت ذلك في تجربة تعرف بتجربة “قمع الحركة الرمشية [أو السكادية]” حيث يتبدل محتوى الشاشة بنحو سريع جداً واثناء حركة العين حصراً. ذلك التغير السريع لا يكون ملحوظاً لدينا وهو ما يشير إليه دينيت. يعتبر هذا قيداً من القيود على تلقي مكتباتنا للمعلومات وتخزينها.يرينا هذا قصوراً في تلك الآليات أيضاً ويعتبر هذا تحدياً لمزاعم المركزية أو للشاهد المركزي تحديداً. 

ذكر دينيت ذلك المثال ليتجادل مع أوتو، ناقده الافتراضي، في قضية محددة. إدعى أوتو أنه ينفي معالجتنا لتفاصيل ورق الحائط (صورة للساحر مارلين تتكرر ضمن نقشة ورق الجدران بشكل افتراضي) كمعلومات. ومع ذلك، فهو يعترف بأننا نراهم ونتعرف على تفاصيل صورة مارلين. لابد وأنك مررت بمثال كهذا حيث تجلس وأنت تركز في حوار مع شخص مثلاً ويكون هناك شيء مثل ورق الجدران في هذا المثال وتظن أنك عالجت المعلومات المتعلقة بورق الجدران دون أن تكون قد نظرت لها وتمعنت بها عن قرب. 

ينفي دينيت وجود أي وحدة في الدماغ للقيام بمهمة ملئ الفجوات تلك والقيام بمهمة التمييز هذه لا في ورق الحائط ولا في أي مكان. ملئ الفجوات لدينا ليس سوى آلية لإصدار أحكام أدمغتنا على أنماط ندركها من التلوين. في المثال، الذي تجادل دينيت حوله مع أوتو حيث هناك صور مارلين عالية الدقة إذا كنت لا تركز، فقد تقول إن مارلين تظهر في الصور، لكن لا يجوز لك ذلك. يتلقى دماغك المعلومات ويصدر أحكامًا عليها حتى عندما لا تكون على علم بها ويمكن أن يكون تخمين الدماغ صحيحًا أو خاطئًا. هذه هي الطريقة التي تعرف بها أن هناك مارلين، وليس أن هناك عملية حصلت على تفاصيل غامضة وملأتها بالمزيد من التفاصيل للوصول إلى الاستنتاج أن مارلين هي ما تظهر في ورق الجدران. الفارق بين الحالتين هو افتراض وجود عملية لملء الفجوات في الحالة الثانية، في حين أن ما يقوله دينيت أنك تتلقى أي معلومات موجودة وتصدر حكماً عنها قد يكون خاطئاً أو صائباً ودماغك لن يكون مهتماً بعملية حل لغز ماهية تلك الألوان أو محاولة اضفاء تسمية أو تصنيف عليها. 

وبالمثل، فإن تخيل شيء ما قد يقودنا إلى فكرة وجود مسرح مركزي أو مسرح ديكارتي حيث يتم عرض الصور (أو ملء الفجوات). المثال الآخر حول التخيل في حوار أوتو ودينيت هو صورة الخاتم الوردي. يطلب دينيت من أوتو أن يفترض أن هناك شيئًا معروضًا في الدماغ. قد يكون التخيل في بعض اللغات، مثل لغة الأفكار (Mentalease)، يمكننا أن نفكر في تقديم الخاتم الوردي. ولكن في الحقيقة لا يوجد من يتم تقديم الخاتم إليه، ولا توجد وسيلة مركزية لتلقي هذه الصورة، بل هناك عمليات متعددة يجب إعلامها. كما أنه لا يوجد شخص أو جزء في الدماغ يقوم بهذا العمل، بل يحدث في أماكن مختلفة من الدماغ أيضًا. قد تؤدي بعض المحتويات في هذه المناطق إلى نطق جملة، ولكن المحتوى نفسه لا يشبه اللغة. لذا، ليست هناك حاجة إلى اللغة المركزية، ولا إلى لغة الفكر (لغة الفكر Mentalese هي لغة مفترضة من قبل جيري فودور). أفضل أن أقتبس فقرة دينيت التي أعتقد أنها مهمة جدًا. في البداية يقدم اقتراح أوتو، ثم يجيب:

“أوتو: إذن العروض [ يقصد العروض التي تظهر في الدماغ ] تشبه أفعال الكلام باستثناء أنه لا يوجد متكلم ولا كلام.

دينيت: حسنًا. نعم. ما هو موجود، في الواقع، هو مجرد أحداث مختلفة لتثبيت المحتوى تحدث في أوقات مختلفة في الدماغ. هذه ليست أفعال كلام لأحد، وبالتالي ليس من الضروري أن تكون في اللغة، ولكنها بالأحرى مثل أفعال الكلام؛ لديهم محتوى، ولديهم تأثير من حيث إعلام العمليات المختلفة بهذا المحتوى. لقد نظرنا في إصدارات أكثر تفصيلاً لهذا في الفصول 5-10. بعض هذه العمليات التي لها محتوى قد يكون لها تأثيرات أخرى، فقد تؤدي في النهاية إلى نطق جملة – باللغة الطبيعية – سواء تم النطق بها أم لا. وهكذا يتكون النص من وجهة نظر ظاهراتية الشخص الثالث والذي عندما يتم تأويله يتولد لدينا ذلك الوهم الحميد بوجود مؤلف وراء النص الذي تم انتاجه. وهذا يكفي ظاهراتية الشخص الثالث.

أوتو: ولكن ماذا عن الظاهراتية الفعلية لنا؟

دينيت: لا يوجد شيء من هذا القبيل. أذكر مناقشتنا لتفسير الخيال. عندما نصادف رواية سيرة ذاتية ذات تفاصيل فضفاضة، نجد أنه يمكننا ربط الأحداث الخيالية بالعديد من الأحداث الحقيقية في حياة المؤلف، لذا فإن الرواية بشكل ما تدور حول أحداث حقيقية. قد لا يدرك المؤلف ذلك على الإطلاق، لكنه صحيح إلى حدٍ ما؛ تلك الأحداث هي ما يدور حوله النص لأن تلك الأحداث هي الأحداث الحقيقية التي تفسر لماذا تم إنشاء هذا النص “

عندما نقرأ رواية، فإننا نصدر أحكامنا، كما نفعل مع حكم لون ورق الحائط. الأحكام تأتي مما لدينا بالفعل من معلومات، نص في حالة الروايات، وألوان في حالة اللوحات وليس أننا نجد فجوات في صورة متكاملة ونحاول ملأها، اننا نحكم على ما موجود.

الوعي ليس تياراً مكتملاً بل هو “مليء بالفجوات ومتناثر ولا يحتوي حتى على نصف ما يعتقد الناس أنه موجود”. هنا قد نفهم سبب تقديم دينيت لظاهراتية الشخص الثالث، أحد الأسباب هو أنه علينا أن نعترف بمدى محدودية قدرتنا على الحصول على ظاهراتية شخص ما أو ما يمكن أن نحصل عليه من كلامه. قد يتفق المعالجون النفسيون مع دينيت حول ما تتضمنه الجمل التي يقولها الشخص، وكيف ينبغي أخذ تقارير الأشخاص. هنا أيضًا نفهم لماذا كان دينيت يشرح سابقًا كيف أن الوعي ليس مستمرًا.