أشترك في القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية: 

 

ما الحقيقة فيما يزعمه ترامب من علاقة الباراسيتامول بالتوحد؟

بواسطة | سبتمبر 26, 2025 | علوم زائفة | 0 تعليقات

العلم التجريبي لم يكن يوما نتاجا تلقائيا للعقل البشري، بل ثمرة قرون من التحولات الفلسفية والصراعات الفكرية والنهضات المتعثرة. منذ أن وضع الحسن بن الهيثم اسس المنهج التجريبي التشكيكي وصولا الى النسبة لفرانسيس بيكون في مطلع القرن السابع عشر، والعلم بدأ يتشكل كمنظومة متماسكة، تسعى لتفسير الظواهر عبر الرصد والفرضية والتجربة، لا عبر الماورائيات أو الموروث أو السلطة.
لكن ما لا يقال كثيرا هو أن هذه المنهجية، رغم دقتها، ليست محصنة من سوء الفهم، أو التوظيف الخاطئ، أو حتى الاختطاف السياسي. فالعلم لا يتكلم، بل يُتكلم باسمه. ومن يتحدث باسمه ليس دوما أمينا على أدواته أو مبادئه. لقد شهد التاريخ العلمي الحديث محطات متكررة من هذا النوع:
حين وُظف علم الأحياء لتبرير الداروينية الاجتماعية وتفوق الأعراق في أوروبا القرن التاسع عشر، و حين خضعت الأبحاث الطبية في ألمانيا النازية لأجندات فاشية تحت اسم “التقدم العلمي”، و حين بررت شركات التبغ، لعقود، عبر “أبحاث علمية” ممولة، أن التدخين لا علاقة له بالسرطان، وحين ادخل علم الوراثة في قطاعات الزراعة في الاتحاد السوفيتي بشكل خاطئ مؤديا الى مجاعات.. واليوم، نعيش موجة جديدة من هذا الانحراف، تتجلى حين يُستخدم اسم العلم لأغراض سياسية أو اقتصادية أو أيديولوجية، في عصر تحكمه الشعبوية ويتراجع فيه الوعي النقدي لصالح العاطفة والترند.
تصريحات ترامب الأخيرة – التي ألمح فيها إلى ارتباط محتمل بين تناول الباراسيتامول أثناء الحمل وظهور اضطرابات التوحد وفرط الحركة – تمثل نموذجا صارخا لهذا الانحراف. فما إن خرج التصريح، حتى بدأت دوائر التواصل الاجتماعي تروج لدراسات ضعيفة أو مشوشة أو منزوعة السياق، فقط لأنها تدعم موقفًا مسبقًا أو تثير الجدل، ومن المؤسف ان تجد هذه التصريحات والبحوث صدى لدى الكثير في هذا العالم الافتراضي
لكن ما تجاهله الكثيرون، هو أن واحدة من أضخم الدراسات في هذا المجال نُشرت في مجلة JAMA عام 2024، قادها فريق من جامعة كارولينسكا السويدية، واعتمدت على بيانات وطنية لأكثر من 2.5 مليون طفل وُلدوا بين 1995 و2019.
وقد خلصت الدراسة، بكل وضوح، إلى عدم وجود أي علاقة سببية بين استخدام الباراسيتامول أثناء الحمل وظهور أعراض التوحد أو اضطراب فرط الحركة لدى الأطفال.
حجم العينة، ومنهجية الربط الإحصائي، وقوة البيانات، كلها تجعل من هذه الدراسة مرجعا لا يمكن تجاهله، خاصة عند مقارنتها بمحاولات الربط التي تستند إلى مئات من الحالات فقط دون تحكم كافٍ بالعوامل البيئية والوراثية، وهذه هي اساسيات الدليل العلمي، متى ما قُدم دليل علمي بنفس حجم العينة وبتحكم واضح بعدم وجود مؤثرات بيئية او وراثية على النتائج يؤكد وجود الربط، حينها يسقط الدليل وعلينا قبول الدليل الجديد..
لكن العلم، في زمن “ما بعد الحقيقة”، لم يعد ما يُقال في دوائر العلم ، بل ما يُتداول في وسائل التواصل. وهنا تكمن الخطورة.
الديمقراطية، حين تنفصل عن المعرفة، لا تفرز حكمة بل شعبوية، والمؤسسات العلمية، حين تصبح خاضعة للمنتخبين بدل أن تكون مرجعية لهم، تدخل في أزمة وجودية. ما يحدث في FDA، وما حدث سابقًا مع CDC، ليس سوى أمثلة على هذه الأزمة.
فالعلم الذي يجب أن يكون بوصلة السياسات العامة، أصبح رهينة المزاج السياسي، والتمويل العلمي بات يقرره المسؤول الذي يراعي شعبية قراراته أكثر من صحتها.
نحن لا نعيش أزمة معرفة، بل أزمة ثقة في أدوات المعرفة لدينا الأدوات، ولدينا الدراسات، ولدينا المؤسسات، لكن ما نفتقده هو العقل الجمعي القادر على التمييز بين العلم ومن يتحدث باسمه.