بعد عشرات الآلاف من السنوات على خروجنا من أفريقيا كقبائل صغيرة يقودها الخوف من الموت تحت واقع مناخي سيء والرغبة بأرض أفضل، يستطيع البشر اليوم رسم ملامح بعض المعلومات عن تلك الهجرة. تصنف الدراسات العلمية على الحمض النووي للميتوكوندريا خطوط الإناث الى خط تكلمنا عنه سابقاً يعرف بالمجموعة الفردانية L ويتضمن مجاميع عدة منها المجموعة L3 التي انقسمت الى خطين آخرين وهما N وM. وتقع مرحلة الخروج من أفريقيا في نقطة ما قبل أو بعد الإنقسام الحاصل لكل من M وN عن المجموعة L. في هذا المقال سنغطي المجاميع الفردانية M (وسنسميها م بالعربية) والمجموعة الفردانية N (سنسميها ن بالعربية). وتتفرع جميع نساء البشر من خارج أفريقيا تقريباً من هاتين المجموعتين.
الخروج من أفريقيا
ننصح بقراءة المقال عن حادثة بركان توبا الذي يرى البعض أنه أدى الى الخروج من أفريقيا ومقال المجموعة الفردانية BT للكروموسوم اي في موقع العلوم الحقيقية. من المقالين السابقين نرى أن فرضيات الخروج من أفريقيا تضع نطاقاً يتراوح بين 60 و 70 الف سنة لخروج البشر من أفريقيا بحسب الدراسات على الحمض النووي التي تحدد عمر انفصال المجاميع التي بقيت داخل أفريقيا والمجاميع التي خرجت وتعيش في الكتل القارية الأخرى. بنفس الطريقة، توصلت دراسات عديدة الى نطاق آخر لانفصال المجاميع الفردانية للإناث والتي تتراوح بين 55 الف الى 65 الف سنة. يضاف لتلك الحسابات بضعة آلاف من السنوات اقل أو أكثر لأن عمر انفصال المجموعة لا يشترط أن يعطي بالتحديد زمن الخروج من أفريقيا.
للمناخ دور كبير في كل ما جرى على مسرح الخروج من أفريقيا. الفرضيات التي تربط بين بركان توبا والخروج من افريقيا تستند بالأساس على الظروف القاسية التي ولدها البركان والتي أدت بالمجاميع البشرية في شرق أفريقيا إلى التوسع نحو الكتلة الأوراسية. ولكن على النقيض من الظروف السيئة وآثارها، يرى سواريز وزملاؤه أن هناك زيادة في تعداد المجموعة L3 بحدود 70 الف سنة قبل الآن وسببها زيادة في رطوبة المناخ في شرق أفريقيا بتلك الفترة. ولد هذا أكبر توسع في تعداد المجموعة بتلك الفترة. يناقش الباحثون في الدراسة بشكل رئيسي قضية أصل المجموعة L3 ليستبعدوا فرضية كونها شمال أفريقية ويعززوا كونها شرق أفريقية وأن أسبابها الأساسية لم تكن أي تغير حضاري بل كانت أسباباً مناخية بشكل رئيسي. تشير بعض الاكتشافات الى تواجد المجموعة في شمال أفريقيا، غير أن شمال افريقيا كانت قد أخليت كلياً من السكان واعيد استيطانها حديثا بعد أن كانت مناطق خضراء صالحة للحياة فيما يعرف بالفترة الأفريقية الدافئة (قبل حوالي 15 الف سنة).[1]
تبقى هناك آراء أخرى، ذات انتشار أقل، ترجح حدوث التفرع بين المجموعة L3 وتفرعاتها M وN في داخل أفريقيا.
انتشار المجاميع الفردانية للميتوكوندريا L3 و M وN
استطاعت دراسات استخدمت التقنيات الأحدث في فحص الحمض النووي القديم العثور على تفرعات قديمة من المجموعة ن في ليبيا قبل 7000 سنة.[2] تم العثور على العينة في منطقة قاسية المناخ حاليا في فزان، ليبيا في المثلث الحدود الجنوب غربي والتي قد تكون مأهولة في تلك الفترة. عثر في العينة على طفرات مبكرة تشير الى قدم تلك ذلك التفرع بالمقارنة مع المجاميع الأخرى. يرى الباحثون الذين عملوا على تلك الدراسة أن الانقسام الحاصل من المجموعة L3 حدث في مكان محتمل كالجزيرة العربية. أما العينات التي تمت دراستها فتنتمي لنساء من مجموعة يعتقد أنها عادت من الكتلة الأوراسية الى افريقيا قبل حوالي 12 الف سنة.
تمثل شبه القارة الهندية – كما تعرف اليوم – مرحلة مهمة بعد الخروج من أفريقيا أو على الأقل هذا ما نراه في التنوع الجيني فيها وتحديداً في الحمض النووي للميتوكوندريا ومجاميعه. درس باحثون ذلك التنوع وقدم تلك المجاميع مقارنين إياها بمناطق أخرى وتفرعات أخرى من الحمض النووي للمجاميع الخارجة من أفريقيا وتحديداً M. وتوصل الباحثون الى ان المجموعة المتواجدة في أفريقيا M2 والمتفرعة من المجموعة الأم تعد أقدم من المجموعة M1 في زمن انفصالها ويرجح الباحثون وفقاً لذلك فرضية الأصل الآسيوي للمجموعة الفردانية M أي أن تلك المجموعة انقسمت عن L3 بعد الخروج من أفريقيا وبذلك تكون المجموعةL3 هي المجموعة التي خرجت من أفريقيا. [3] توافق هذا الطرح دراسات أخرى مثل دراسة آنا غونزالس (2007) التي قارنت المجاميع M في أفريقيا وخارجها.[4]
ان الخروج من أفريقيا وبحسب البيانات التي نفهمها من الحمض النووي للميتوكوندريا لا يبدو حدثاً تدريجياً بطيئاً. بل يرى بعض الباحثين من خلال مقارنة المجاميع بين سكان استراليا الأصليين وسكان أفريقيا حدث خلال فترة لا تتعدى بضعة آلاف من السنوات انطلقت فيها مجاميع البشر من شرق أفريقيا الى مضيق باب المندب الذي كان يابسة في حينها، ومن طريق سيناء، ثم الشرق الأوسط حتى الهند ومنها الى قارة ساهول التي كانت تجمع الكثير من جزر أندونيسيا الحالية مع استراليا الحالية في كتلة قارية واحدة شبه متصلة بالبر الآسيوي.[5]
مثلما هو الحال في دراسة الحمض النووي للكروموسوم واي، فإن دراسات الحمض النووي للميتوكوندريا لا تعطي أي دليل على استقرار البشر في شبه الجزيرة العربية رغم جفافها ورغم احتمال مرورهم عبرها شمالاً من طريق سيناء وليس فقط عبر الطريق الجنوبي. غير أن تواجد المجاميع القديمة من الحمض النووي M يشير الى وجود هجرات قديمة في العصر الحجري حدثت لاحقاً من أفريقيا الى شبه الجزيرة العربية كما يوضح خالد أبو عمرو في دراسته[6].
المجموعة L3 التي تعتبر المجموعة الخارجة من أفريقيا كان لها توسع آخر لاحقاً في الـ 5 الاف سنة الأخيرة وهو ما يعرف بتوسع البانتو حيث زحفت قبائل افريقية عديدة مسلحة بتقنية الرعي لتجتاح الجزء الجنوبي من أفريقيا. يتكلم الجزء الجنوبي من أفريقيا لغات تنتمي الى لغات البانتو بفضل ذلك التوسع.1
نساء الكتل القارية
كنتيجة للحد الفاصل بين المجموعة L وتفرعاتها والمجموعتين المتفرعتين M وN فإن خارطة العالم للحمض النووي للميتوكوندريا لا تبدو بتنوع وتعقيد خارطة الحمض النووي للكروموسوم واي. على الأقل لو أخذنا الفروع الأساسية للأمهات بنظر الاعتبار. هناك انتشار من المجاميع N وM في أفريقيا وبالمثل هناك هجرات حديثة وقديمة أدت الى انتشار المجموعة L خارج أفريقيا لكن ليس بحدود بعيدة.
ترجع أغلبية خطوط النساء الجينية في أفريقيا جنوبي الصحراء وشرقي أفريقيا الى المجموعة L وتفرعاتها. فيما يغطي تفرع المجموعة N المعروف بـ R معظم الخطوط الجينية للنساء في أوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا كما تغطي مساحات واسعة من آسيا والأمريكتين (تفرعات من الخطوط A, B, C, X) وأستراليا (التفرع O وS) أيضاً وتعد بذلك المجموعة الفردانية للميتوكوندريا الأكبر عدداً. أما المجموعة M فتغطي جنوبي وشرق القارة الآسيوية ومناطق اوقيانوسيا وأستراليا والامريكتين (تفرعات من الخط D).
المصادر
[1] Soares, Pedro, et al. “The expansion of mtDNA haplogroup L3 within and out of Africa.” Molecular biology and evolution 29.3 (2012): 915-927.
[2] Vai, Stefania, et al. “Ancestral mitochondrial N lineage from the Neolithic ‘green’Sahara.” Scientific Reports 9.1 (2019): 3530.
[3] Rajkumar, Revathi, et al. “Phylogeny and antiquity of M macrohaplogroup inferred from complete mt DNA sequence of Indian specific lineages.” BMC evolutionary biology 5 (2005): 1-8.
[4] González, Ana M., et al. “Mitochondrial lineage M1 traces an early human backflow to Africa.” BMC genomics 8 (2007): 1-12.
[5] Macaulay, Vincent, et al. “Single, rapid coastal settlement of Asia revealed by analysis of complete mitochondrial genomes.” Science 308.5724 (2005): 1034-1036.
[6] Abu-Amero, Khaled K., et al. “Mitochondrial DNA structure in the Arabian Peninsula.” BMC evolutionary biology 8 (2008): 1-15.