اضواء تطور اللغة لدى الانسان لغة الحيوانات وطفرة اللغة. في البداية وقبل الشروع في البحث المتعلق باللغة يجب التعريف بعلم النفس التطوري، وهو علم حديث لم يمض على ظهوره سوى عدة عقود، ولا يزال هنالك التباس بينه وبين احد فروع علم النفس الأخرى، إلا وهو علم نفس النمو، فعندما اتجه لبعض باعة الكتب واطلب كتاب علم النفس التطوري لديفيد باس مثلا، أتفاجئ بإعطائي كتاب يتحدث عن علم نفس النمو، وهذا يدل على عدم انتشار هذا العلم في المجتمع العلمي العربي ووجود جهل بالمصطلحات العلمية الحديثة.

يتحدث علم النفس التطوري عن كل ما يخص الآليات النفسية المتطورة لدى الإنسان، وتدخل ضمن هذا الإطار كل ما يتعلق بالحصول على الغذاء ودفع الخطر والتكاثر، هذا بالإضافة إلى مواضيع الحرب والسلم وحتى الانتخابات السياسية، فهو يعالج غالبية سلوكيات الإنسان، وذلك من خلال دمج نظرية التطور البيولوجية كحقيقة علمية معترف بها داخل المجتمع العلمي مع علم النفس. كما يوضح علم النفس التطوري التكيفات التي حدثت لعقل الإنسان في بيئته قبل 10 الآف سنة وهنا ننقل المثال الأتي والمقتبس من كتاب علم النفس التطوري لديفيد باس وهو “أننا نملك خوفاً متأصلاً من الآفاعي والعناكب عند مواجهتها، في حين أن طريقة الحياة العصرية بعيدة كل البعد عن مثل هذه الأخطار. وكان الأجدر بنا أن نخاف من السيارات والقوابس الكهربائية التي تسبب عدد وفيات عالي جدا” وهذا الأمر طبيعي حيث أن الإنسان قد واجه خطر الآفاعي والحشرات لالآف السنين ولم يمض على وجود السيارات والقوابس الكهربائية إلا عقود قليلة. ومن بين ما يدرسه علم النفس التطوري هو لغة الإنسان وكيف تطورت حيث توجد فرضيتين سوف نوضحهما لاحقا.

لغة الحيوانات

الاعتقاد السائد لدى أغلبية الناس هو أن الأصوات الصادرة من الحيوانات ما هي إلا ضوضاء فوضوية تصدرها الحيوانات، لكن بفضل التكنولوجيا الحديثة وما نتج عنها من تحليل للأصوات واكتشاف الموجات التي لا يستطيع الإنسان سماعها، اي الموجات فوق الصوتية وتحت الصوتية [حيث أن الإنسان يسمع الأصوات بين الترددين 20 هرتز و 20.000 هرتز]. وهنالك أنواع مختلفة من الأصوات تكون باختلاف الكائن الذي يطلقها وقد يطلق كائن واحد عدة أنواع من الأصوات، كمثال على هذا فرس النهر الذي يطلق اصواتا تحت سطح الماء مختلفة عن الأصوات التي تكون خارج سطح الماء، والحوت الذي يصدر صوت يخاطب به رفيقة على بعد مئات الكيلو متر في المحيط.

وعليه، أصبح من الضروري إعادة النظر في كيفية نشوء اللغة، فقد ألقى هذا الاكتشاف الضوء على طريقة ظهور وتطور اللغة عند الإنسان.
الباحثين الذين تابعوا قطيعا من القرود لاحظوا كيف أن شمبانزي بدأ بالصراخ بصوت عالي وواضح عندما عثر على شجرة تحمل ثمار ناضجة, وعلى الفور أتى الجواب من بقية أفراد القطيع من زاوية أخرى من الغابة. وبعد دقائق بدأ أفراد القطيع بالتوافد إلى الشجرة المعنية بالذات.

كان الاعتقاد السائد هو أن هذه الأصوات ليست سوى تعبير عن الفرحة بالعثور على الطعام، غير إن البحث الذي قامت به جامعة اندريوس الاسكوتلاندية بواسطة الباحث كلاوس يؤكد أن الصوت الصادر من الشمبانزي والذي أطلق عليه  “rough grunts” يستطيع إرسال رسالة تشرح مستوى نضج هذه الفاكهة. وكانت هذه الدراسة على مجموعة من قردة الشمبانزي في محمية طبيعية شمال أوغندا.

وبواسطة صوت “rough grunts” الصادر من احد القردة، يستطيع بقية القطيع المنتشرين في أطراف المحمية أن يعرفوا ما إذا كان رفيقهم قد عثر على فاكهة تستحق ترك ما لديهم من انشغالات أو لا.

أعضاء فريق البحث تمكنوا من البرهنة على أن إناث الشمبانزي تقوم أحيانا بقتل أطفال إناث أخريات من اللواتي هاجرن إلى القطيع حديثا، مما يجعلهن قابلات للتلقيح من جديد. غير أن هؤلاء المهاجرات بالذات يتفادون أطلاق أصوات الحب عندما يكن أثناء الممارسة، بالرغم من أنها أصوات شائعة للغاية عند بقية الإناث، وهن يتفادين أطلاقها على الأغلب من اجل عدم استفزاز إناث القطيع الأصليات. هذه الحالة أيضاً تشير إلى قدرة الشمبانزي على التحكم بأصواته التي تحمل المعلومات حسب الوضع الاجتماعي الخاص.

في دماغ الإنسان نجد إن المنطقة المسماة Broca, هي المسؤولة عن التحكم بإنتاج الأصوات، في حين نرى أن عند القرود تكون المنطقة نفسها مسؤولة عن حركة الأيدي. لهذا السبب يعتقد العلماء أن لغة الإنسان تطورت عن الإشارات.

وفي دراسة قام بها العالمان فرانس دي ويل وأموي بوليك على مجموعتين من قردة محجوزة في أقفاص حديقة الحيوانات من نوع الشمبانزي القزم ومجموعتين من الشمبانزي العادي حيث تمكنا من تسجيل 31 أشارة و 18 صوت أو تعبير فموي، وكانت الإشارة داخل المجموعة اقل ارتباطاً بحالات معينة على عكس الأصوات.

العالم Simone Pika, سجل في ملاحظاته قدرة الشمبانزي البري أيضاً على استخدام الإشارات في التواصل اللغوي. فعندما يقوم أعضاء قطيع الشمبانزي البري بتنظيف شعر بعضهم البعض يشيرون إلى الأماكن التي يجب التركيز عليها. وهذا يدل على وجود توأصل عن طريق الأصوات وان هذه الأصوات لا تخرج اعتباطاً كما كان يعتقد سابقاً.

وتدل الدراسات على أن “اللغة الأولية” قد تطورت لدى ثلاث مجموعات تطورية من الكائنات وهي: الطيور والثدييات البحرية (الدلافين وأسود البحر) والقردة العليا.

طفرة في جين اللغة

قد يخطر ببالنا السؤال التالي: لماذا نحن نتكلم بينما الشمبانزي اقرب الأسلاف ألينا لا يتكلم؟ اكتشف العلماء مؤخرا جينا يعمل بشكل مختلف في كل من الإنسان والشمبانزي وهذا الجين هو ” FOXP2″ وقال البروفيسور دانييل غيتشوند الأستاذ في علم الأعصاب والوراثة البشرية بجامعة كاليفورنيا والمسؤول عن الدراسة، بأن هذا الجين يلعب دوراً كبيراً في تحديد الاختلافات بين البشر والشمبانزي وأضاف قائلا: بمجرد أن تقوم بتطفير هذا الجين في البشر سَيَنتُج اضطراب وعدم انتظام في اللغة والنطق نتيجة ذلك.

حيث أظهرت الفحوصات المختبرية بأن النسخة البشرية لجين ” FOXP2″ نظمت أكثر من 100 جين بشكل مختلف عن النسخة الموجودة لدى الشمبانزي، لقد تطفر هذا الجين خلال المدة التي طور البشر فيها القدرة على النطق والكلام.

وقالت الأستاذة ” Frances Vargha-Khadem” العميد في كلية علم الأعصاب الإدراكية التطورية في جامعة لندن بأن الدراسة تتطابق جداً مع ما كان متوقع سابقاً. وتختص البروفيسور فرانسيس بدراسة الطفرات الجينية الموروثة في جينات بعض الأشخاص ومشاكل اللغة والنطق لديهم مؤكدة بان بعض الأشخاص ممن لديهم طفرات معينة بهذا الشأن يعانون من فروق جسدية كبيرة في الجزء السفلي للفك واللسان والجزء العلوي من الفم كما توقعتها لدى الشمبانزي أيضاً.

والعمل على هذا الجين يقودنا لعلاج الكثير من الأمراض وخصوصا مرض التوحد وعلاج الأشخاص الذين يعانون من صعوبة في الكلام.

رابط الجزء الثاني

كتب المقال بالاعتماد على:

  1. كتاب: الغريزة اللغوية: كيف يبدع العقل اللغة ـ ستيفن بنكر.
  2. مقال: اللغة من منظور علم النفس التطوري.
  3. مقال: قراءة في كتاب علم النفس التطوري لديفيد باس ـ حيان الخياط.
  4. مقال: الإنسان واللغة والتطور: فرضيات ونظريات حديثة.
  5. كتاب: تطور الثقافة ـ مجموعة مؤلفين، ترجمة: شوقي جلال.