قبل قراءة المقال اضواء تطور اللغة لدى الانسان اصل ووظيفة وغريزة اللغة ندعوكم لقراءة الجزء الاول برابطه: رابط الجزء الاول
أصل اللغة في علم النفس التطوري
هنالك انقسام في تفسير أصل اللغة عند العلماء، تشومسكي وجاي غولد يرجحان أن اللغة مجرد ناتج ثانوي للتطور أو أثر جانبي لحجم وتعقيد الدماغ البشري الحالي، ويضربون مثلا لتقريب الفكرة وهو: أن الحرارة ناتج ثانوي عند تشغيل المصباح، فنحن لا نستطيع أن نصنع مصباحاً ينتج الضوء فقط.
لكن هذا الرأي ينطبق على المصباح لان قوانين الفيزياء واضحة بهذا الشأن، واللغة أكثر تعقيد وتحتاج إلى تفسير القوانين الفيزيائية الخاصة بالتقارب الشديد لرزمة الأعصاب المضغوطة التي أتاحت بروز اللغة. يبدو أن تشومسكي وزملاءه قد لطفوا موقفهم مؤخراً هذا كي يتيحوا مجالاً لإمكانية أن تكون اللغة تكيفاً متطوراً، حيث اقترحوا أن اللغة البشرية يمكن أن تكون قد تم توجيهها بفعل ضغوط انتقائية خاصة، فريدة بماضينا التطوري، أو كأحد مفاعيل (منتج ثانوي) أنواع أخرى من التنظيم العصبي .
وعلى الطرف الأخر يقف عالم النفس التطوري ستيفن بنكر، الذي يرجح ان اللغة تكيف تطوري، أوجدها الانتقاء الطبيعي من أجل توصيل المعلومات. وهو يقدم العديد من الأدلة على ما يتبناه، مثل البنية العميقة لقواعد اللغة، فهذه البنية كونية عبر العالم وفي جميع اللغات، حيث تحتوي جميع اللغات على توزيع زمني للحدث، في الماضي، الحاضر والمستقبل، بالإضافة إلى الفئات المعجمية الكبرى مثل الأسماء، الآفعال، النعوت وحروف الجر. وعلاوة على كل هذا، فان تركيب المجرى الصوتي لدى البشر مصمم خصيصاً لإصدار العديد من الأصوات التي تحتاجها اللغة، وكذلك ارتباط اللغة بمناطق نوعية في الدماغ وهما منطقتا (فيرنيك وبروكا) حيث يؤدي الأذى اللاحق بهذه المناطق إلى إعاقة اللغة المحكمة، والمجرى الصوتي للإنسان متكيف لإصدار العديد من الأصوات على العكس من الرئيسات الأخرى، كما أن الجهاز السمعي يعتبر مكمل للجهاز الصوتي الذي يعمل على فك شفرة الأصوات التي يصدرها البشر لتصبح مفهومة لديه.
وكما يقترح بينكر وما توضحه كل هذه الأمور إن اللغة ما هي ألا تكيف تماماً مثل مجسات الاستشعار لدى الحشرات والموجات الصوتية التي يصدرها الخفاش لتحديد المكان وغيرها.
وظيفة اللغة تطورياً
أهم وظائف اللغة هي التواصل فهو الهدف الرئيسي للغة، وهنالك أنواع من المهمات تتطلب التواصل كنقل المعلومات عن الخطر المحدق بالمجموعة وتقديم معلومة مفيدة عن مكان الفاكهة الناضجة وفي حالة الصيد تكون فائدة التواصل لتنسيق المهمات وتوزيعها على المجموعة، وكذلك نقل الخبرة عن صنع الأدوات وإشعال النار وكيفية بناء البيوت في بداية اعتماد الإنسان على بيوت ثابتة والاستقرار.
وتوجد ثلاث نظريات تحاول تفسير وظيفة اللغة تطورياً تركز كل منها على الوظيفة الاجتماعية:
- فرضية الأقاويل الاجتماعية (دونبار، 1996): تطورت اللغة تبعاً لهذه الفرضية، من خلال الأقاويل بمعناها الأوسع، أي تبادل المعلومات حول من هو الفاعل، وماذا ولمن؟
تطورت اللغة تبعاً لهذه الفرضية، لتيسير التلاحم بين مجموعات كبيرة من البشر، يجادل عالم التطور روبن دونبار بأن اللغة قد تطورت كي ترتب الشبكات المعقدة من ائتمانه على سر؟ من يمكن أن يكون صديقا جيدا أو شريكاً في ائتلاف؟ أي التحالفات تبدي علامات على التمزق؟ ومن يتمتع بسمعة القيام بأي عمل اتجاه من؟ يجادل دونبار بأن اللغة هي شكل من أشكال (التهيئة الاجتماعية) وحيث إن حجم الجماعة قد ازداد فلقد أصبح من المستحيل مادياً تكريس الوقت الضروري لرعاية حلفاء المرء ماديّاً والعناية بهم، كما يقوم الشمبانزي بذلك. وعليه تطورت اللغة لتعزيز التماسك الاجتماعي ضمن الجماعات الكبيرة من خلال الأقاويل بمعناها الأوسع. - فرضية العقد الاجتماعي (ديباكون، 1997): وتفسر هذه النظرية أصل اللغة وترجعها إلى حل مشكلة الخيانة الزوجية أو التعرض للاستغلال عند الذهاب إلى الصيد فقد تطول فترة الصيد كثيرا، ولهذا تطورت اللغة لإنشاء عقود زواج العلنية، حيث أمكن للرجال والنساء التعهد علناً بالتزاماتهم التي تقر بالعقود، معلنين لبعضهم البعض ولكل الأطراف الأخرى في الجماعة بأنهم ينفردون بالاقتران دون الغير.
وتجابه هذه النظرية تحديا كبيرا، وذلك لعدم تفسيرها تشكل المجتمعات بالأساس، كما تفشل في تفسير سبب فشل الزواج. - فرضية شهرزاد على غرار البطلة الرئيسية في ألف ليلة وليلة (مليلر، 2000): أمتعت شهرزاد الملك، كي تتجنب التعرض للقتل بقصص مسلية بحيث يقرر كل صباح عدم قتلها، تتمثل الحجة هنا في أن الدماغ البشري الكبير هو أساساً أشبه ما يكون بذيل طاووس ـ أي عضو جنسي منتقى تطوريا للتدليل على اللياقة الأعلى للأقران الممكنين ـ فمن خلال إبهار الأقران الممكنين من خلال الفكاهة، النكتة، والقصص الغريبة وسحر الكلمة، يحوز أولئك الذين يتمتعون بمهارات لغوية أعلى على أفضلية في الاقتران على منافسيهم المتلعثمين، القاصرين عن التعبير. وكما أشار بنكر وبلوم (1990) كون زعماء القبائل هم غالباً متحدثين موهوبين وجد مزواجين لهو حافز رائع لأي خيال لا يستطيع أن يتصور كيف أن المهارات اللغوية كان بإمكانها تحقيق فارق دارويني. تصادف فرضية الانتقاء الجنسي حول أصل اللغة عدداً من المشكلات، حيث تبدي التكيفات المنتقاة جنسيّاً نموذجيّاً فروقاً جنسية ملفتة، فلدى الرجال والنساء قدرات لغوية متساوية تقريباً. تبرز التكيفات المنتقاة جنسيّاً نموذجيّاً عند البلوغ أي حين يدخل الآفراد في تنافس على الاقتران، بينما تبرز اللغة في مرحلة مبكرة من الحياة، حيث تبلغ درجة عالية من التطور في سن الثالثة.
ومن خلال تعدد الفرضيات التي حاولت تفسير أصل اللغة تطورياً، نلاحظ أن اللغة لم تكن حلا لمشكلة واحدة أو لجانب واحد بل لحل العديد من المشاكل التكيفية، أيا كان الدافع فان اللغة المستعملة كاملة ووافية لوصف ونقل وتوصيل المعلومات بين الآفراد.
مع أن الصيغ المبكرة شددت على التواصل أو تبادل المعلومات بمثابة الوظيفة التطورية للغة، فإنه من المرجح أن اللغة أحرزت المزيد من التطور لاحقاً، وقد فاقت ما كان مخطط لها تطوريا لتدخل في التسلية ومثال ذلك الشعر والغناء.
غريزة اللغة
اللغة من العجائب التي زودتنا بها الطبيعة، حيث مكنتنا من نقل المعلومات إلى عقول المتلقين، وكذلك بإمكاننا أن نتحكم في تكوين الآفكار وبدرجة غاية في الدقة في عقول الآخرين، وهذه القدرة توجد عند كل من يستطيع النطق، فبمجرد ان يصدر الصوت من فم الإنسان سوف تتشكل أفكار جديدة ودقيقة في رؤوس الآخرين، ونحن لا ننتبه إلى هذه المقدرة لكونها اصبحت من البديهيات في حياتنا اليومية. فحين يتكلم شخص ما عن حادثة ويقوم بوصفها لك شفاهة سوف تتكون لديك صورة شبة دقيقة عن الحادثة، أما الكتابة فهي نتاج ثانوي للكلام الذي نتعلمه منذ الصغر، فالكتابة ليس لها الاثر الكبير بالنسبة لفاقد القدرة على الكلام.
فاللغة جزء مميز من ادمغتنا، ولا يمكن تعلمها كما نتعلم النحت وضبط الوقت وغيرها من المظاهر الثقافية، فاللغة غريزة تتطور لدى الطفل بشكل فوري ومباغت دون الحاجة إلى اي جهد أو تعليم محدد ويستعملها الإنسان من غير وعي، كما وقد وصفها بعض العلماء بأنها قدرة نفسية وعضو ذهني ونظام عصبي، ووصفها العالم ستيفن بينكر بـ “الغريزة” وأضاف أيضاً “ان الناس يعرفون كيف يتكلمون بالمعنى نفسه تقريبا الذي تعرف به العناكب كيف تنسج بيوتها، فنسج بيوت العناكب لم يخترعه عنكبوت عبقري، ولا يتوقف على الحصول على تعليم مناسب ولا امتلاك قدرة خاصة في الهندسة المعمارية أو مهنة النسج”.
قد يعتبر البعض أن اللغة هي امتياز خاص بالإنسان دون باقي الحيوانات، وان الإنسان مصطفى عن باقي الكائنات الحية، هنا نود أن نشير إلى أن بعض الكائنات تمتلك هي الأخرى قدرة خاصة على التواصل، وهذا الأمر في عالم الحيوان وحتى النبات ليس شيئاً غريباً، هنالك أمثلة يضعها بنكر في كتابة (غريزة اللغة) مثل “ومن ذلك بعض الخفافيش تتبع الحشرات الطائرة مستعملة قرون الاستشعار، وتقطع بعض الطيور المهاجرة الآف الأميال بتقدير مواقع النجوم في مقابل الوقت في اليوم والسنة”. ونحن بدورنا مزودين بوسيلة اتصال ببعضنا البعض باستعمال الأصوات التي نكونها أثناء الزفير، فاللغة تكيف تطوري لإيصال المعلومات، وواحدة من إبداعات الطبيعية، وكما يصفها داروين “ذلك العضو الذي يتميز بإحكام البنية والتأقلم اللذين يثيران الإعجاب بحق”.
الجدير بالذكر، إن للطفل ميل غريزي للتكلم وذلك من خلال الأصوات التي يصدرها وهي تبدأ على شكل ثرثرة بلا معنى، ولكن ليس لديه ميل لصنع الخبز أو عصر الفواكه أو الكتابة.
اختلاف اللغات
يمكن إرجاع الاختلاف في اللغة وتعليل هذا التنوع الكبير فيها ـ حيث تصل عدد اللغات إلى أكثر من أربع الآف لغة ـ استنادا إلى ثلاث عمليات تعمل عبر الزمن ولمدة زمنية طويلة، فالطفرة تمثل العملية الأولى وهي المسؤولة عن التنوع عند الأحياء والتجديد اللغوي، وتأتي الوراثة من بعدها فيتم نقل المعلومات الوراثية الجديدة من الأسلاف إلى الاخلاف التي تنحدر منها، فيكون توارث الصفات الجديدة والقدرة على التعلم، أما العملية الثالثة فهي الانعزال عن طريق الجغرافية أو موسم الولادة أو طريق التوالد أو الهجرة أو الحواجز الاجتماعية.
وبسبب الغريزة اللغوية فان التجديد اللغوي هو أكثر ما يثير الإعجاب، وذلك أن كل حلقة من سلسلة انتقال اللغة إنما هي الدماغ الأساس، فالدماغ مزود بنحو كلي يترقب على الدوام الكشف على القواعد مختلفة في أمثلة الكلام الذي ينتج في مجتمع معين أو محيط معين. وبسبب عدم الفهم الذي يصيب الإنسان عند سماعه بعض الكلمات الغريبة، يقوم الإنسان بتأويلها، فأكثر الكلمات التي نستعملها اليوم هي نتاج لتأويل وإعادة خلط للمصطلحات الأجنبية، مثل كلمة (orange) أي (برتقال) فقد كانت بالأصل (norange) وهي مأخوذة من اللغة الاسبانية (naranje). ويمكن إرجاع العديد من الكلمات إلى أصلها التركي أو الفارسي أو الفرنسي أو العبري أو اللاتيني وغيرها من اللغات التي دمجت عبر فترات طويلة من الزمن.
الانفصال بين الجماعات المتكلمة بلغة واحدة يؤدي إلى افتراق اللغة وهو ما يؤدي إلى شيوع تجديدات ناجحة في اللغة الأم، ثم تتراكم اللغات كل على حده في مجموعات مختلفة. وعلى الرغم من التغيير الذي يحصل في اللغة الواحدة دون ان تفترق أو تغير المجموعة من مكانها، فان التجديد اللغوي وتجديد التعبيرات يكون بسيطا ومحدودا، فتتجه الغالبية العظمى إلى المحافظة على نفس الأصوات والنحو ويمكن أن تحافظ عليها الآف السنين، وهنالك الكثير من الأمثلة يذكرها بينكر في كتابه (غريزة اللغة).
اللغة …. صفتنا الفريدة بجانب العقل
لنأخذ تفسير دارون لتطور العين، فهو التفسير الأكثر أقناعا لأنه يشمل جميع الكائنات من الثدييات والرخويات وغيرها، فهي أنواع مختلفة جدا لكنها متقاربة كثيراً من حيث النتائج.
ولنأخذ مبدأ الجاذبية أيضاً، فهو مبدأ عام لتفسير سقوط كل الأشياء وبيان علة اتجاها إلى الأرض، لكن محاولة تفسير سبب ارتداد بعض الأجسام مسافة اكبر هو تفسير خاص واقل عمومية من الجاذبية.
وعليه، تواجه البحوث البيولوجية القائمة على تفسير اللغة صعوبة تتمثل في ان الشروط والعوامل الأولية التي هيأت لتكيف اللغة تكون خاصة بالإنسان دون غيره، وكيف أن التفسير ينتقل من العام لدى جميع الكائنات إلى الخاص لدى كائن واحد وظرف استثنائي خاص بالنوع والذي وقع مرة واحد ولم يتكرر في التاريخ.
لكن يبقى للتكيف الدور الأكبر لظهور اللغة ومن ضمن إطار التكيف يكون الضغط الانتخابي على الأفراد والجماعات، وذلك لكي يكونوا أفضل وأكثر تكيفا مع بيئتهم، وهذا الأمر كان له دور مهم في تطور ملكة اللغة، تماماً مثل الجاذبية التي تؤثر على مجموعة الأجسام الساقطة. فيما يتعلق بالظرف الخاص الذي أوجد الفرق بين ارتداد الأجسام بعد اصطدامها بالأرض [والذي مثلنا به الظرف الخاص الذي أدى إلى تطور اللغة] فقد تكون بعض الأجسام ذات مكون أو تركيب يسمح لها بالارتداد لمسافة اكبر مثل المادة المطاط أو تكوين الأرض التي اصطدمت بها الأجسام فقد تكون لينة تمتص الصدمة وقد تكون صلبة لا تمتص الصدمة فترتد الأجسام.
إذا عدنا إلى الماضي، حيث الأحداث المهمة والنقلات الرئيسية في تاريخ التطور، نجد انه لابد من وجود وقت ما تواجد فيه ظرف فريد من خلاله نستطيع أن نقترح آليات تفسير محكمة لأصل اللغة، وإلى أن تصبح كل مرحلة ممثلة ومعروضة على نطاق واسع، لا نستطيع سوى الاعتماد على ما نملكه من معطيات. أن الإنسان بهذه البنية المعقدة يكون صاحب ميزة خاصة هي التي تملك الفضل الأكبر، إضافة إلى التنظيمات والترتيبات الاجتماعية، ويمكن التأكيد على أن هذه الترتيبات والتنظيمات الاجتماعية تحقق له وخلال زمن وجيز صلة وثيقة مع بني جنسه وهذا غير موجود في الأنواع الأخرى، ولكن لكي نكون أكثر واقعية وبعيدا عن الاختزالية، نقول أن التفسير الأصح هو وجود مجموعة من الظروف والملابسات التي تجتمع لكي تكون صورة أكثر شمولا لتطور اللغة.
كتب المقال بالاعتماد على:
- كتاب: الغريزة اللغوية: كيف يبدع العقل اللغة ـ ستيفن بنكر.
- مقال: اللغة من منظور علم النفس التطوري.
- مقال: قراءة في كتاب علم النفس التطوري لديفيد باس ـ حيان الخياط.
- مقال: الإنسان واللغة والتطور: فرضيات ونظريات حديثة.
- كتاب: تطور الثقافة ـ مجموعة مؤلفين، ترجمة: شوقي جلال.