"هذا العمل يعطيني طبيعة ثنائية".

“هذا العمل يعطيني طبيعة ثنائية”.

عُرف الرسام البريطاني لويس واين louis wain بلوحاته التي تصور دائما قططا بشرية واسعة العيون تتميز بصفاتها البشرية. لويس واين هو الابن البكر لأب إنجليزي وأم فرنسية، ولد في لندن (الخامس من أغسطس 1860) بشفة مشقوقة –خلل خلقي cleft lip- ولم يرسل إلى المدرسة إلا في سن متأخرة. قضى معظم طفولته متهربا من المدرسة ومتجولا في شوارع لندن. درس الفن في مدرسة غرب لندن، ثم صار أستاذا فيها. في عمر مبكر (20 عاما) ترك التدريس ليهتم بأمه وأخواته الخمس بعد وفاة والدهفي 1884 تزوج من مربية أخته إميلي ريتشاردسون التي تكبره بعشر سنوات وانتقل معها إلى مدينة هامبستيد شمال لندن. لم يمض عامان حتى ماتت إميلي بسرطان الثدي [1]. أثناء مرضها، أحبت إميلي “بيتر”، وهو قط متشرد ملون بالأبيض والأسود أنقذاه ذات ليلة مطيرة. لشدة تعلق زوجته ببيتر، رسمه لويس في الكثير من اللوحات لتسليتها في أيامها الأخيرة.

l4

“احتفال بعيد ميلاد القطط”.

من الممكن ملاحظة وجود بيتر في لوحات لويس الأولى. في 1886 رسم لويس 150 قطا كان معظمهم يمثِّل بيتر تحت عنوان “احتفال بعيد ميلاد القطط”. القطط في هذه اللوحات كانوا غالبا يرسلون الدعوات، يحملون الكرات، يلعبون، يلقون الخطب… الجدير بالذكر أن لويس في هذا الوقت لم يزل يرسم القطط في هيئتها الطبيعية: تمشي على أربع، لا ترتدي ملابس ولا تحمل أية ملامح بشرية. فيما بعد صارت قطط لويس تمشي على رجلين، تبتسم، تظهر بعض التعبيرات الوجهيَّة، ترتدي ملابس أنيقة معاصرة، تعزف، تقدم الشاي وتستمتع بليلة في الأوبرا.

كان لويس واين رساما مكثارا، وفي بعض الأحيان كان ينجز مئات اللوحات في العام الواحد. رسم في حوالي مائة كتاب أطفال وظهرت لوحاته في المجلات والصحف. كتب مرة: “إنني أحمل دفتر الرسم إلى المطعم أو أي مكان عام وأرسم الناس في أوضاعهم المختلفة في أشكال قطط تحمل خصائصهم البشرية متى أمكن. هذا العمل يعطيني طبيعة ثنائية. وأظن أن هذه الدراسات من أفضل أعمالي الفكاهية”. دفععه تعلُّقه بالقطط إلى المساهمة في العديد من مؤسسات حماية الحيوان، منها: جمعية مناهضة تشريح الحيوانات. وكان رئيسا لنادٍ خاص بالقطط [2].

اضطر لويس للسفر إلى نيويورك في 1907 بسبب أزمة مالية، لكنه عاد بلا شيء. بعد عودته توفيت والدته فبدأ يواجه المشكلات النفسية يوما بعد يوم [3]. صار شكاكا وعنيفا أحيانا وأصبح كلامه غير متماسك [4]. وفي 1924 لم تطق أخواته الخمس سلوكاته المضطربة والعنيفة، فأدخل مصحّة سبرينغفيلد للأمراض العقلية في حي صغير شمال لندن يدعى توتينغ. ذاع صيته هناك، الأمر الذي جذب إليه شخصيات شهيرة مثل الكاتب الإنجليزي هربرت جورج ويلز الذي قال عنه: “لقد جعل القطط عالمه الخاص. لقد أبدع شكلا جديدا، مجتمعا،عالما كاملا للقطط. إن القطط الإنجليزية التي لا تبدو أو تعيش كقطط لويس واين تخجل من نفسها!”. تنقّل بعدها بين المصحات العقلية حتى استقر بعد تدخل بعض المشاهير ومنهم رئيس الوزراء رامزي ماكدونالد عام 1930 في مستشفى نابسبيري في هارتفوردشير. كان هذا المستشفى جميلا بالنسبة له لوجود حديقة فيه ومجموعة من القطط، وقد قضى آخر 15 سنة من حياته هناك. في هذه الفترة تميزت لوحاته بالألوان الفاتحة جدا، الزهور والأنماط التجريدية المعقدة، وبرغم هذه التغيرات بقيت القطط هوسه المفضل [2].

يجادل الطبيب النفسي الإيرلندي ريتشارد فيتزجيرالد في تشخيص لويس واين بالفصام مشيرا إلى أنه بينما أصبح تجريديا في أعماله كلما تقدم في السن إلا أن مهارته في الرسم لم تضعف كما يُتوقع من مصاب بالفصام. إضافة إلى هذا، قد وُجدت في أعماله إشارات إلى إصابته بالعمى الإبصاري visual agnosia  (خلل في ملاحظة الأشياء البصرية برغم سلامة حاسة الإبصار) الذي يجعل تشخيصه باضطراب طيف التوحد (متلازمة أسبرجر) أكثر مقبولية [2].

في مقالة له، يقول عالم الأحياء التطوري Joseph Milton: “برغم ظهور أعمال لويس في العديد من كتب علم النفس في فصول الفُصام، ليس من الواضح أنه عانى من هذا المرض بالتحديد”. ثم يقول معلقا على تشخيصه بمتلازمة أسبرجر: “وقد لا يكون هذا الاقتراح صحيحا، أحد أعراض متلازمة أسبرجر فقدُ التناسق الجسدي” [3].

رتَّب د. والتر ماكلي ود. إريك غوتمان بعض اللوحات تعرف بالقطط المِشكالية Kaleidoscopic Cats معتقدين بأن أعماله مثلت تدهور حالته العقلية حتى الإصابة بالفصام. لكن لويس لم يكن يؤرخ لوحاته، وهذا صعَّب على متتبعي تاريخه المرضي أن يجزموا. حاول البعض أن يجتاز هذه العقبة بافتراض أن أعراض الذهان psychosis ليست موجودة في لوحاته فحسب، بل في كتاباته الأولى التي كتبها قبل السفر إلى نيويورك [3].

الفصام هو اضطراب نفسي خطير يشوه الطريقة التي يفكر بها الشخص ويعمل ويعبر عن مشاعره ويفهم الواقع ويرتبط بالآخرين [4]. وهو ليس مرضا نادرا، في المملكة العربية السعودية (2012) شُخص 13% من مراجعي العيادات النفسية الخارجية بالفصام، و50% من مراجعي العيادات الداخلية [5]. من الظريف أن هناك دراسات تربط بين حب القطط والفصام. هناك طفيل يدعى Toxoplasma Gondii يعيش في القطط ويتكاثر فيها. عندما يدخل المخلوقات الأخرى ومنها الإنسان يغير سلوكها تجاه القطط، فتصبح أكثر حبا وإلفا لها (اقرأ عن cat lady). هناك 19 دراسة لأجسام T. gondii المضادة في مرضى الفصام والأمراض الذهانية الشديدة الأخرى. 18 دراسة منها ذكرت وجود نسبة عالية من الأجسام المضادة في المرضى. في 11 دراسة كان الفرق جديرا بالاهتمام بين نسبة الأجسام المضادة في الأشخاص المصابين وغير المصابين. دراستان أخريان وجدتا أن الاتصال بالقطط في الطفولة يُعد عامل خطر للإصابة بالفصام. أيضا، بعض علاجات الفصام تثبط تكاثر هذا الطفيل [7].

"... معتقدين بأن أعماله مثلت تدهور حالته العقلية حتى الإصابة بالفصام".

“… معتقدين بأن أعماله مثلت تدهور حالته العقلية حتى الإصابة بالفصام”.

مع أن العامل الجيني في الفصام لم يزل غير مفهوم تماما، وجدت بعض الدراسات أن بين 76 جينا متعلقا بالفصام 28 بدت كأنها بقيت لأن الانتخاب الطبيعي فضَّلها. فهي أقل تقلُّبا جينيا genetic variance وأبعد من أن تكون خُلطت عشوائيا أثناء التكاثر الجنسي. فلماذا لم يهاجم التطور مرضا مؤذيا كالفصام؟ لم يزل السبب غامضا. هناك دراسات نفسية تقترح اقتراحا: قد يكون الأشخاص المصابين بهذا الاضطراب أكثر إبداعا وخيالا من غيرهم، وهذا قد يكون سهل لهم حل بعض المشكلات التطورية. لكن هذا قد يكون تفسير متسرعا، فالعلاقة بين الفصام والإبداع ليست قوية (على الأقل حتى الآن) [8]. في ورقة علمية حديثة (2015) ذكر الدارسون أن انتشار الفصام (1% من البالغين حول العالم) وقابليته العالية للتوريث (70%) وغيابه في الأنواع الأخرى ترجح الفرضية القائلة بأن هذا الاضطراب قد يكون مرتبطا بالمسارات التطورية المتعلقة بالصفات الإنسانية كتطور اللغة واستهلاك العقل البشري العالي للطاقة. أيضا، قد يكون الانتخاب الطبيعي حافظ على الطفرات الجيدة للقدرات المعرفية عند البشر، برغم أن هذه الطفرات تزيد خطر الإصابة بالفصام [9].

أخيرا، تشخيص لويس واين بالفصام ليس مؤكدا. الكثير من الفنانين رسموا لوحات أو جاؤوا بأفكار قد تكون في لحظة ما غير واقعية بالنسبة لنا، لكن هذا لا يعني أنهم كانوا جميعا مصابين باضطراب نفسي. العلاقة المتبادلة بين العبقرية والجنون أو المرض النفسي شائعة منذ أفلاطون، لكنها شاعت أكثر في القرن التاسع عشر [10]. وأظن أنها استجابة معقولة في هذه الحالة، فالناس تصف العبقري بالمجنون أو الخارق في محاولة لإظهار إعجابها الشديد به والعجز عن محاكاته أو فهم عالمه الخاص.

مر لويس واين بمشكلات مبكرة مثل الخلل الخلقي الذي ولد به ودخوله المتأخر إلى المدرسة ثم نفوره منها. هذا بالإضافة إلى وجود تاريخ مرضي في العائلة فأخته الصغرى عانت من اضطرابات نفسية وُصفت آنذاك بالـ “جنون” وأدخلت مصحة نفسية. فقد الأب المبكر، ثم فقد الزوجة التي يبدو أنه أحبها إذ تزوجها برغم فارق السن الكبير بينهما، ثم فقد الأم في ظروف اقتصادية صعبة.. هذه الخسارات التي لاحقته طول حياته لا بد أن يكون لها تأثير في اضطرابه النفسي أيا كان.

وددت أن أمضي أعمق في التحليل النفسي لحالة هذا الفنان الاستثنائي، لكن افتقاري إلى المزيد من المعلومات عن حياته الشخصية وظروف مجتمعه وعلاقاته الاجتماعية يمنعني من الاستمرار.

من مدونة ظهر مكشوف.

المصادر:

[1] journals.cambridge.org/action/displayAbstract?fromPage=online&aid=9003024

[2] en.wikipedia.org/wiki/Louis_Wain

[3] nietzschegirardmimetism.com/louis-wain

[4] www.webmd.com/schizophrenia/guide/mental-health-schizophrenia

[5] www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3743653/pdf/ndt-9-1121.pdf

[6] blogs.scientificamerican.com/creatology/how-a-mental-disorder-opened-up-an-invisible-world-of-colour-and-pattern/

[7] wwwnc.cdc.gov/eid/article/9/11/03-0143_article

[8] www.nature.com/news/2007/070903/full/news070903-6.html

[9] motherboard.vice.com/read/why-natural-selection-hasnt-trashed-mental-illness

[10] www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC1282252