ارتبطت صور الخفاش في ذاكرتنا وثقافتنا الشعبية بالظلام، واستخدمت هذه الكلمة في الشعر العربي بصور شعرية مختلفة مرتبطة بالليل، والظلام فنجد الصورة التي يجسدها محي الدين ابن عربي في بعض الابيات:

وكنتُ كخـــــــفَّاشٍ أراد تمتعاً                 بشمسِ الضحى فانهدَّ من لمحة ِ الشمسِ
فلا ذاتهُ أبقى ولا أدركَ المنى                وغودر في الأمواتِ جســـماً بلا نفـــــس

او كما يقول أحمد شوقي بحوار الفراشة مع الخفاش وسؤالها عن الليل :
مَرَّت عَلى الخُفاشِ مَليكَةُ الفَراشِ
تَطيرُ بِالجُموعِ سَعياً إِلى الشُموعِ
فَعَطَفَت وَمالَت وَاِستَضحَكَت فَقالَت
أَزرَيتَ بِالغَرامِ يا عاشِقَ الظلامِ
صِف لي الصَديقَ الأَسوَدا الخامِلَ المُجَرَّدا
قالَ سَأَلتِ فيهِ أَصدَقَ واصِفيهِ
هُوَ الصَديقُ الوافي الكامِلُ الأَوصافِ
جِوارُهُ أَمانُ وَسِرُّهُ كِتمان

هذه الصورة عن الخفاش وحبه للظلام ، تزداد سوداوية مع ظهور كل وباء جديد، تربطه الاخبار بالخفاش كفايروس السارس، الايبولا واخرها فايروس كورونا، مما لا شك فيه أن الخفاش اضافة الى ركونه الى الظلام، فهو مستودع للعديد من الفايروسات التي نعرفها والتي لا زلنا لا نعرفها فما سر هذا الاستيطان ؟ طبعاً لا يمكن الجزم بالنفي أو التأكيد حول علاقة الكورونا مثلاً بالخفاش، لكن فايروسات تاجية كثيرة مستوطنة عند الخفاش فلا يمكن استبعاد اصله من الخفاش.

حساس أقل فعالية

هناك العديد من الفرضيات التي تم دراستها على مدى السنوات السابقة، لعل اقربها لتوضيح السبب كانت الدراسة المنشورة في دورية (Nature Microbiology) في العام 2019 بواسطة فريق بحثي سنغافوري.
ما وجدوه حينها أن الخفافيش تمتلك نسخة اضعف من حساس الالتهابات وهو البروتين المسمى (NLRP3) او كرايوبايرين الذي يساعد الثدييات لمقاومة العدوى عن طريق تحفيز الجهاز المناعي مقارنة بالإنسان.
حيث قام الباحثون حينها بمقارنة تأثير ثلاثة فايروسات على خلايا الانسان، الخفاش والخلايا المستخلصة من الفئران فوجدوا أن هذه الفايروسات لم تسهم بتفعيل البروتين الحساس للالتهابات بنفس الطريقة التي عملت هذه الفايروسات بها على تفعيل هذا البروتين لدى الانسان والفئران.
على المستوى الجزيئي وجد الباحثون أن الخطوة الاولى لصناعة هذا البروتين كانت أقل فعالية منها لدى الانسان والفئران.
مقارنة تسلسل الاحماض الامينية لدى انواع مختلفة من الخفافيش لهذا البروتين، تُظهر بشكل اوضح أن النسخة التي تمتلكها الخفافيش تمتلك تسلسل خاص يجعل هذا البروتين اقل فعالية بشكل يوضح لماذا تمتلك الخفافيش جهازاً مناعياً يستطيع التعايش مع العديد من الفايروسات.
على جانب اخر فهناك العديد من الدراسات التي تربط هذا البروتين الحساس للالتهابات بالأمراض المتعلقة بالشيخوخة لدى الانسان، لو اخذنا الفعالية الاقل لهذا الحساس لدى الخفافيش وعمرها الطويل بالمقارنة مع الثدييات بنفس الحجم، يفتح مجالاً بحثياً مهماً بمحاولة فهم أهمية دور الجهاز المناعي بأمراض الشيخوخة لدى الانسان، اضافة الى مكافحة الامراض المرتبطة بالعدوى عن طريق تثبيط هذا الحساس.

العزلة الخلوية تمنح الفايروسات الفرصة للاستيطان

رغم ضعف الحساسات الالتهابية لدى الخفافيش فأن احدث الدراسات أن الجهاز المناعي للخفاش يمتلك ميزة مهمة تفتقدها الاجهزة المناعية الاخرى كالجهاز المناعي للإنسان مثلا ، وتتلخص هذه الميزة أن الخفافيش تستطيع قياس كمية الفايروسات في الخلايا وتنظم الاستجابة المناعية بناءاً على الكمية، تكون الاستجابة المناعية عن طريق عزل الخلايا المصابة بكميات كبيرة من الفايروسات ، وترك الفايروس يستوطن بدون مقاومة، والاعتماد على العزل الخلوي لمنع انتقال الفايروس الى الخلايا الاخرى.
هذا الطريق يعطي الفرصة للخفافيش بالتعايش مع الفايروسات بأقل الخسائر، حيث يضحي الجهاز المناعي للخفاش ببعض الخلايا في سبيل حماية الخلايا الاخرى وكذلك تجنب المضاعفات المصاحبة لتفعيل الجهاز المناعي لمقاومة الالتهاب بشكل كامل.
بالتأكيد هذه الطريقة منحت بعض الفايروسات الفرصة لتطوير القابلية على الانتشار السريع والتضاعف بصورة أكبر قبل بدء الخفاش بعملية العزل الخلوي، وبهذه الطريقة تستطيع الاستيطان بأكثر عدد من الخلايا، ولكن رغم هذا فأن الجهاز المناعي للخفاش يستطيع التعايش مع هذه الحالة، لأجل منح الخفاش فرصة اكبر بالحياة، ومقاومة الظروف البيئية الصعبة التي يعيشها خلال دورة حياته. وتجدر الإشارة إلى أن معظم الأضرار التي تصيبنا من الفيروسات، لا تأتي من الفيروس نفسه، بل من الاستجابة المناعية لأجسامنا.
هذا النظام المعقد نوعاً ما في العزل الخلوي تفتقده الاجهزة المناعية لدى الانسان مثلاً، بالتالي عند انتقال الفايروسات الى جسم الانسان، فأن ما تعلمته من الانتشار السريع لدى الخفاش ستطبقه بحذافيره لدى الانسان، وبالتالي سيتضاعف الفايروس بصورة أكبر، ولأن جهازنا المناعي اقل عرضة لنوع كهذا، وهو يمتلك حساسات اكثر فعالية في الاستجابة فستظهر علينا الاعراض بصورة اكبر، وربما تؤدي الى مضاعفات خطيرة.

لعلنا ربحنا كما يقول ابن عربي الفرصة أن نتمتع بضوء النهار، ولكن هذه المتعة لها جانبها المظلم بحساسيتنا الاكثر نحو العدوى والالتهابات وما تسببه في تعجيل شيخوختنا، وما من كامل كما يقول ابن عربي:
ويدركُ منها في الكمالِ وجودُنا                    كما يدرك الخفاشُ منْ باهرِ الشمسِ

المصادر:

  1. Cara E Brook, Mike Boots, Kartik Chandran, Andrew P Dobson, Christian Drosten, Andrea L Graham, Bryan T Grenfell, Marcel A Müller, Melinda Ng, Lin-Fa Wang, Anieke van Leeuwen. Accelerated viral dynamics in bat cell lines, with implications for zoonotic emergence. eLife, 2020; 9 DOI: 7554/eLife.4840
  2. Matae Ahn, Danielle E. Anderson, Qian Zhang, Chee Wah Tan, Beng Lee Lim, Katarina Luko, Ming Wen, Wan Ni Chia, Shailendra Mani, Loo Chien Wang, Justin Han Jia Ng, Radoslaw M. Sobota, Charles-Antoine Dutertre, Florent Ginhoux, Zheng-Li Shi, Aaron T. Irving, Lin-Fa Wang. Dampened NLRP3-mediated inflammation in bats and implications for a special viral reservoir host. Nature Microbiology, 2019; DOI: 1038/s41564-019-0371-3