عمر المريواني. قراءة في كتاب البقاء للأشد مرضا من ترجمة رغد قاسم الكاتبة والمترجمة في العلوم الحقيقية وهو من تأليف شارون معلم (Sharon Moaelm) الطبيب الأمريكي الكندي المختص بالجينات العصبية والتمايز بين الجنسين والأمراض النادرة والتكنلوجيا الحيوية ومجالات متعددة، وجوناثان برينس.

اول مجال غير متوقع يطرحه الكتاب – وهذه هي خاصية الكتاب بالحديث عن بعض الامراض بشكل لا نتوقعه في زمن آخر – هو السكري من النوع الأول والذي قد لا يخطر لأحد أنه قد يكون نافعاً. يذكر الكتاب أن معظم مرضى السكري يتم تشخصيهم في الأشهر الباردة في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، أي يزداد العدد بين نوفمبر وفبراير. ثم يتكلم عن عامل التخثر الفايبرينوجين والذي يصل لذروته في الأشهر الباردة لدى البشر، ويذكر أيضاً دراسة حول قدامى المحاربين الامريكان الذين أصيبوا غالباً بالسكري من النوع الأول في الأشهر الباردة. وكذلك تزداد مقاومة الانسولين في الأشهر الباردة مما يعني ان النوع الثاني أيضاً تزداد الإصابة به في الأشهر الباردة وليس النوع الأول فحسب.

نظرية الكاتب حول السكري تتمحور حول قصة يطرحها عن الضفادع، أو نوع معين من الضفادع، الذي يقوم بطرح الماء وملأ جسمه بالسكر كستراتيجية لحماية نفسه من التجمد. وتكمن الفائدة هنا للبشر – لو صحت الفرضية – بأن للسكري دور لحماية بعض الأفراد في العصر الجليدي من التجمد. يقول الكاتب:

هل هي مصادفة أن أكثر الناس المصابين بالمرض الوراثي [يقصد السكري من النوع الأول] الذي يتميز بالضبط بالافراط بالتخلص من الماء وارتفاع مستوى السكر في الدم ينحدرون من الأماكن التي دمرها الظهور المفاجئ لعصر جليدي تقريبا قبل 13 الف سنة؟

قد يتساءل أحدهم كيف يمكن للسكري من النوع الأول أن يكون امتيازاً تطورياً، فنحن نتكلم هنا عن فترة قاسية جداً، حيث تعد الحياة لبضعة أشهر او عدة أسابيع امتيازاً. نحن لا نتكلم هنا عن معدل الوفيات أو متوسط عمر الوفاة الحالي. في العصور القديمة كان متوسط عمر الوفاة قد يصل إلى 30 سنة أو أقل حتى في العصر الجليدي. 

الأمر الثاني الذي يشير له الكتاب ليس مرضاً، لكنه مرتبط بالبيئة أيضاً، ويتحدث عن دراسة جمع فيها عالمان معلومات لدراسة العلاقة بين لون البشر وأشعة الشمس في المنطقة. وتوصل الباحثان إلى أن أي مجموعة بشرية ستغير لونها حتماً خلال 1000 سنة من هجرتها إلى منطقة جديدة ذات معدل إشعاع شمسي يختلف عن المنطقة السابقة. وقد أنتج العالمان معادلة ثابتة لذلك. 

ثم يشرح حالة أخرى قد لم يسمع بها البعض لكننا على الأرجح مررنا بها وهي حالة العطاس بعد الخروج من منطقة مظلمة إلى أشعة الشمس. يشرح الكاتب أن ذلك قد يكون تكيفاً لدى أسلافنا للتخلص من الطفيليات في الأنف بعد التواجد في كهف مظلم لفترة ما عبر العطاس. 

الصفة الأخرى التي يتحدث عنها هي الشعر الكثيف كاستراتيجية للحماية من الملاريا وتشيع هذه الصفة في شرق حوض البحر المتوسط. والتي يقابلها في الأفارقة الذين لا يمتلكون هذه الصفة، صفة أخرى وهي فقر الدم المنجلي والذي يوفر بعض الحماية من الملاريا. 

يذكر الكتاب أيضاً حالة أخرى مؤسفة وتتعلق بجانب مظلم من تاريخ البشر حول العبودية، لاسيما العبودية في الولايات المتحدة لآخر 500 سنة. يعاني الأمريكيون الأفارقة من معدل أعلى للإصابة بارتفاع ضغط الدم بالمقارنة مع أقرانهم في أفريقيا مما لا يوجد سبب واضح لتفسير وجود هذا المرض لديهم. السبب قد يكون مرتبط بقلة الطعام والماء في سفن نقل العبيد والتي قد تجعل الميل للإحتفاظ بمعدلات عالية من الملح صفة تساعد على الحياة في تلك السفن. إذا كان هذا صحيحاً فإن تجارة الرقيق قد تكون أنتجت انتقاءاً لهذه الصفة مما يترك الأمريكيين الافارقة تحت خطر أعلى للإصابة بارتفاع ضغط الدم حين تناول الحمية الحديثة الغنية بالملح. 

الصفة الأخرى التي يذكرها الكتاب هي سرعة استقلاب الأدوية التي قد تكون موجودة في البيئات عالية السمية للتخلص من السموم والتي ترتبط بتواجد نسخ جين معين. يمتاز الاثيوبيون مثلاً بامتلاك نسبة أعلى بكثير مما يمتلكه الأوروبيون من تواجد نسخ ذلك الجين. بالطبع قد يؤدي الأيض السريع لبعض المخاطر حين أخذ بعض الأدوية احياناً مثلا قد يتحول الكودين بمعدل أعلى إلى المورفين لديهم.

يتكلم الكتاب أيضاً عن أمر مثير للاهتمام في العلاقة بين النباتات ومفترساتها من الحيوانات. تزيد نسبة الاستروجين النباتي في بعض النباتات في الأوضاع البيئية الصعبة التي يمر بها النبات لحماية نفسه من المفترسات كالخراف عبر التسبب لها بالعقم. ويذكر الكاتب أزمة عقم مرت بها الخراف في استراليا حين تناولت البرسيم الأوروبي الذي عانى من صعوبات في المناخ الأسترالي بالمقارنة مع بيئته الأصلية، وبالتالي فقد تسبب بالعقم لدى الخراف. 

بذات الهيئة تتسبب النباتات بالكثير من حالات التسمم للبشر وتتسبب تلك السموم بالكثير من أنواع السرطان نتيجة لتلك السموم. ويطور البشر آليات لتحسس تلك السموم، وينتقل الكاتب هنا الى قدرات التذوق الخارق للبشر، حيث يستطيع ربع البشر تذوق المرارة بشكل دقيق جداً من مادة تسمى بروبيثايروسيل يمكن بواسطتها معرفة أولئك المتذوقين الخارقين. تعد تلك الصفة، مؤشراً على القدرة العالية على تحسس السموم. 

المقوسات الغوندية تمتلك أيضاً علاقة معقدة مع الكائنات الحية لاسيما مع القطط والبشر والفئران. تتسبب المقوسات الغوندية للفئران بحالة تشبه الفصام تؤدي بهم إلى الانجذاب للقطط وبذلك يضمن الطفيلي استمرار دورة حياته بين مضيفيه القط والفأر. وإذا صح أن تلك الحالة يمكن أن تؤثر على البشر فإن ذلك يشرح القصة التقليدية حول “سيدة القطط المجنونة” والتي تصف امرأة لا يعتقد الناس أنها بكامل قواها العقلية وهي تربي الكثير من القطط. وقد يفتح ذلك ايضاً الآفاق لمعالجة الفصام بأدوية معالجة المقوسات. 

الميتوكوندريا ووجودها في البشر قد تكون أيضاً عبارة عن حالة أصابت الكائنات الحية سابقاً لتؤدي لفائدة متبادلة بين البكتيريا التي اندمجت في الخلايا لتمثل الميتوكوندريا اليوم – والتي يعتقد أنها كانت كائن منفصل – مع الكائنات الحية في حينها. 

اقرأ: أمراض الميتوكوندريا.. العالم المنسي

اقرأ أيضاً: رحلة في أبحاث نسخ الحمض النووي للميتوكوندريا مع الباحث علي البهادلي 

لا يقتصر الكتاب على المفاهيم الجينية التقليدية بل يتكلم عن الحالات ذات الصلة بالتخلق، ما فوق الجينات، ويشرح حالات تأثر الجنين في الفئران ومستقبل الجنين بتغذية الأم والتي وجد أن لها ذات الأثر في الخراف. كما يشرح الكتاب كيف يؤثر تأثير الأب أو الأم أو حتى الجدة على الأطفال ومستقبلهم من قبيل إصابتهم بالسمنة أو الربو. يبعث التدخين إشارة جينية إلى سوء البيئة  مخاطرها مما يعطي ايعازاً بحفظ المزيد من الدهون وبنمط تغذية مقتصد عبر التغير الجيني الحاصل بسبب التغذية أو التدخين. ويشرح الكتاب أيضاً عن المجاعة الهولندية التي تطرقنا لها في مقال السكري من النوع الثاني: امتياز تطوري أم لعنة للحياة الحديثة.

المقوسات الغوندية هي ما ذكرناه

اقرأ:

التخلق، ما فوق الجينات

السكري من النوع الثاني: امتياز تطوري أم لعنة للحياة الحديثة

رابط الاستماع على موقع العلوم الحقيقية (لمراجعة الروابط أيضاً): https://real-sciences.com/?p=29966

رابط الكتاب على موقع Good reads

رابط الكتاب على امزون

رابط الكتاب على نيل وفرات

روابط الاستماع:

سبوتيفاي

جوجل بودكاست

يوتيوب