———————–
بقلم: سام هاريس
ترجمة: أحمد الوائلي
تصميم بوستر: بهاء محمد…
مراجعة قارئ متتبع
———————————

إجابةً على سؤال جون بروكمان:

يتقدم العلم عبر اكتشاف أشياء جديدة وتطوير أفكار جديدة. وقلة من الأفكار الجديدة تتطور دون التخلي عن القديمة. وكما أشار الفيزيائي النظري ماكس بلانك: “لا تنتصر الحقيقة العلمية الجديدة عبر إقناع خصومها وجعلهم يرون النور، بل لأن خصومها يموتون في النهاية، وينشأ الجيل الجديد معتاداً لها”. بعبارة أخرى، فالعلم يتقدم عبر سلسلة من الجنائر. لماذا ننتظر كل هذا الوقت؟

أي فكرة علمية هي اليوم على وشك التقاعد؟

الأفكار تتغير، والعصر الذي نعيش فيه يتغير. ربما كان أكبر تغيّر اليوم هو معدل التغير. أي فكرة علمية ثابتة هي على استعداد للتنحي كي يتقدم العِلم؟

—-

فتّش في عقلك، أو أنتبه إلى محادثاتك مع الآخرين، وستكتشف أنه ما من حدود حقيقية بين العلم والفلسفة—أو بين تلك المجالات وأي مجال آخر يحاول ان يقيم مزاعم صالحة عن العالم على أساس الأدلة والمنطق. حين تحقّق هذه المزاعم وأساليب التحقق منها التجربةَ أو الوصف الرياضي، فإنا نميل إلى القول أن اهتمامتنا “علمية”؛ وحين تتعلق بمسائل أكثر تجريداً، أو باتساق تفكيرنا نفسهُ، فغالباً ما نقول أننا “فلسفيون”؛ وحين نريد فقط أن تعرف كيف كان الناس يتصرفون في الماضي، نصف هذا الاهتمام بـ “التاريخي”؛ وحين يصبح التزام المرء بالأدلة والمنطق واطئا بشكل خطر، تحت وطأة الخوف، التفكير بالتمني، القبلية، أو النشوة، فإننا نصف ذلك بأنه “دينيّ”.

إن الحدود بين المجالات الفكرية الصحيحة لا يفرضها حاليا شيء أكثر من ميزانية ومعمارية الجامعات. هل كفن تورين عمل مزوّر من القرون الوسطى؟ هذا سؤال تاريخي، بالطبع، وكذلك آثاري، ولكن تقنيات التأريخ بالكربون المشعّ تجعل منه سؤالا كيمياويا وفيزياويا أيضاً. والتمييز الحقيقي الذي يجب أن نهتمّ به—ملاحظة ما لا قوام بدونه للموقف العلمي—هو ما بين المطالبة بالأسباب الجيدة لما يعتقد به المرء وكونه راضيا بأسباب رديئة.

يمكن للموقف العلمي أن يتعامل مع الموضع أياً كان. وفي الواقع، إذا كانت الأدلة جيدة على عصمة الكتاب المقدس وقيامة يسوع المسيح،فيمكنك ان تعتنق عقيدة الأصولية المسيحية *علمياً*. والمشكلة، بالطبع، هي أن الأدلة إما رديئة أو غير موجودة، وبالتالي سنقوم مُجبرين بالتفريق (عملياً، وليس مبدئياً أبداً) بين العلم والدين.

لقد أثمر التشويش حول هذه النقطة العديد من الأفكار الغريبة عن طبيعة المعرفة الإنسانية وحدود “العلم”. فالذين يخشون من توسع المواقف العلمية—وخصوصا الذين يصرون على الكرامة في الاعتقاد بأحد إلهة العصور الغابرة—غالبا ما يذكرون بعض الكلمات بشكل محطّ: كالمادّية، الداروينية الجديدة، والاختزالية، كما لو كان لبعض تلك المذاهب ترابط ضروري مع العلم نفسه.

هناك بالطبع أسباب وجيهة للعلماء لأن يكونوا ماديين، دارونيين مُجددين، أو اختزاليين. ومع ذلك، لا ينطوي العلم على أي من تلك الالتزامات، كما أنها لا تنطوي على غيرها. فإذا كانت هناك أدلة على الثنائية الديكارتية (النفوس غير المادية، التناسخ)، فيمكن للمرء أن يكون عالما دون أن يكون مادياً. وكما هو الحال، فالأدلة هنا رقيقة بشكل استثنائي، ولذلك جميع العلماء تقريبا ماديون من نوع ما. إذا كانت هناك أدلة ضد التطور عبر الانتقاء الطبيعي، فيمكن للمرء أن يكون مادياً وعلمياً من دون أن يكون داروينياً مُجدداً. ولكن كما هو الحال، فالإطار العام الذي قدمهُ داروين مثبت بنفس القدر الذي يثبت به أي شيء آخر في العلم. إذا كانت هناك أدلة على أن النظم المعقدة تنتج ظواهر لا يمكن فهمها بدلالة الأجزاء المكونة لها، فسيكون ممكناً أن تصير داروينيا مُجددا دون أن تكون اختزاليا. ولكل الأهداف العملية، أي حيث يجد معظم العلماء انفسهم، لأن كل فرع من فروع العلم التي تتجاوز الفيزياء يجب ان يلجأ إلى مفاهيم التي لا يمكن استيعابها بمجرد دلالة الجزيئات والحقول. لقد مرّ العديد منا بمجادلات “فلسفية” لأجل تفسير هذا المأزق التفسيري. هل حقيقة أننا لا نستطيع التنبؤ بسلوك الدجاج أو الديمقراطيات الوليدة على أساس ميكانيكا الكم، تعني أن هذه الظواهر ذات المستوى الأعلى هي شيء آخر عدا قوانين الفيزياء الكامنة وراءها؟ أود التصويت هنا بـ “لا”، ولكن هذا لا يعني أني أتصور عصراً نستخدم فيه أسماء وأفعال الفيزياء فقط لوصف العالم.

ولكن حتى لو اعتقد المرء أن العقل البشري هو نتاج فيزيائي بالكامل، فإن واقع الوعي لن يقلّ إدهاشاً، والفرق بين السعادة والمعاناة لن يقل أهمية. كما لن يقترح رأي كهذا أننا سنصل في أي وقت إلى بزوغ العقل من المادة بصورة مفهومة تماما؛ فالوعي قد يبدو دوما كأنه معجزة. في الأوساط الفلسفية، يعرف هذا باسم “المشكلة الصعبة للوعي”—فالبعض منا يتفق على وجود هذه المشكلة، خلافا لبعض آخر. ولو ثبت تصورياً أن الوعي غير قابل للاختزال، ليبقى أرضية غامضة لكل ما يمكننا تصورياً أن نجرّبه أو نقيّمه، فإن بقية النظرة العلمية تظل سليمة تماماً.

علاج كل هذا التشويش أمر بسيط: يجب علينا التخلي عن فكرة أن العلم مستقل عن سائر العقلانية البشرية. فحين تتمسك بأعلى معايير المنطق والأدلة، فأنت تفكر علمياً. وإذا لم تكن، فأنت غير علمي.