بالرغم من أن تقنية توقع الوجوه أظهرت وعودا إلا أنها لم تزل في مراحلها الأولى. غير ان استخدام هذه التقنية لم يعد خيالاً أو أمراً بعيداً عن الواقع.

 شرطة فلوريدا تبحث عن رجل استتر خلف الظلال لأكثر من سنتين أرعب الكثير من النساء، يختلس النظر عبر النوافذ وينزل في غرف النوم لمشاهدتهن أثناء النوم، ولمسَ شعر وأقدام عدة نساء، واعتدى على بعضهن جنسيا.

لقَّبته وسائل الإعلام بـ “الزاحف المتسلسل”، والشرطة يئسوا من إيجاده. في ايلول أطلقوا صورة تخطيطية لشخص لاتيني ذي شعر داكن وعيون سوداء وجلد ناعم وعظام خدود بارزة وذقن بارز، لكن الرسم التخطيطي لم يُرسم بواسطة فنان الشرطة بالاستناد إلى أقوال شهود العيان. وصرح كيلي دينهام ضابط شرطة في كورال جابلس، فلا :Coral Gables, Fla ” الزاحف يغطي وجهه في أي اعتداء ولم يراه أحد”؛ لذا وجب على الشرطة المحلية اتباع طرق ليست تقليدية، فقاموا بشراء آلة توليد صور كمبيوترية بناءً على معلومات الزاحف الوراثية DNA.

مقابل 4500 دولار أمريكي قامت شركة تدعى باربون نانولابس Parabon NanoLabs بتحليل DNA الذي خلَّفه الزاحف في مسارح الجريمة. التحليل ركز على الأدلة الوراثية المرتبطة بلون الشعر ولون العين وملامح الوجه والأصول الوراثية. ثم صنعت الشركة مزيجا رقميا من وجه الزاحف.

وقالت مديرة المعلومات الحيوية إيلن كريتاك بأن: “الصور التي ابتكرتها شركة باربون لم تعطِ صورة دقيقة للمشتبه به، ونحن نعمل مع الجهات القانونية لنعطيهم فكرة حول الشخص الذي يجب أن يبحثوا عنه أو من هم الأشخاص الواجب إقصاؤهم من القائمة”.

في السنوات القليلة المنصرمة غامر عدد من العلماء والشركات في العالم الجديد في تقنية توقعات المظاهر. إنه مكان ضبابي حيث جذور مظهر الشخص تختفي في كتب تراكيبهم الوراثية. حفر العلماء باحثين عن تلك الجذور بواسطة ربط ملامح الأشخاص المادية بعلامات صغيرة في حمضهم النووي. فإذا استطاع المحققون استخدام DNA لتوقع عمق الأنف، النطق أو حجم العين قد يستهلكون وقتا يسيرا في متابعة المجرمين.

قال أنصار هذه التقنية إن التكنولوجيا تستطيع فعل أشياء أكبر من مجرد توجيه المحققين إلى المتهمين، و تستطيع أن تساعد في نسبة الوجه إلى الأسلاف أو ربما إلى النيانيدرتال. بل إن بعضهم يتخيلون إمكانية إعطاء فكرة عن مظاهر أبنائهم الذين لم يولدوا بعد، رغم أن ذلك لم يزل مجرد حلم بعيد.

في الواقع، لم يزل التكهُّن بمظاهر الأشخاص من خلال حمضهم النووي DNA ضعيفا جدا. ملامح الوجه قد تٌشكل بواسطة مئات أو آلاف الجينات، لكل واحد منها تأثير طفيف. ومحاولات العلماء في هذا المجال مجرد بداية.

من السهل نسبيًّا إثبات لون الشعر والعين ولون الجلد وكذلك الخلفية العرقية. لكن الجذور الجينية لسمات أخرى مثل الطول وشكل الوجه مبعثرة في أنحاء DNA للأشخاص مثل  بذور الهدباء في الرياح. إنه من الصعب تعقب كل بقعة ناعمة. لهذا السبب يعتقد بعض الباحثين أن محاولات التوقع الحالية ليست مهيئة في الوقت الحالي.   

بعض المحاولات اعتمدت في الأغلب على المعلومات الجينية حول الجنس والأصول (فيما إذا كان الشخص رجلا ومن سلف أوربي، على سبيل المثال) لبناء صورة لوجه شخص ما حسب ما قال مانفايرد كايسر عالم جينات في المركز الطبي في جامعة إيراسموس في هولندا: “إنها ليست أكثر دقة من استعمال مخيلتنا!”.

توقع وجه ملك

حتى الأن، وجه أشهر ملك انكليزي لم يزل متروكا لمخيلات الفنانين. وهومعروف بعموده الفقري الملتوي وطرقه البغيضة، الملك ريتشارد الثالث الذي يحتمل أنه كان ذو شعر بني وعيون داكنة اللون او من المحتمل أنه كان ذو شعر خفيف وعيون زرقاء. فالصورة المرسومة له بعد وفاته متباينة لكن في وقتنا الحاضر أعطى الحمض النووي العلماء صورة أفضل.

في عام 2012، أكثر من 500 سنة بعد مصرع ريتشارد الثالث في المعركة، استخرج علماء الآثار الهيكل العظمي المصفر العائد للملك تحت موقف للسيارات في انكلترا. تحليل عدة من الأدلة الوراثية من الحمض النووي لعظامه القديمة عرض بيانات رصينة حول مظهر ريتشارد مؤخرا. كايسر وزملائه أعدوا تقريرا في السنة الماضية حول الأمر، وصرح كايسر بأنهم: “متأكدون تماماً من أنه ذو عيون زرقاء ومن المحتمل جدا أنه كان إما أشقر كطفل أو أشقر أو بنيا فاتحا كبالغ”.

عرف كايسر وزملائه إلامَ ينظرون؛ لأنهم وعلماء آخرون تعقبوا الجينات المسؤؤلة عن الشعر ولون العين. الباحثون في البداية وجب عليهم فحص كتب التراكيب الجينية لآلف من الأشخاص.

كتاب التركيب الجيني لكل شخص أو “الجينوم” فيه 3 مليارات من أزواج القواعد الكيميائية، وهي حروف الحمض النووي التي تشكل كل شيء من الجنس إلى لون الجلد. معظم هذه الحروف لا تختلف كثيرا من شخص إلى آخر. لكن العلماء يستطيعون استخدام التغيرات البسيطة في النص، الاختلاف في حرف واحد يدعى “النيوكليدات المفردة” للتنبؤ بالصفات الجسدية.

فريق كايسر على سبيل المثال يستطيع الاستدلال على لون عين الشخص بواسطة النظر إلى ستة أحرف فقط متناثرة على ستة جينات. ولاكتشاف لون الشعر، ركز الباحثون على 22 حرفا. للعيون الزرقاء أو البنية كانت توقعات الفريق دقيقة أكثر 90%. ونسبة الدقة للون الشعركانت جيدة أيضا حيث تراوحت من 80-90% مبينةً أن الشعر الأحمر هو الأسهل.  

استخدم الفريق نظاما يدعى HIrisPlex في DNA الخاص بعظام الملك ريتشارد. يستطيع الجهاز التقاط لون الشعر والعيون من الدم والسائل المنوي واللعاب حتى عندما يكون DNA في العينات قد تحطم. أعدَّ الباحثون تقريرا في العام الماضي في مجلة Forensic Science International: Genetics (المجلة العالمية لعلم الأدلة الجنائية والوراثية)، وهذه صفقة كبيرة لأن DNA في الطب الشرعي يمكن أن يكون في حالة سيئة. فعندما تبقى العينات لفترة طويلة في مسرح الجريمة يتحلل DNA إلى قطع ويصبح تحليله صعبا جدا.

بالإضافة إلى لون الشعر والعين الذي أصبح في متناول اليد، أضاف كايسر وفريقه حديثاً لون الجلد إلى نظامهم. أعد الفريق تقريرا في أيلول في الجمعية الدولية لعلم الوراثة الشرعي (International Society for Forensic Genetics) في اجتماعها في كاراكو في بولندا. النتائج الأولية اقترحت أن اختبار لون الجلد سيكون دقيقا كما هو الحال في اختبارات لون العين والشعر .

الأدلة حول الألوان جيدة للبدء بتخمين المظهر العام لكن أدوات التنبؤ ما زالت غير مصقولة بما يكفي. يصعب التنبؤ بألوان العين الأخرى عدا الأزرق والبني، والحمض النووي لايستطيع التمييز بين البالغين الشقر والبالغين البرونيه (الحنطي) الذي كانوا شُقرًا في الطفولة على سبيل المثال.

إنها عملية معقدة

إذا لم يكن هناك اعوجاج وانحناء في العمود الفقري، سيكون طول الملك ريتشارد حوالي خمسة أقدام وثمانية إنشات. حسب العلماء هذا الرقم من طول عظم الفخذ. استخدام الحمض النووي الخاص به محتمل أن يسهل عليهم الوصول إليه.

وصرح فيسجر: “قد يكون تخمينك صحيحا حول أي فرد لكنه قد يكون بعيدا باثنين أو ثلاثة إنشات”. عند تخمين الصفات من الحمض النووي الوراثي، عاملان رئيسان سيدخلان اللعبة: العامل الأول كم من الجينات أثرت في صفة معينة بالمقارنة مع التأثير البيئي (لبعض الصفات مثل وزن لجسم، تلعب البيئة دورا رئيسا). أما العامل الثاني فهو عدد الجينات المسؤولة. إذ هناك عدد كبير من الجينات تؤثر في شكل الأنف على سبيل المثال، ومن ثم كل مساهمة فردية للجين قد تكون صغيرة جدا ويصعب حسمها.

وصرَّح أيضا: “من الممكن أن يكون عدد الجينات المؤثرة في الطول كبيرا جدا قد يصل إلى الآلاف“. بذل العلماء للطول اكثر من أي صفة معقدة أخرى جهدا عظيما. السنة الماضية فيسجر وأكثر من 400 زميل سحبوا معا بيانات من 79 دراسة والتي فحصت الجينوم لأكثر من 250000  شخص. كشف التحليل عن قرابة 10000حرف DNA تعود للطول وهي ملتفة على جميع أنحاء الجينوم.

لكن حتى هذ المعلومات ليست كافية للباحثين ليثبتوا طول الشخص باستخدام DNA. وإذا لم يستطع العلماء التنبؤ بصفة مدروسة بشكل جيد كالطول لن يكون هناك أمل في الصفات الأخرى، وصفات كثيرة غامضة مثل حجم الفم أو المسافة بين العيون.

قال فيسجر: “خلال خمس إلى عشر سنوات مع المزيد من البيانات من المزيد من الناس، قد يكون أكثر العلماء قادرين على تحديد ما إذا كان الشخص أكثر طولا أو أقصر من المعدل. لكن الأن، التنبؤ بالطول بواسطة DNA ليس جيدا كفاية ليكون مفيدا بشكل معين، وتخميني أنه قد يكون أسوأ فيما يتعلق بملامح الوجه”.

بيانات التصميم المعماري للوجه

يستطيع الشخص تغيير مظهر وجهه بقليل من المكياج أو قصة شعر جديدة، لكن التصميم المعماري الأساسي وطول الأنف وحجم الآذان يأتي غالبا من الأم والأب.

صرح كايسر: “العلماء يعلمون أن مخططات ملامح الأشخاص تقع في جيناتهم لكنهم يمتلكون مفاهيم قاصرة جدا عن مكانها في الجينات” وقد ساهم كايسر في محاولات حديثة للربط بين DNA والمظهر.

في عام 2012 ، استخدم كايسر وزملاؤه DNA صورا ثنائية وثلاثية الأبعاد لحوالي 10000 الاف مشترك لالتقاط خمسة جينات تؤثر في شكل الوجه. واحد من هذه الجينات PAX3 يبدو أنه يعدل جسر الأنف وذلك الجين أيضا عُرف بواسطة باحثين آخرين بداية تلك السنة. وقال عالم الأحياء التطورية في جامعة كالكاري في كندا  بيندك هولكريمسون Benedikt Hallgrimsson: “تلك الاكتشافات تشكل بداية عظيمة” لكن عموما “مازلنا لانعلم الكثير عن الجينات التي تشكل الوجه”.

لقطة وراثية

في العام الماضي (2014)، حاول الباحثون اكتشاف أدلة اخرى. في بحث مثير للجدل نشر في مجلة بي لوس للجينات PLOS Genetics في ولاية بنسلفانيا، صنع عالِم الإحاثة مارك شريفير Mark Shriver وزملاؤه نماذج ثلاثية الأبعاد لوجوه أشخاص بالاستناد إلى المعلومات الوراثية ل 592 مشترك. لكن هذا لا يعد كافيا لدراسة شيء في غاية التعقيد كما ذكر هولكريمسون Hallgrimsson.

بعض البيانات المستخدمة من قبل باربون في تحليلاتها جاءت نتاج جهود مجموعة شريفير لكن حتى شريفير لم يكن مقتنعا بأن تقنية التنبؤ بالوجوه مستعدة لمواجهة التيار. هولكريمسون يوافق قائلا: “قلقي هو أنهم ذاهبون لهذا قريبا جدا في زعزعة كبيرة من المؤسسة العلمية”.  

لم تنشر باربون دراسة بعدُ تختبر دقة تنبؤاتها لكن عدة وكالات تنفيذ قانونية قامت بفحصها كما صرح مدير المعلوماتية الحيوية جريتاك Greytak. بعض الأحيان، أعطت الوكالات الشركة فرص اختبار وأرسلت عددا قليلا من عينات DNA قبل بيع المنتج ثم قامت الوكالات بمقارنة الصور مع تنبؤات باربون. وصرح كريتاك: ” قمنا بتسمير كل واحد من أولئك في مكانه” مع أن الوكالات لم تنشر النتائج للعامة.

تعتمد تنبؤات باربون على معلومات وراثية حول الجنس والسلف وخصائص الوجه من قاعدة بيانات تتضمن حوالي 15000 شخص. وصرح كريتاك: “مازلنا نحتاج إلى بيانات أكثر وأكثر وذلك شيء كبير جدا، إذا أردت أن تلتقط التنوع في وجوه البشر فعليك أن تعرف عددا كبيرا جدا من الوجوه المرتبطة بمعلوماتها الوراثية”.

وأقرت كريتاك بأن: “تقنيات باربون لاتسطيع تعريف الأفراد كما تفعل الصورة الفوتغرافية لكن هذه التقنية بالتأكيد مستعدة من وجهة نظر من الاستبعاد”. المحققون يستطيعون استخدام الصور لاستبعاد المشتبه بهم. لذا في البحث عن الزاحف المتسلسل، على سبيل المثال، تستطيع الشرطة استبعاد المشتبه بهم ذوي الشعر الأحمر والعيون الزرقاء.

إذا عدنا إلى الزاحف الذي لم يُربط بجريمة منذ أغسطس، فإن الصورة أعطت المحققين المتحيرين سبيلا جديدة للاستكشاف. وقال دينهام Denham : “إننا في توقف تام عن التحري ولهذا السبب تحولنا لملف باربون الشخصي. دعنا نرَ ماذا نستطيع الإتيان به لنحاول إيجاد هذا الشخص”.

 

المصدر:

https://www.sciencenews.org/article/can-dna-predict-face