كتبته لمجلة سميثسونيان: كاثرين جاي وو

تتشارك جميع أشكال الحياة في هدف واحد: البقاء على قيد الحياة والتكاثر، لكن الأولويات لا تُترجم بهذا الشكل بين الجنسين حين يتعلق الأمر بالأبوّة. فمعظم آباء الثدييات يغادرون الساحة مباشرة بعد تقديم مساهمتهم الجينية متوجهين لتلقيح إناث أخريات. فيما تميل الأمهات لتحمل العبء المترتب على الحمل والولادة.

إذن كم يمكن للأم أن تكون مخلصة تجاه هذا الواجب؟ اتضح أنه حتى بعد انفصال الأبوين، مازال للأب كلمته.

يفيد العلماء اليوم أنه ربما يكون للأب القدرة على فرض رعاية الذرية على الأم، حتى قبل أن يولدوا. فالجينات الأبوية التي يحملها الجنين يمكن أن تؤثر على دماغ الأم أثناء الحمل، وتعدها لتخصيص مساحة أكبر أو أصغر من وقتها لرعاية صغارهم.

فالطفل الذي يحصل على أكبر كمية  ممكنة من المغذيات من الأم سيتمكن من تأمين سلالة الأب دون أن يتحمل الأخير أي كلفة، لكن الأم ما تزال بحاجة لأن تعطي الأولوية لصحتها خلال الحمل والفترة اللاحقة للولادة.

هذا التباين الجنسي مثبت بصورة جيدة عن طريق جين يدعى (Igf2)، وهو الجين المسؤول عن النمو المتسارع للخلايا الجنينية. وكحال أغلب موادنا الجينية، فإن جين (Igf2) يتم توريثه على شكل أزواج، نسخة منه نحصل عليها من الأم والنسخة الأخرى من الأب. لكن على النقيض من الجينات الأخرى فإن النسخة الأبوية هي الوحيدة التي يتم تشغيلها، فيما يتم كتم نسخة الأم عن طريق سلسلة من التعديلات الكيميائية التي تعمل مثلما يعمل كاتم الصوت على محرك ميكانيكي. جين (Igf2) القادم من الأم لا يخضع لأي تغيير، لكن أوامره الجينية تصبح غير مسموعة تحت صخب الوسط الخلوي. ويبدو أن عملية الكتم لها أغراضها؛ إذا حصل خطأ ما وأدى لعمل نسخة الأم من الجين (Igf2)، فإن الطفل سيزيد حجمه بسرعة مضطردة، قد يكون هذا الأمر جيداً من وجهة نظر الأب، فطفل كبير هو الأكثر احتمالاً للنجاة، لكن يمكن أن تتعرض الأم لمشاكل خطيرة إذا تحتم عليها حمل وولادة جنين ذو حجم كبير بشكل غير معقول.

وكحماية من هذه الاحتمالية، طوّرت الإناث ضماناً خاصاً بهنّ؛ جين آخر يدعى (Igf2r)، حيث تشير الـ(r) إلى (receptor/ مُستقبِل). يمكن لنواتج هذا الجين أن تُشبع بروتينات IGF-2 حرة الحركة قبل أن تتمكن من تأدية دورها المُعزز للنمو. ومن غير المفاجئ أن نعرف أن نسخة الأب من (Igf2r) تبقى صامتة، إذ يُعتبر هذا رداً على صمت نسخة الأم من (Igf2)، لكن إذا عبّرت نسخة الأب من (Igf2r) عن طريق الخطأ، سيولد الأطفال بوزن قليل جداً. وبين هذين النقيضين المتطرفين تقع النتيجة المثالية؛ ذرية بحجم نموذجي تماماً، تعبّر عن جين الأب (Igf2) وجين الأم (Igf2r).

وهذه هي ظاهرة “النسخ الجيني”، التي هي شكل من أشكال الوراثة غير الجينية حيث تتواجد عدة نُسخ من الجين، لكن نسخة أحد الوالدين فحسب تبقى سليمة. وقد تم تأكيد وجود ما يفوق الـ150 نسخة جينية في الفئران، فيما يمتلك نصف هذا العدد تقريباً نظائر محفوظة في البشر، وكنتيجة فإن هذه النسخ تمثل عمليات التسوية الأبوية المبكرة.

لقد تمحور اهتمام الدراسات المتعلقة بالجينات المنسوخة حتى الآن حول التأثيرات المباشرة على الأطفال الذين يرثونها، على سبيل المثال ما معدل حاجة الجراء لأمهاتهم؟ لكن “روزاليند جون” استاذة علم الأحياء في جامعة “كارديف” تعتقد أن مورثات الأب ربما كان لها دور أيضاً في تغيّر سلوك الأم.

وجدت البحوث السابقة التي أجراها الفريق البحثي الخاص بـ “جون” أن التعبير عن الجين المنسوخ المسمى (Phlda2) في الجنين من شأنه إعاقة نمو خلايا المشيمة المفرزة للهورمونات. هذه الهورمونات تعيد توجيه العناصر الغذائية لدعم التطور المبكر للجنين، ومن غير المفاجئ أن نعلم أن نسخة الأب من الجين (Phlda2) تبقى غير عاملة في الذرية. تُفضل الأمهات أن تبقى نسختهن من الجين هي العاملة، وإذا تُركت هذه الهورمونات الهادمة للسكر في المشيمة بدون مراقبة (Phlda2) فسوف تخلق جنيناً كانزاً، تاركة القليل من الطاقة للأم.

وقد لاحظ باحثون آخرون أن هذه الهورمونات لا تعمل في المشيمة فحسب، إذ كانت تنتشر في جسم الأم وتتراكم في دماغها خلال فترة الحمل في الحقيقة، مما دفع بجون للاعتقاد بأن لها دور في تشجيع الأم على العناية بصغيرها.

يُعد الحمل حدثاً يغير مسار الحياة وهذا أمر واضح، إذ حتى قبل أن يولد الرضيع، تمر الإناث بتغيرات نفسية وجسدية، منها اندفاعات هورمونية  تحضرهن لمهمة الأمومة الشاقة، تشرح “جون” الأمر: “يتم تحضير الأم الجديدة خلال فترة الحمل، وهذا أمر ضروري بحق لصحة الجراء”.

إن مركز (Phlda2) كجين منسوخ يتماشى بشكل دقيق مع وظيفة التلاعب بدور الأم في الرعاية، كونه طريقة أخرى يمارس بها الأب تأثيره على مستقبل سلامة طفله.

وللاطلاع أكثر على هذه الاحتمالية، قام فريق من الباحثين يتضمن هيوغو كريث وهو عالم أحياء يعمل تحت إشراف “جون” في جامعة “كارديف”، باختبار تأثيرات التلاعب بتعبير (Phlda2) الجنيني في الفئران. تعبّر الفئران في طور النمو عادة عن نسخة الأم من (Phlda2) وذلك بهدف السيطرة على هورمونات المشيمة ومنعها من الانتشار بغزارة، كما أن إسكات نسخة الأب من شأنه أن يقلص تعليمات الجين إلى النصف بفعالية. وقد قام الباحثون بالتلاعب جينياً بأجنة الفئران لتعمل على كلا النسختين من جين (Phlda2) أو لا تعمل على أيّ منهما، في الحالة الأولى كانت نسخة الأم من الجين عاملة بشكل متطرف بينما في الحالة الثانية تم تفضيل نسخة الأب. ثم قاموا بزرع هذه الأجنة بداخل أمهات غير خاضعات للتعديل ويحملن ذرية طبيعية تعبّر عن نسخة الأم من جين (Phlda2). وكما كان متوقعاً، فقد غيرت كمية (Phlda2) في الرحم التعبير عن الجينات العصبية في مراحل لاحقة من الحمل، مؤكدة أن المورثات المُعدلّة هي من كانت تقود إنتاج أو عدم إنتاج هورمونات المشيمة.

وحين وُلِدت الجراء دقق الباحثون في سلوك الأمهات الجدد خلال الأيام الأولى التالية  للولادة، حين كانت رعاية المولود أهم. تقوم الأمهات بتربية الذرية بدون أي مساعدة من الآباء، إذ يتوجب عليهن تقسيم وقتهن بين الاعتناء بأنفسهن، وتغذية العديد من الجراء الجدد، والعناية بالمسكن. ولأن الوقت غير كافٍ خلال اليوم، لذلك تحدد أولويات الأم كيفية تقسيمها للوقت. لقد سُرّ الفريق حين وجدوا أن الأمهات ممن حملن جراءً بأقل كمية من (Phlda2) مع تحفيز لهورمونات الأمومة، قضين وقتاً أكثر في إرضاع ذريتهن وتشذيب أنفسهن، ووقتاً أقل في بناء المساكن. من ناحية أخرى فإن الأمهات ممن تعرضن لكميات أكبر من (Phlda2) وكميات أقل من هورمونات الأمومة، كرّسن وقتهن لبناء مأوى، وهو دليل على “العناية بالمسكن” وفقاً لـ”كريث”، بدلاً من الاهتمام أكثر بصغارهن.

كما تفاجأ الفريق لرؤية الأمهات يتصرفن تحت تأثير (Phlda2) الذي تم كتم تعبيره، بقضاء وقت أكبر لرعاية الصغار ورعاية أنفسهن أيضاً. هل كان هذا يتعارض مع أولويات الأب؟ يوضح “كريث” بأن الفئران كانت تعتني بنفسها لكي تتمكن من الاعتناء بالصغار بشكل أفضل، إذ يشبه هذا الأمر ارتدائك لقناع الأوكسجين في الطائرة قبل أن تساعد صغيرك في ارتداء قناعه، إذا أهملت ارتداء قناعك أولاً من المرجح أن يعاني كلاكما ضرر ذلك.

يقول كريث في هذا السياق: “علينا أن نعيد التفكير فيما نعتبره أمومة جيدة، فلا توجد معايير ذهبية للأمر، لأنه عبارة عن ميزان متأرجح من الأولويات”.

مع ذلك، ولأن (Phlda2) يؤثر أيضاً على تغذية الجنين، فإن الجراء التي تحمل زيادة منه تولد بوزن أقل. ولضمان أن تغيّر الدماغ أثناء الحمل هو الذي يقود التغيرات السلوكية وليس مظهر وسلوك الجراء، أعاد الباحثون تجربتهم بالسماح للأمهات بإتمام الحمل بجرعات مختلفة من (Phlda2) الجنيني، لكن هذه المرة تم استبدال الجراء بعد الولادة مباشرة بجراء حديثي الولادة يحملون نسخة طبيعية من (Phlda2)، فكانت النتائج نفسها.

هذه النتائج كانت مؤكِدة لجون وفريقها، تقول: “ألمحت الكثير من الدراسات لهذه النتائج من قبل، لكن لم تُجرَ أيّ تجارب، قرار أجراء هذه التجربة كان رمية نحو المجهول”. لكن النتائج كانت واضحة؛ التغيرات في التعبير الجيني للجنين خلال الحمل كافية لإعادة ربط دماغ الأم على المدى الطويل.

“ديفيد هايغ” أستاذ علم الأحياء التطوري في جامعة “هارفارد” والذي يدرس النسخ الجيني، رحب بهذه الدراسة “الراقية” و”نتائجها الرائعة جداً”، حيث يقول “هايغ” الذي لم يكن جزءاً من الدراسة: “لقد علمنا لوقت طويل أن الحمل يؤثر على سلوك الأم بعد الولادة، لكن أن يتم توضيح وجود تأثير جيني من الجنين هو أمر جديد”.

يقدم عمل الفريق مصداقية لفكرة أن الآباء لا يحددون صحة أطفالهم عن طريق الوراثة الجينية فحسب. ففي حالات كهذه يمكنهم استخدام الجنين كمبعوث كيميائيّ في هذه المعركة بين الذكر والأنثى، مما يميل بأولويات الأم ناحية رعاية أكثر للأطفال.

كما ألقت “ماريسا بارتولومي”، استاذة علم الأحياء التنموي بجامعة بنسلفانيا  والتي تدرس النسخ الجيني، الضوء على تصميم الدراسة “الذكي والخلّاق” قائلة: “هذه أول مرة نرى فيها أن جينات الجنين تؤثر على الرعاية الأبوية، بغض النظر عن جينات الأم. هذه فكرة لم يتحدث عنها الكثير من العلماء”.

في المستقبل، تأمل “جون” وفريقها الحصول على فهم أفضل للهرمونات المحددة التي تتحكم بالتأثيرات التي لاحظوها. بالإضافة لذلك، رغم أنه يبدو على الجراء في هذه الدراسة أنها لم تعاني أي تأثيرات ممرضة من التغيرات في رعاية الأم، إلا أن وجود تغيرات طويلة الأمد لم يتح وقت التجربة القصير رصدها هو أمر وارد. وتهتم “جون” بشكل خاص بالنتائج النفسية، حيث تم ربط الوزن المنخفض عند الولادة واكتئاب ما بعد الولادة باضطرابات التطور العصبي في أطفال البشر. وأخيراً نظراً لوجود مشاكل في (Phlda2) عند بعض الأطفال ممن ولدوا بوزن منخفض، تأمل “جون” استخدام هذه النتائج وغيرها لإثراء مجال الصحة الإنجابية عند البشر مستقبلاً.

ينقل الأطفال نوايا آباءهم بطريقة تدوم قبل أن يولدوا حتى. قد لا تتطابق أولويات الذكر والأنثى دائماً، وبشكل ما، قد يكون النسخ الجيني تطوراً يلوح براية السلام بين الجنسين. لكن في نهاية اليوم، يتم التوصل إلى هدنة مهما بدت هشة؛ كل شيء مباح في معركة الحب. يقول “كريث”: “يتعلق الأمر بالتوازن، فكلاهما يريد ما هو أفضل للذرية في النهاية”.

المصدر:

Wu, Katherine J. “How Dad’s Genes Can Prepare Mom for Parenthood.” Smithsonian.com, Smithsonian Institution, 31 July 2018,