العنصرية العلمية هي الرأي القائل بوجود أسس علمية للتمييز بين الأعراق البشرية وذلك بالإستناد إلى علم النفس وعلم الإجتماع والبيولوجيا، يشبه ذلك ما طرحه ساتوشي كانازاوا حينما أشار إلى إنخفاض معدل ذكاء السود مقارنة ببقية الأعراق ولم يكن معارضوه على خلاف مع طريقة بحثه بقدر خلافهم مع إتجاه هذا الطرح أو ما يقود إليه، في إشارة إلى الفكرة النازية في تصنيف الأعراق البشرية.
تمثل الآراء الداعية للتمييز بين الأعراق الآن جزءاً من حقيبة أفكار اليمين المتطرف الموجود في أوربا والموجود أيضاً في العالم العربي في أيامنا هذه، ويرى هؤلاء أن التمييز العنصري سيضع الكثير من الأمور في نصابها بدلاً من سياسة المساواة الإجتماعية السائدة في الغرب والتي بدأت تثير حنق الكثيرين نتيجة للأعمال التي يقوم بها المهاجرون.
يتكلم هؤلاء أحياناً عن مؤامرة كبيرة تجعل من علم الإجتماع علماً أدبياً مليئاً بلغط الفلسفة وخالياً من أي دور علمي، ومن علم النفس علماً ضعيفاً مليئاً بالفجوات غير قادر على دعم وجهات نظر على هذا المستوى. وبالفعل فإن هناك كثير من الإشكاليات في علم النفس، بينما تغلب المنهجيات غير المضمونة وغير المؤكدة على العلاج النفسي، أما علم الاجتماع فله قصة أخرى من ضعف المنهج وبعده عن العلم تقريباً (إقرأ: لماذا علم الاجتماع ليس علماً؟).
أول ما يتبادر إلى أذهاننا ونحن نتسائل عن السبب في كون أقسام علم الإجتماع تقع في الجانب الأدبي من الجامعات في مختلف أنحاء العالم هو التساؤل حول لماذا يقع تخصص يحمل صفة علم أو يزعم بأنه علم في شق من الفلسفة والمنهجية التفسيرية، وحتى الوضعيون من علماء الأجتماع فهم لا يقدمون في الغالب أكثر من طروحات فلسفية لا تمت بصلة للدراسات والعلم والمنهج العلمي، كارل ماركس مثلاً يُعتبر وضعي التوجه (positivist) ويُفترض أن نرى في كتبه شيئاً أكثر من مجرد التنظير غير المستند إلى أدلة قوية. لكن لماذا يتبادر إلى أذهاننا دوماً بأن تلك العلوم شريرة ولماذا نرى صورة النازية عندما نفكر بعلم نفس واجتماع حقيقيين؟
باستثناء ما حدث لليهود، فهناك سيناريوهات يطرحها فيلم المغاير (divergent) الذي يروي قصة مستقبلية لتقسيم البشر بحسب أنماط الشخصية، وهو يعرض عالماً معرضاً للخراب مفتقراً للسلم والاسوء فإنه يطارد مجموعة من البشر بنفس البشاعة التي كان اليهود يُطاردون بها. الفكرة واردة جداً وهي تقع في أعلى سلم المخاوف لمن يتوجسون من علم النفس المعتمد على البيولوجيا.
كثيرٌ من دعوات العنصرية العلمية لا تتناول موضوع عدم الحسم البيولوجي في علم النفس وبالذات في مسألة الفروقات بين الأعراق والأجناس من ناحية هل أنها ممكنة أم لا، ولا تتناول الأمر من ناحية عواقب تلك الموضوعات، لكنها تتخطى ذلك للجزم التام بأن العنصرية العلمية صحيحة وتكاد تجزم بالحدود الشاملة للبيولوجيا ودورها في علم النفس وإلى القول بأن هناك ما يشبه المؤامرة، وأن هناك ما يشبه التواطؤ بين العلماء والذي يجعلهم ضد كشف هذا الأمر أو ضد الخوض به، ويعزو اليمينيون أصحاب دعوات العنصرية العلمية تلك الدوافع لدى العلماء إلى أسباب عديدة ومنها النزعات والميول اليسارية والليبرالية، ويتمادى البعض احياناً إلى عزو عدم دعم العنصرية العلمية إلى دور اليهود في العلم.
بغض النظر عن تلك الدعوات والاتهامات للمجتمع العلمي، لكن ألا يُمكن أن نتسائل: ماذا لو أن الأمر كان مقصوداً وأننا نتغاضى فعلياً عن وجود إثباتات للعنصرية في علم النفس، لاسيما ما يعتمد على البيولوجيا ويثبت الفروقات بين الأجناس؟
في أول الأمر لا يُمكننا مطلقاً أن نجزم بحدود التنشئة والطبيعة في الصفات النفسية، حتى مع افتراض وجود مؤامرة يهودية صهيونية ليبرالية لقمع ذلك التوجه فتلك المؤامرة ستؤدي لحجب حقائق علمية معينة عنا، وحجب تلك الحقائق عنا سيؤدي بالنتيجة إلى عدم إمكانية الجزم التام في دور تلك الفروقات البيولوجية. إنه كمن يقول أن هناك مؤامرة من علماء الفيزياء وأن كل حقائق الفيزياء مزيفة، وأن هناك علماً فيزيائياً شاملاً يتعرض للقمع وهو العلم الصحيح. لو كان العلماء متواطئون والعلم مؤامرة والحقائق مخفية فكيف سنؤكد صحة ذلك العلم الخفي؟
جزء كبير مما سيتضمنه إيجاد فرضيات للفروقات بين الأجناس هو الترسيخ الشامل للعنصرية بكافة مظاهرها، وما العمل باتجاه إبادة أحد الأجناس أو الشعوب أو أنماط الشخصية (كما في فيلم “المغاير”) إلا احتمالية واردة أيضاً في حال وجود أي نظام شمولي يتبنى الفكر الجديد.
لا يُمكن تخيل الأشياء التي يُمكن أن تتغير فيما لو وجد علمٌ نفسيٌ أو إجتماعي يتحدث بوضوح وصلابة وبلغة البيولوجيا عن فروقات في عقول البشر، وبمجرد التفكير بوجود الأنظمة الشمولية المختلفة في العالم وبإمكانيات التغيير الشاسعة التي ستحدث لحين الوصول إلى مرحلة الإستقرار مع الوضع الجديد للعالم فإن احتمالات المخاطر التي سيتعرض لها عدد كبير من البشر تحت طائلة توجهات مماثلة هي احتمالات واسعة جداً.
بعض الدول قد تتبنى ذلك الفكر وبعضها قد تنأى عنه، لكن عندما تبنت ألمانيا النازية فكراً مشابهاً لم يكن الأمر وكأن قيادات دولة واحدة قررت تبني فكرة معينة، بل كانت حرباً عالمية. نظام العمل سيتغير، لن تستطيع أن تختار كثيراً من الوظائف بل سيتم إسنادك إلى الوظائف بحسب شخصيتك أو عرقك أو كلاهما.
من الطرف الآخر فقد نستفيد بشدة من ناحية الحصول على علم نفس علاجي متكامل يعالج الحالات النفسية المستعصية، وقد نتمكن من قمع الجريمة على نطاق أوسع. لكن ماذا لو وجدنا أن الأمر ليس مخيفاً وأن التنشئة لها دور أكبر في صياغة البناء النفسي للبشر؟ ماذا لو انتهت القصة دون خوف ومكننا علم النفس الجديد من إصلاح ما هو سئ ومن ملأ الفجوات وإصلاح المشاكل الموجودة لدى بعض الشعوب فيما لو أفترضنا أن ذلك العلم سيجزم بوجود فجوات وفروقات سيكولوجية وسوسيولوجية بين الشعوب وأن تلك الفروقات البيولوجية هي الأساس في بعض السلبيات السائدة لدى بعض الشعوب؟
إذا افترضنا أن ترسيخ التفرقة بين البشر على أساس بيولوجي ستحل مشكلات معينة تعاني منها بعض الدول، فإن الرهان على هذا الأمر لوحده خطيرٌ جداً وليس هناك ما يعطي أي ضمان بأن هناك نهاية أفضل خلف ذلك التوجه. لكن ماذا لو طرحنا تساؤلاً آخر، من قال أن جميع الجهات العلمية والمؤسسات المختلفة اليوم تقع على مستوى واحد من حيث فهم الطبيعة البشرية؟ ماذا لو كان هناك نظرية مؤامرة من نوع آخر؟
تفتح محرك البحث جوجل فيتنبأ مسبقاً بنطاق معين ستبحث ضمنه، يعرف ميولك الجنسية وحاجاتك للتسوق والأشخاص الذين لك صلة بهم والأشخاص الذين هم أقرب اليك، يعرف هو والفيسبوك وغيرها من المواقع بأنك تخون زوجتك، وبلغات كثيرة من لغات البشر فإن معالجات النصوص تفهم كثيراً مما تقول وتضعه ضمن بيانات منظمة. يشقى باحثٌ نفسيٌ أو إجتماعيٌ أشد الشقاء وهو يبحث عن عينة لبضعة عشرات أو مئات من الأفراد، لكن تلك الحقائق في الأنترنت كلها موجودة لعينة من ملايين أو مئات الملايين من الأشخاص. هل يُمكن تخيل ثمن ذلك الكنز بالنسبة لباحث اجتماعي أو نفسي؟
تستخدم جوجل وفيسبوك بحسب علمنا تلك المعلومات للأغراض التجارية، تبحث عن شئ هنا أو تتكلم في بريدك الالكتروني عن سلعة معينة فتجدها ضمن قائمة المقترحات، أمور أخرى كثيرة مشابهة. كما نعلم بأن فيسبوك مثلاً يسلم معلوماتٍ عن الأشخاص للدول التي تطلب ذلك للأغراض الأمنية. سمعنا يوماً ما عن خوارزمية لتتبع حركة الإرهابيين عبر التويتر. ماذا لو تم توحيد ذلك؟ ماذا لو افترضنا أن هناك من يقوم ببعض تلك الأنشطة ولكن ليس في العلن، وأن يقوم بها لصالح جهة غير أكاديمية؟ إلى أي مدى يُمكن أن نستبعد إمكانية وجود الفرضيات التي نتكلم عنها في هذا المقال وهي في مهد الإثبات والتطوير الآن من قبل جهات معينة؟ قد يكون تساؤلنا حول التصنيف البيولوجي والعنصرية العلمية محسوماً! كثيرٌ من العلوم تولد وتبدأ بالأغراض العسكرية والأمنية ثم تنتقل للإستخدام السلمي، ماذا لو كان هناك علم نفس وعلم اجتماع من هذا النوع؟