ترصد حواسنا أكثر من 11 مليون وحدة من المعلومات في كل ثانية، تلتقط العين وحدها 10 ملايين صورة في الثانية لو نظرنا إلى ذلك كمشاهد مقطعة لمقطع فيديو مستمر. كم من تلك المعلومات تتذكر؟ كم منها ستتم معالجته من الأساس؟ على أفضل التقديرات، فإننا نعالج 40 وحدة من المعلومات في الدقيقة. يتساءل تيموثي ويلسون (Timothy Wilson) في كتابه “غرباء عن أنفسنا: استكشاف اللاوعي المتكيف” (Strangers to ourselves: discovering the adaptive unconscious): ما الذي يحدث لتلك الـ 10,999,960 وحدة من المعلومات؟ أليس هناك خلل هائل في التصميم حين تستطيع الحواس جمع كل تلك المعلومات فيما لا نعالج منها سوى قدر محدود جدًا؟ لكن لحسن الحظ، فإننا نستفيد من قدر كبير من تلك المعلومات خارج إدراكنا. هذا المقال سيكون قراءة مختصرة لكتاب تيموثي ويلسون الذي يلخص عقودًا من البحث العلمي حول موضوع اللاوعي.

نشر المقال في كتاب العلاج النفسي كيف نواجه المعاناة النفسية عبر العلم
يبدو اللاوعي المتكيف وكأنه نظام آخر من التفكير يمثل طبقة أخرى تسبق تفكيرنا الواعي ويمكن بواسطة تجارب معينة فهم كيفية عمل ذلك النظام. على سبيل المثال، أجرى باحثون تجربة عرضت فيها عبارة “خسائر العدو” على مجموعة من الأشخاص لتقييم كونها إيجابية أو سلبية. بطبيعة الحال، فإن الخسائر هي خسائر العدو وبالتالي فالعبارة يفترض أن تكون إيجابية، وهكذا أجاب الناس حينما قرأوها. لكن حينما عرضت العبارة بشكل سريع جدًا بحيث أن الدماغ يعالجها في اللاوعي، فقد تم تصنيف الكلمة على أنها سلبية من قبل المشاركين في التجربة. استنتج الباحثون من ذلك أن اللاوعي المتكيف قد لا يمتلك قدرات إدراكية عالية بحيث يستطيع تمييز المعاني من الكلمات المكتوبة.
الشخصية بين الوعي واللاوعي
أحدث والتر ميشيل (Walter Mischel) هزة في علم النفس، وتحديدًا في البحوث حول الشخصية، عام 1968. أثبت ميشيل ببساطة أن الأشخاص الانطوائيين والانبساطيين يتصرفون بشكل مختلف في سياقات اجتماعية مختلفة. يعني ذلك أن الشخص الانطوائي يمكن أن يصبح انبساطيًا والعكس بحسب تغيرات معينة في البيئة الاجتماعية وظروف لقاء اجتماعي معين. وهكذا الحال مع خصائص اجتماعية أخرى. يشبه الكتاب أثر ذلك البحث بقصة “ملابس الإمبراطور الجديدة”، حيث تم خداع الإمبراطور بأنه سيرتدي أبهظ حلة ثمنًا لأنها شفافة ولا يرى منها شيء، وفي الحقيقة فقد كان الإمبراطور عارياً. لكن لماذا تختلف شخصياتنا إلى هذا الحد بحسب السياق ولماذا تعجز الاستبيانات التقليدية حول الشخصية في الكشف عن تلك الفروقات؟
إن السبب في التباين في الخلل بتقييمنا لشخصياتنا، أو في تقييم الدراسات لنا، هو إهمال ذلك الجانب الهام، اللاوعي المتكيف. يتحدث الكاتب عن كتاب ضخم يصل إلى أكثر من 900 صفحة حول أبحاث الشخصية كان منها صفحتان فقط تحدثتا عن الوعي، وستة ذكرت اللاوعي في سياق غير علمي من التحليل النفسي. لم يكن هناك شيء في ذلك الكتاب عن اللاوعي المتكيف. بدلاً من الحديث عن شخصية واحدة، ربما يجب أن نتحدث عن شخصيتين. ربما طريقة البحث في خصائص الشخصية بتعيين الصفات واختبارها، كما هو الوضع الآن في البحث العلمي، خاطئة كليًا. ربما يجب تعيين خصائص معينة وتحديد كيفية تغيرها في السياقات المختلفة وبناءً على نوعين من التفكير قادمين من الوعي واللاوعي المتكيف.
تطور نظرية العقل في اللاوعي
تتطور نظرية العقل بشكل مبكر لدى الأطفال حول سن الرابعة. في إحدى التجارب، يتعاون رجل وامرأة على إخفاء قطعة حلوى في صندوق أمام مرأى طفل. يخفي الرجل الحلوى ثم يترك الغرفة، فتدخل المرأة وتضعها في سلة. يعود الرجل فلا يجد الحلوى، فيما يشهد الطفل تلك العملية. ثم يُسأل الطفل: أين سيبحث الرجل، في الصندوق أم في السلة؟ أغلب الأطفال في سن الثالثة يجيبون بأن الرجل سينظر في السلة، لكن في سن الرابعة يدرك الأطفال أن الرجل لا يعلم بما فعلته المرأة، وسينظر في الصندوق حيث يظن أنه ترك قطعة الحلوى. تعرف طريقة التفكير بالآخرين هذه بنظرية العقل (Theory of Mind)، حيث يُشكل الشخص نظرية عما يفكر به الآخرون.
حتى الآن يبدو أن التجربة لا تحمل الكثير من التفاصيل حول اللاوعي، لكن الجزء الثاني من التجربة يتضمن مراقبة نظر الأطفال في السن الحرج بعمر ثلاث سنوات حيث تبدأ نظرية العقل بالتطور. لوحظ أن لدى بعض الأطفال في ذلك السن، رغم إبلاغهم عن السلة، فقد كانوا ينظرون إلى الصندوق. يشير ذلك إلى أن الأطفال، رغم تصريحهم بشيء ما، فإنهم في اللاوعي المتكيف كانوا يفكرون بأمر آخر. عدم تطابق التصريحات مع مؤشرات أخرى هو مؤشر مهم في تجارب اللاوعي. يُشير ما يقوله الأشخاص إلى المعرفة، إلى الجانب الواعي لديهم، فيما تُشير الأعين إلى المعرفة الضمنية، اللاوعي المتكيف.
الدفاعات النفسية في ظل اللاوعي المتكيف
يرتكز جانب كبير من التحليل النفسي على مبدأ الدفاعات النفسية والكبت. شرحنا الدفاعات النفسية في هذا الكتاب وهي بشكل رئيسي مستمدة من الثقافة ومن مفهومنا البسيط حول المشاعر والوعي. أسس فرويد للدفاعات النفسية في مفهوم اللاوعي وصارت تُعد أساساً في علم النفس من بعده لكن هل خضعت لما يكفي من الاختبارات؟ يقول تيموثي ويلسون[1]: ” كانت وجهة نظر فرويد القائلة بأن الوعي هو قمة جبل الجليد العقلي غير دقيقة … فحجمه لا يتعدَّى حجم كرة ثلج على قمة هذا الجبل.”
يشرح الكتاب أن الدفاعات النفسية، وتحديداً مفهوم الكبت، لا تحتاج لإثبات وجود مشاعر معينة خفية بل لإثبات حدوث عملية كبت لها. على سبيل المثال، الرغبة الجنسية تجاه الوالدين. أحد الدفاعات النفسية هو التكوين العكسي (reaction formation)، والذي ينص على أننا قد نمتلك رغبات معينة مكبوتة، لكن دفاعنا النفسي ضدها يكون بشكل رد فعل قاسي وحاد لرفضها. من الأمثلة الشائعة ثقافياً حول الدفاعات النفسية هو أن يكون شخصٌ ما حاملاً لموقف متطرف ضد صفة يحملها، مثل المثلية الجنسية. هذا المثال كان من بين الحالات القليلة التي كان من الممكن اختبارها، أو هكذا يبدو!
أخضع باحثون مجموعة من الرجال لاستبيان لرهاب المثلية عينوا فيه درجات مختلفة من رهاب المثلية لدى هؤلاء الرجال. ثم عرض على الرجال مقاطع إباحية لرجال ونساء، نساء ونساء (محتوى مثلي)، ورجال مع رجال (محتوى مثلي)، فيما تم تركيب أجهزة خاصة تعرف بمخطط التحجم (plethysmograph). يقيس مخطط التحجم زيادة قطر العضو الذكري ويقارن في بعض الدراسات باستثارة الرجال لمؤثر جنسي معين بالتزامن مع ظروف معينة للتجربة، مثل مشاهدة فيلم إباحي للمثلية في حالة هذه التجربة. كانت المفاجأة أن الرجال الأعلى تقييماً في رهاب المثلية كانوا الأكثر استثارة تجاه المحتوى المثلي، بالمقارنة مع الرجال الأقل رهبة للمثلية، رغم تصريحهم بأنهم لا يجدون المحتوى مثيراً على الإطلاق. لكن هل هذه نهاية القصة وأن اللاوعي المتكيف طابق اللاوعي الفرويدي؟ وهل كانت تلك أول تجربة ناجحة لإثبات وجود الدفاعات النفسية؟
في الحقيقة، إن التجربة لا تعزز شيئاً من ذلك بالضرورة. أوضح الباحثون في الدراسة أنه في نفس الوقت الذي قد يعد ذلك دليلاً على توليد ردود الأفعال كدفاع نفسي، والذي لا يسنده دليل علمي آخر، فإن الدليل العلمي يسند حقيقة أن الاستثارة الجنسية تزداد مع ازدياد القلق. بطبيعة الحال، فإن الرجال الأعلى في رهابهم للمثلية كان لديهم مستوى قلق أكبر حين مشاهدة محتوى إباحي مثلي.
اللاوعي في الدماغ
تنص نظرية جوزيف لودو (Joseph LeDoux)، المستندة إلى تجاربه وعمله في علم الأعصاب، على أن هناك مسارين في الدماغ يعرفهما لودو بالطريق العالي والطريق المنخفض. تمتلك الثدييات مسارين من الأعصاب يبتدئان من مستقبلات الحواس التي تنقل ما نتلقاه من البيئة، ليمر المساران أيضاً بالمهاد الحسي (sensory thalamus)، ثم ينتهيان باللوزة الدماغية (amygdala) التي يُعتقد في علم الأعصاب أنها مسؤولة عن تنظيم ردود الفعل العاطفية. تتصل اللوزة الدماغية بمسارات تتحكم بالنبض، ضغط الدم، وردود فعل عصبية مستقلة أخرى مرتبطة بالمشاعر. غير أن الطريقين لا يمران بنفس المسار.
يأتي الطريق المنخفض بشكل مباشر من المهاد الحسي إلى اللوزة الدماغية، أما الطريق العالي فيمر أولاً بالقشرة، المسؤولة عن معالجة المعلومات والتفكير، ثم يأتي إلى اللوزة. الطريق العالي بطيء لكنه يتضمن معالجة دقيقة للمعلومات. بهذه الحالة، فإنك حين تمشي لوحدك في الطبيعة وتصادف جسماً طويلاً داكناً يبدو كأفعى، فإن الطريق المنخفض سيوصل تلك المعلومة، لكن دون تمحيص، إلى اللوزة متسبباً برد فعل خوف، ويمكن أن يحدث ذلك في اللاوعي، أي حتى قبل أن تصبح واعياً بما ترى بالضبط. لكنك ترى لاحقاً وتبدأ بتمحيص ما رأيت، ثم تدركه أنه ليس أفعى. تمثل هذه الآلية جهاز إنذار فعال وسريع في الحيوانات. لكن هل يمكن أن يحدث ذلك مع كافة المشاعر وفي حالات أخرى؟ وهل هو حساس بشكل استثنائي للمشاعر السلبية؟
أجرى أنطوان بشارة وزملاؤه تجربة تضمنت قياس كهربائية الجلد لمجموعة من الأشخاص وهم يمارسون لعبة تتضمن سحب بطاقات من أربعة مجاميع. كانت المجموعتان أ و ب تؤديان إلى خسائر أو أرباح أكبر، أما المجموعتان ج و د فكانتا تتسببان بأرباح أو خسائر قليلة. لم يُخبر الباحثون المشاركين عن ذلك، لكنهم وجدوا أنه مع استمرار اللاعبين باللعب، فقد صاروا يتجنبون المجموعتين أ و ب وكانوا يظهرون توتراً أعلى حين يسحبون من تلك المجموعتين. تظهر هذه التجربة ما وصل إليه العلم من استنتاج بأن معالجة المعلومات السلبية تحدث بطريقة مختلفة وبأماكن مختلفة في الدماغ عن الإيجابية. لكن هل يختص اللاوعي بمعالجة الأحداث السلبية بشكل رئيسي؟ هناك اعتقاد ساري في العلم بأنه على الأقل يمثل نقطة مراقبة أو حراسة فيما يتعلق بالمعلومات السلبية.
اللاوعي المتكيف والمشاعر
اللامفرداتية (alexithemia) أو العمى العاطفي هي ظاهرة عصبية – نفسية تُصنف كاعتلال نفسي أو صفة نفسية يعاني منها نسبة من البشر قد تصل إلى 10% وتعد أكثر حدوثاً في الرجال منها في النساء. في هذه الحالة، يواجه الأفراد صعوبة كبيرة في تمييز مشاعرهم أو التعبير عنها أو إيجاد مصادرها. ترتبط اللامفرداتية مع مشكلات أخرى في نمط التعلق والمشاكل في العلاقات بين الأشخاص. يُعتقد أن من أسبابها وجود اختلال في الجانب الأيمن من الدماغ، والذي قد يرجع إلى أسباب متعددة منها الاضطهاد والصدمات في الطفولة، كما أنها أكثر شيوعاً لدى مرضى التوحد. من وجهة نظر اللاوعي المتكيف، فإن تأثر اللاوعي بهذه الحالة قد لا يكون كبيراً. في إحدى الحالات التي يشير إليها الكتاب، بكت امرأة تعاني من العمى العاطفي إثر وفاة امرأة في فيلم. سألها المعالج النفسي إن كانت تعتقد أن ذلك مرتبط بوفاة والدتها حديثاً، فنفت ذلك. تُعد حالة العمى العاطفي حالة متطرفة من اللاوعي العاطفي، لكن كما يرى الكاتب، فكلنا نعاني من عمى عاطفي إلى حدٍ ما.
بقاء مشاعرنا في اللاوعي المتكيف ليس الظاهرة الوحيدة الهامة في العلاقة بين المشاعر واللاوعي، يتحدث الكتاب عن الحالات التي نقوم فيها بتطبيع المشاعر السلبية أو الإيجابية تدريجياً. الكثير من الدراسات حول الأشخاص الذين عانوا من فواجع مثل وفاة أو فقد شخص، ظنوا في البداية أن ذلك سيستمر لأمد بعيد، لكن لوحظ لاحقاً أثناء فترة الدراسة أن المشاعر تتحول ضمن عملية للتطبيع إلى هيئة أخف من السابق حتى يكاد ينسى الشخص تماماً. المشاعر الإيجابية كذلك، يأخذ الكتاب حالة متطرفة لشخص فاز باليانصيب لكنه قوبل من الإعلام مرات متعددة بعد ذلك، حتى وصل الأمر حين لقائه بعد 30 سنة إلى تمنيه ألا يحصل على الجائزة. يشبه الكاتب هذه الآليات بالعمليات الفسيولوجية المرافقة للفرحة العارمة، والتي قد يترتب عليها تغيير في مستوى النبض أو ضغط الدم، والتي قد لا تكون مفيدة للجسم إن طالت لفترة.
غرباء عن أنفسنا
لا ينتهي نطاق اللاوعي وأثره على ما نميزه نحن بأنفسنا أو ما يمكن أن تختبره التجارب. في بعض الأحيان نتصور أننا قادرون على إحكام معرفتنا بأنفسنا من خلال قوائم موضوعية نحصي فيها كل شيء قد نرغبه أو لا نرغبه، لكن قد نتفاجأ بجهلنا عن أنفسنا. رغم ذلك، كيف لعلامات لا ندركها تظهر على الوجوه أو في لغة الجسد أن تدل شخصاً لا نعرفه على ما نريد؟ يسرد الكتاب قصة عن عالمي نفس أعدّا قائمة مما يرغبان به من خصائص في البيت الذي يريدان شراءه. وهكذا فقد كانا يحدثان تلك القائمة وهما ينتقلان مع العاملين في العقارات. كانت القائمة تشبه دراسة نفسية حيث هناك مؤشر من 7 درجات حول كل صفة مثل المطبخ والحديقة وغيرها. يفترض أن يقوما بعدها باحتساب المعدل لكل بيت ليقررا ما سيحبانه. لكنهما فوجئا بمحدودية تلك الطريقة مقابل أسلوب وكيلة تسويق العقارات.
كانت وكيلة تسويق العقارات غير مهتمة كثيراً بقائمتهم، وكانت تفاجئهم بأماكن قد لا تطابق المواصفات الأولية التي أراداها. تأخذهم لبيت في الريف تارة، ثم بيت في المدينة، ثم بيت كبير وآخر صغير. تقرأ وكيلة العقارات ردود الفعل العاطفية تجاه الخصائص المختلفة في البيوت التي يراها الأشخاص، محاولة استنتاج ما يريدونه بالفعل. قال زوجان لوكيل عقارات إنهما يريدان بيتاً قديماً وأنهما لا يرغبان ببيت جديد، لكنها لاحظت ردود فعل سعيدة حين كانت تأخذهما إلى بيوت جديدة. بهذه الطريقة، فوجئ عالما النفس بشراء بيت لم يتوقعا أنهما سيحبانه على الإطلاق. هل يمكن أن يعرفنا الآخرون أكثر من أن نعرف أنفسنا؟
في الواقع، يأتي الكتاب إلى أمثلة أخرى يقيم فيها أشخاص غرباء مزاج الشخص أو صفاته من خلال أدلة قليلة مقدمة لهم. في كثير من الأحيان كان تقييم الغرباء للأشخاص أصدق من تقييمهم لأنفسهم وأكثر قرباً من حالتهم العاطفية في اللاوعي. وربما من هذه الأمثلة جاء عنوان الكتاب “غرباء عن أنفسنا”.
الانقال Transference واللاوعي
يعد الانقلاب من أدبيات التحليل النفسي التي لها إصدار آخر في بعض المجالات العلمية في علم النفس مع تباين في التعريف. ينص مفهوم الانقلاب في التحليل النفسي على أننا نقوم بنقل مشاعرنا من أحد الوالدين إلى شخص آخر، المعالج بشكل رئيسي. يناقش التحليل النفسي تفاصيل ذلك ويعتبر الانقلاب أمراً محورياً في ممارسة العلاج النفسي لاسيما حين يتخذ المعالج ذلك الدور في ذهن الشخص. لكن هل يصادق العلم الحديث على هذا الإصدار من الانقلاب؟
درست سوزان أندرسون (Susan Anderson) عالمة النفس المختصة بعلم النفس الاجتماعي والشخصية الانقلاب. أجرت أندرسون دراسة طلبت فيها من الأشخاص تعريف عدد من المقربين منهم مع ذكر خصائصهم، ثم يتلقى الأشخاص في جزء آخر من الدراسة قائمة من أشخاص يحملون خصائص معينة. تضع أندرسون بعض الخصائص المتشابهة مع أحد الأشخاص المقربين في الشخصيات التي تقدمها. يمكن أن تقدم معلومات عن زوجتك مثلاً وصفاتها ثم تأتي أندرسون لتستخدم تلك المعلومات في المرحلة التالية من الدراسة لتكوين خصائص لامرأة قد تشترك بـ 3 من أصل 10 مع زوجتك. لاحظت أندرسون أن الأشخاص سيتذكرون هؤلاء الذين يشبهون المقربين منهم ويركزون عليهم أكثر، وسيقومون بتقييمهم بشكل مشابه لتقييم المقربين منهم. مثلاً قد لا تحب شخصاً ما لو كان يشترك بخصائص مع أبيك ولو كنت لا تحب أباك.
ترى أندرسون أن الأشخاص لم يكونوا واعين بذلك وتقترح أن ما يجري ليس بالضبط عملية مرتبطة بالوالدين كما كان يرى فرويد، بل هي عملية شائعة في الدماغ لتعريف تراكيب معينة لخصائص الأشخاص المهمين في حياتنا ثم إعادة استخدام تلك التراكيب والأنماط لنرى من يشبههم ولنعاملهم بنفس الطريقة. ما نقوم به هو عملية مطابقة أنماط ولا يحتاج ذلك إلى إقحام المزيد من المفاهيم من العلاج النفسي كالكبت أو المقاومة أو إدارة القلق. إن العلم الحديث يفسر تلك الظاهرة بشكل أكثر شمولاً وعمومية كوظيفة أساسية للاوعي المتكيف دون حاجة لشرح التحليل النفسي المعقد لها.
هل يمكن دس الرسائل الخفية لإقناع اللاوعي لدينا؟
بعد كل هذا قد تتساءل: هل يمكن إذن دس رسائل خفية لنا لنقتنع بشيء دون أن نعلم؟ كان هذا نص إحدى نظريات المؤامرة في منتصف القرن العشرين بأن الحكومات تمتلك وسائل لإدخال رسائل في أذهاننا. ويشاع الأمر ذاته على وكالات التسويق. لكن في الحقيقة، إن التجارب التي حاولت القيام بذلك وجدت أن القدرة على دس الرسائل بهذه الطريقة محدودة جداً.
أولاً، بالرجوع إلى الدراسة التي أجريت على اللاوعي والتي ذكرناها أعلاه حين قرأ الأشخاص عبارة “خسائر العدو”، يمكن ملاحظة أن اللاوعي المتكيف محدود إدراكياً بحيث أنه لم يتمكن من قراءة العبارة كعبارة واتخذ منها انطباعاً سلبياً. لا يعني ذلك عدم إمكانية دس الرسائل الخفية على الإطلاق. في إحدى التجارب، وضعت كلمات سلبية مع صور أشخاص بشكل سريع جداً، وانعكس ذلك على تقييمهم للأشخاص. لكن هذا من شبه المستحيل تنفيذه في الظروف الحقيقية كالتلفاز أو مقاطع الفيديو في الحاسوب، حيث لوحظ أن هناك الكثير من العوامل التي كانت تؤثر بشدة على وصول الرسائل الخفية للأشخاص، منها مستوى الإضاءة، وبعد الشخص عن الشاشة، وعدم وجود أي شيء يأخذ من انتباه الأشخاص.
لهذه الأسباب، فإن استخدام الرسائل الخفية في حملات التسويق أثبت فشله. على الطرف الآخر، فإن الإعلانات التقليدية أثبتت أثرها الكبير على سلوك المستهلكين في اقتناع الأشخاص أو على سلوك الناخبين في الانتخابات. تؤثر الإعلانات التقليدية أكبر بكثير وبشكل واضح من الرسائل الخفية، وكلنا نراها ونتبعها ونعلم بوجودها.
[1] هيث, and روبرت. “إغواء العقل الباطن سيكولوجية التأثير العاطفي في الدعاية والاعلان.” (2016).