كيف فهم المنظّرون فسيولوجيا الدماغ قبل علم الأعصاب الحديث؟ هناك الكثير من الأسئلة حول طريقة نظر المجتمعات ما قبل الحداثة للعقل واضطراباته وربط تلك الاضطرابات بالكثير من الأساطير. ركزت النظرة الأوغسطينية للعالم والتي كانت راسخة بقوة في الغرب في العصور الوسطى على الدوافع الداخلية لأفكار الفرد وسلوكه. وظهر اهتمام جديد بالقصدية (Intentionality) في كتابات علماء الدين والأخلاق في القرن الثاني عشر، وأدى إلى شكل جديد من ثقافة الاعتراف التي أكدت على الحالة الداخلية لروح الفرد وعقله، ولا سيما الرغبات التي تسببت في أفعال خاطئة. اكتشف اللاهوتيون الدوافع المريبة أخلاقياً وراء الأفعال البشرية، وبهذه العملية صاغوا علم نفس متجذر في نظرة سلبية بشكل عام للطبيعة البشرية.

اعتقد المنظّرون حينها أن الخيال هو مخزن الصور الذي يقع في الجزء الأمامي من الدماغ، ويسيطر على العقل والإحساس أثناء النوم. نتيجة لذلك، يمكن أن تظهر المخاوف والصدمات أثناء النهار بالنسبة لبعض النائمين، مما يجعلهم يتصرفون ويتفاعلون أثناء نومهم بطرق لا يستطيعون أو لا يرغبون بالقيام بها في حالة اليقظة. لذلك نُظر في العصور الوسطى إلى الاضطرابات النفسية ومن ضمنها السير أثناء النوم على أنه حالة خطيرة ومرض من أمراض الدماغ. كان يُنظر إلى الذي يمشي أثناء نومه على أنه فارس يسلّح نفسه، وأحياناً يمتطى حصانه ويقاتل بسيفه الأعداء الموجودين في مخيلته فقط.

لم يكن السائر أثناء النوم بالنسبة لأطباء العصور الوسطى المثقلين بكتابات أرسطو النفسية مصدراً للدهشة فحسب، بل كان أيضاً مصدراً للارتباك والتعقيد، لأنه ينتقل بين اليقظة والنوم، بين الداخل والخارج وبين الخيال والواقع. في القرن التاسع عشر وهي فترة رئيسية في تطور علوم الأعصاب، تم تمثيل ظاهرة المشي أثناء النوم في أوبرا إيطاليتين شهيرتين: لا سونامبولا (sonnambula  لفينشنزو بيليني (Vincenzo Bellini) وماكبث

(Macbeth) (اللوحة أعلاه) لجوزيبي فيردي  يمكن اعتبار أوبرا القرن التاسع عشر نقطة عبور بين العالم الشعبي والفكري لأنها تعكس الإجابات الشعبية على الظواهر التي كانت لا تزال تنتظر التفسيرات العلمية. ويجب ألا ننسى بأن السير أثناء النوم في مسرحية شكسبير ماكبث كان يُنظر إليه على أنه اضطراب عصبي نفسي ومظهر من مظاهر القلق الداخلي. لكن ما تفسير العلم الحديث لهذه الظاهرة التي ارتبطت بالكثير من الأساطير؟

وصف الحالة

المشي أثناء النوم هو حالة انفصال بين نوم العقل ونوم الجسد ويشير إلى العديد من السلوكيات الحركية المعقدة والتي تبدأ أثناء النوم العميق في المرحلة الثالثة وهي مرحلة حركة العين غير السريعة (non-rapid eye movement) والمرحلة الرابعة هي مرحلة الموجات البطيئة (slow wave sleep). (1)

قد تقتصر نوبات المشي أثناء النوم على الجلوس فقط والتقاط أغطية الفراش وتحسس الأشياء والتمتمة. وقد يتجوّل السائرون أثناء النوم بهدوء بلا وجهة أو هدف، وقد يصرخون ويركضون بغضب ويسلكون سلوكاً عدوانياً. (1)

كيف تعمل أجزاء الحركة في الدماغ أثناء النوم؟

يُعد المشي أثناء النوم اضطراباً في الاستيقاظ المتكرر ولكن غير مكتمل في المرحلة الرابعة من النوم العميق (slow wave sleep). وتشير الاكتشافات إلى أن سبب الانفصال بين نوم العقل ونوم الجسد هو تنشيط مسارات المهاد الحزامية (cingulate thalamic pathways) والتعطيل المستمر لأنظمة الاثارة المهادية القشرية الأخرى (thalamic activating system). (1)

عند الأشخاص الأصحاء، أظهرت دراسات التصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني (Positron Emission Tomography) أن تعطيل مناطق الارتباط غير المتجانسة هو ما يميّز النوم. هذا التعطيل لقشرة الفص الجبهي أثناء النوم العادي والمشي أثناء النوم يفسر أيضاً الافتقار إلى الوعي الذاتي والبصيرة والتذكر الذين يميزون كلتا الحالتين. من ناحية أخرى، فإن تنشيط القشرة الحزامية وغياب تعطيل المهاد الموجود في مرضى المشي أثناء النوم يتناقض مع التعطيل العميق أثناء مرحلة الموجات البطيئة (slow wave sleep) أي المرحلة الرابعة من النوم. لذلك، يبدو أن المشي أثناء النوم ينشأ من التنشيط الانتقائي للدارات المهادية والتثبيط المستمر لأنظمة الإثارة المهادية الأخرى. (1)

القشرة الحزامية (cingulate cortex) هي جزء من شبكة وظيفية تعدّل السلوكيات المتضمنة في العمليات العاطفية. يثير تحفيز القشرة الحزامية في البشر العديد من الاستجابات الحركية واللاإرادية والعاطفية التي تشبه تلك التي تظهر في السير أثناء النوم. بشكل عام، يمكن افتراض أن الاختلافات في المظاهر الحركية والعاطفية للسير أثناء النوم مرتبطة بأنماط تنشيط مختلفة للقشرة الحزامية. (1)

هل المشي أثناء النوم مرض؟

في دراسة نُشرت عام 2005 عن المشي أثناء النوم عند البالغين وعلاجه عن طريق اختبار النوم المتعدد (Multiple Sleep Latency Test MSLT) والذي هو تسجيل التغيرات الفيزيائية والحيوية عند المريض أثناء النوم كالموجات الدماغية ونسبة الأكسجين في الدم ومعدل ضربات القلب والتنفس وحركة العينين والرئتين، وتسمى نتيجة الاختبار مخطط النوم. على مدار الـ 25 عاماً، تمت إحالة جميع من يعانون من المشي أثناء النوم من البالغين إلى عيادة النوم، وقد تم إخضاعهم لاختبار النوم المتعدد. على مر السنين، بدأوا بعلاج اضطراب النوم المصاحب كأول خطوة علاجية. اشتمل العلاج على العلاج النفسي، والبنزوديازيبينات (Benzodiazepines)، والكاربامازيبين (Carbamazepine)، وحمض الفالبرويك (valproic Acid)، والإيميبرامين (Imipramine). أشار التقييم واختبار النوم المتعدد إلى أن 99 من أصل 101 مريض يعانون من متلازمة توقف التنفس أثناء النوم (obstructive sleep apnoea syndrome OSAS) أو من متلازمة مقاومة مجرى الهواء العلوي (upper airway resistance syndrome UARS) لم يكن جميع المرضى على دراية باضطراب التنفس أثناء النوم [2] (sleep-disordered breathing SDB.)

بناءً على نتائج الاستقصاء، تم بناء استراتيجية علاج وتم التخطيط لتطبيقها على النحو التالي:

  1. المرضى الذين لديهم تاريخ من الصدمات النفسية أو الاضطرابات النفسية الهامة سيحالون إلى طبيب نفسي كخطوة أولى للعلاج. سيعاد التقييم بعد 6 أشهر من بدء العلاج. إذا لم تُلحظ أي استجابة للعلاج الذي ينفذه الأخصائي بعد هذه الفترة البالغة 6 أشهر، سيتم النظر في خطوة مرتقبة أخرى.
  2. سيتم علاج جميع المرضى الآخرين الذين يعانون من اضطرابات مرتبطة بالنوم مثل متلازمة تململ الساق (restless leg syndrome RLS) واضطراب حركة الأطراف الدورية (periodic limb movement disorder/ PLMD) كخطوة أولى للعلاج. سيحصل جميع المرضى على جهاز (Continuous positive airway pressure) للأنف ( جهاز ضغط مجرى التنفس الإيجابي: وهو وسيلة للتهوية التنفسية المستخدمة في علاج توقف التنفس أثناء النوم) من أجل اضطراب التنفس أثناء النوم (Sleep-disordered Breathing/SBD).
  3. سيتم إجراء إعادة تقييم كاملة بعد 6 أشهر من بدء العلاج.
  4. سيعرض على الأشخاص غير المتوافقين مع جهاز CPAP خلال 6 أشهر خيار العلاج الجراحي.
  5. سيتم إجراء إعادة تقييم كاملة بعد 12 شهراً من العلاج الأولي للأشخاص المتوافقين مع العلاج. بالنسبة للأشخاص الذين يقررون الخضوع لعملية جراحية، سيتم إجراء إعادة تقييم كاملة بعد 12 شهراً من آخر علاج جراحي.
  6. في ختام 12 شهراً من تقييم الدراسة، سيتم نسخ جميع سجلات تخطيط النوم على قرص مضغوط، دون الإشارة إلى التاريخ والتشخيص.
  7. سيتم إجراء التقييم النهائي للاستجابة للعلاج بعد تسجيل ووضع جميع البيانات في قاعدة بيانات محوسبة.
  8. سيتلقى جميع الأشخاص تعليمات حول تنظيم النوم. نصح المرضى بالحفاظ على جدول نوم منتظم وتجنب الكحول واتباع توصيات السلامة. تم توجيههم لإزالة الأشياء التي يحتمل أن تكون خطرة من الغرفة (مثل المرايا) ازالة العوائق من الأرضيات ووضع الستائر الثقيلة على النوافذ وقفل الأبواب والنوافذ؛ والنوم في الطابق الأرضي. طُلب من المرضى وضع فراشهم مباشرة على الأرض، وربما استخدام كيس نوم. (2)

أجرى جميع الذين يعانون من المشي أثناء النوم مقابلات سريرية. وقاموا بملء استبيان اضطرابات النوم وتم الحصول على تقييم منهجي لحالة الأنف والأذن والحنجرة والفكين باستخدام المقاييس المعيارية. تم إجراء مقابلة مع شركاء السرير المتاحين. في حالة عدم توفر شريك في الفراش، سُئل أحد أفراد الأسرة الذي شهد السير أثناء النوم. تم إرسال استبيان إلى أحد أفراد الأسرة يتعلق بطفولة المريض وتجارب العلاج التي خضع لها.

النتيجة: كان هناك ارتباط بين استخدام CPAP (جهاز ضغط مجرى التنفس الايجابي) والغياب التام للسير أثناء النوم، كما ورد من قبل كل من الأشخاص والشركاء في السرير خلال المتابعة لمدة 6 أشهر. أيضاً، جميع الأشخاص الذين قبلوا العلاج الجراحي لاضطراب التنفس أثناء النوم (SBD) أصبحت لديهم سيطرة جيدة على هذا الاضطراب. أظهرت إعادة التقييم الكاملة بعد 12 شهراً من آخر علاج جراحي أن مؤشر توقف التنفس أثناء النوم (The apnea-hypopnea index/AHI) منخفض جداً في جميع الحالات. أفاد الأشخاص والشركاء في السرير أيضاً عن الغياب التام لأحداث السير أثناء النوم خلال الأشهر الستة الماضية على الأقل. (2)

لم تكن تلك الدراسة قادرة على معالجة السؤال لماذا يكون المرضى من ذوي اضطرابات النوم الأخرى أكثر عرضة للسير أثناء النوم؟ كما أنه ليست كل الحالات التي تعاني من متلازمة توقف التنفس أثناء النوم OSAS ومن متلازمة مقاومة مجرى الهواء العلوي UARS مصحوبة بالسير أثناء النوم.

هناك دراسة أخرى نشرت عام 2006 والتي تؤكد نتائجها ما ورد في التجربة السابقة إلى أن السير أثناء النوم المزمن لدى كل من الأطفال والبالغين مرتبط باضطراب نوم آخر، غالباً ما يكون خفياً، مثل متلازمة مقاومة مجرى الهواء العلوي ومتلازمة تململ الساقين ومتلازمة حركة الأطراف الدورية، ويمكن أن يؤدي علاج هذه المتلازمات المصاحبة إلى القضاء على نوبات السير أثناء النوم أو تقليلها بشكل ملحوظ. (3)

هل يعمل الإحساس بالألم في فترة المشي؟

بينت دراسة نشرت في آذار 2015 أن الصداع مدى الحياة والصداع النصفي والألم مرتبط بشكل كبير بالسير أثناء النوم. أبلغ السائرون أثناء النوم عن زيادة النعاس أثناء النهار وأعراض الاكتئاب والأرق. لكن 78.7% منهم ممن شارك في الدراسة لم يشعروا بأي ألم أثناء النوبات مما سمح لهم بالبقاء نائمين رغم وجود ألم. والسبب أن اضطراب النوم الذي يسببه السير أثناء النوم يؤدي إلى تخفيض عتبة إدراك الألم والتأثير على إنتاج الألم خلال نوبة السير أثناء النوم. (4)

الإحساس بالألم هو عملية معقدة تنطوي على الاتصال بين الجهاز العصبي المحيطي والمركزي. وآليات تثبيط النشاط داخل الدوائر المهادية القشرية (Thalamocortical circuit) قد تمنع نقل المعلومات الحسية إلى القشرة الدماغية، وبالتالي تحفز التسكين وعدم الشعور بالألم. ولذلك، لم يلاحظ معظم السائرين أثناء النوم أي ألم أثناء النوبات العنيفة للمشي أثناء الليل، مما سمح لهم بالبقاء “نائمين”. قد يفسر فقدان الوظيفة المثبطة للقشرة الأمامية الجدارية مع تنشيط القشرة الحزامية والحركية الأنماط السلوكية المعقدة والتأثير المسكن أثناء تلك النوبات. (4)

 ماذا عن الكلام أثناء المشي في النوم؟

يعتبر الكلام وظيفة معقدة عند البشر، لكن الخصائص اللغوية للحديث أثناء النوم غير معروفة. عادة ما تكون اللغة أثناء النوم محادثة مألوفة يسودها التوتر، مما يوحي بوجود صراعات. في دراسة نشرت عام 2017 على مئتين وثلاثين شخصاً تتراوح أعمارهم بين 20 و49 عاماً، تبيّن أن 87 شخصاً ممن يعانون من المشي أثناء النوم يتحدثون أثناء نوبة المشي. هناك كلام غير مفهوم يسوده الصراخ أو الهمسات أو الضحك. وفي بعض الأحيان يكون الكلام مفهوماً وتكون كلمة ” لا” هي الأكثر شيوعاً. 9.7% من الكلمات كانت نابية تدين شخصاً ما. (5)

المصادر:

(1) Bassetti, C., Vella, S., Donati, F., Wielepp, P., & Weder, B. (2000). SPECT during sleepwalking. Lancet (London, England), 356(9228), 484–485. https://doi.org/10.1016/S0140-6736(00)02561-7

(2)Guilleminault, C., Kirisoglu, C., Bao, G., Arias, V., Chan, A., & Li, K. K. (2005). Adult chronic sleepwalking and its treatment based on polysomnography. Brain, 128(5), 1062–1069. https://doi.org/10.1093/brain/awh481

(3)Guilleminault, C., Kirisoglu, C., da Rosa, A. C., Lopes, C., & Chan, A. (2006). Sleepwalking, a disorder of NREM sleep instability. Sleep Medicine, 7(2), 163–170. https://doi.org/10.1016/j.sleep.2005.12.006

(4) Lopez, R., Jaussent, I., & Dauvilliers, Y. (2015). Pain in Sleepwalking: A Clinical Enigma. Sleep, 38(11), 1693–1698. https://doi.org/10.5665/sleep.5144

(5)Arnulf, I., Uguccioni, G., Gay, F., Baldayrou, E., Golmard, J.-L., Gayraud, F., & Devevey, A. (2017). What Does the Sleeping Brain Say? Syntax and Semantics of Sleep Talking in Healthy Subjects and in Parasomnia Patients. Sleep, 40(11). https://doi.org/10.1093/sleep/zsx159