وجدت بعض الأبحاث أن الجموع لامبالية ولا تبدي أي مساعدة، بينما وجدت أبحاث أخرى العكس فأين هي الحقيقة؟

وفقاً لتأثير المتفرج: فمن الممكن أن تحتضر في الشارع نتيجة إصابات خطيرة، ويتخطاك الناس وهم يجرون عرباتهم حولك، دون أن يبالي أحدٌ منهم. لما لا؟ قد يفترضون جميعهم أن شخصاً آخر سيفعل ذلك. أو ربما يفترضون أن عدم وجود أي شخص آخر لتقديم المساعدة، هو أنك لست بحاجة إليها، إذا لماذا القلق. في الواقع، ما سمعنا به جميعاً عن تأثير المتفرج هو أنه كلما زاد عدد الأشخاص الموجودين حولك، كلما قلّ احتمال أن يساعدك أي منهم! وقد اعتبرت هذه الظاهرة أحد أساسيات العلوم الاجتماعية. ولكن ربما سمعت بعد ذلك أن بحثاً أحدث قد أثبت العكس. اليوم سنلقي نظرة دقيقة على أصول تأثير المتفرج، وسنصل في النهاية إلى نتيجة مدعمة بالحقائق بشكل أفضل.

كان الحدث الذي أدى إلى البدء بالبحث في تأثير المتفرج (أو اللامبالاة عند المتفرج، كما كان يُطلق عليه في ذلك الوقت) هو اغتصاب وقتل كيتي جينوفيز (Kitty Genovese) التي كانت تبلغ من العمر حينها 28 عاماً في نيويورك عام 1964. ذكرت صحيفة نيويورك تايمز (New York Times) أن حوالي ثمانية وثلاثون شخصاً شاهدوا أو سمعوا بذلك الهجوم، لكن لم يتدخل أحد منهم للمساعدة. صُدم الناس بردة الفعل هذه، وجعلت تلك الحادثة الجميع يتحدث عن اللامبالاة عند المتفرج.

لم يحدث أي تغير في وجهة النظر تلك في ذلك الوقت، ولكن بعد أكثر من 40 عاماً، نشرت صحيفة نيويورك تايمز تحقيقات صحفية حقيقية، وجدت أن الحقائق التي أوردتها المقالة الأصلية مبالغ فيها إلى حد كبير. لم يرى أو يسمع بالحادثة سوى عدد قليل من الناس، وظن القليل منهم أنه هجوم، كما قدّم ثلاثة أشخاص المساعدة إلى جينوفيز، لكن للأسف بعد فوات الأوان. لكن الحقيقة الأساسية بأن عدداً قليلاً من الشهود الذين شهدوا على الحادثة في بدايتها وكانوا على معرفة بما كان يحدث ومع ذلك لم يفعلوا شيئاً، لا يزال يدعم فكرة اللامبالاة عند المتفرجين.

لقد أثار موت جينوفيز أبحاثاً عديدة حول هذا المفهوم. ولعل الدراسة الأكثر شهرة عن تلك الأبحاث هي دراسة الغرفة المليئة بالدخان (Smoke Filled Room). في عام 1968، قام اثنان من الباحثين في علم النفس الاجتماعي، بيب لاتان (Bibb Latane) وجون دارلي (John Darley)، بإجراء سلسلة من التجارب للبحث عن تفسير لحالات مشابهة لحالة مقتل كيتي جينوفيز. كانت فرضيتهم هي أنه عندما يتواجد أشخاص آخرون، يكون احتمال تدخلنا في بعض حالات الطوارئ هو احتمال ضعيف. قاموا بعدد من التجارب المختلفة. أحدها كان عندما اتخذوا غرفة ووضعوا فيها صفاً من الكراسي، ثم جنّدوا أشخاصاً لملء بعض أوراق الاستبيان. قاموا بتقسيم الأشخاص إلى مجموعتين. تتكون المجموعة الأولى من الأشخاص الذين دخلوا الغرفة وجلسوا لملء الاستبيان وذلك بمفردهم مع عدم وجود أي شخص آخر في الغرفة.

لكن مشكلة قد حدثت؛ بعد بضع دقائق من ملء النموذج، بدأ دخان كثيف ومثير للقلق بالتسرب إلى الغرفة من خلال ثقب فيها. عند إدراك الخطر الواضح، غادر الغالبية العظمى من الأشخاص الغرفة على الفور لإبلاغ الباحثين عن الدخان. عندما كانوا بمفردهم كانوا شجعاناً ومندفعين.

لكن الأشخاص في المجموعة الثانية كان لديهم تجربة مختلفة إلى حد ما. كانت جميع الكراسي ممتلئة بأناس آخرين يعملون أيضاً على ملء نفس الاستمارة والذين كانوا حلفاءً وجزء من التجربة لكن دون علم أفراد المجموعة الثانية بذلك. عندما بدأ الدخان بالتصاعد، كانت مهمة الحلفاء الموجودين مسبقاً على الكراسي تجاهله. كل شخص في المجموعة الثانية في الغرفة قد لاحظ بأنهم كانوا جميعاً على وشك الإحتراق حتى الموت. ومع ذلك، ربما التفكير في أن هؤلاء الآخرين يعلمون ما الأمر بشكل أفضل أو يعرفون أن الدخان لم يكن مشكلة، أو ربما لأن الآخرين كانوا أقرب إلى الثقب أو الباب وسيقومون بحل المشكلة أولاً، لم يتخذ أفراد المجموعة الثانية أي إجراء.

في النهاية، تدخل 75٪ من الأشخاص الذين كانوا بمفردهم في المجموعة الأولى في حادثة الدخان، وتدخل فقط 10٪ من أفراد المجموعة الثانية الذين كانوا محاطين بأشخاص آخرين. كان الاختلاف مذهلاً، وبدا أنه يؤكد فرضية لاتان ودارلي. لقد نسبوا ذلك إلى تجاهل الأغلبية، والذي تتبنى فيه عدم الاهتمام الذي يُظهره الآخرون من حولك، لأنك تفترض أن عدم قيامهم بفعل ما، يعني عدم الحاجة إلى اتخاذ أي إجراء؛ ونسبوا ذلك أيضاً إلى ظاهرة انتشار المسؤولية؛ يحدث هذا عندما يكون هناك الكثير من الأشخاص حولك أكثر مما هو مطلوب لمهمة معينة، حيث أنه لا جدوى من كونك الشخص الذي يقوم بذلك. كل من حولك مسؤول، بمعنى ما، لا أحد مسؤول.

اجرى الباحثان تجارب أخرى أيضاً، بما في ذلك تجربة سار فيها أحد الأشخاص في الشارع عندما ظهرت امرأة في حالة كرب وضيق. عرض الأشخاص المشاركون في الدراسة الذين ساروا بمفردهم المساعدة بنسبة 70٪ من المرات؛ ولكن عندما فرض المجربون عليهم شخصاً غريباً يمشي معهم، عرض المشاركون المساعدة بنسبة 40٪ فقط من المرات. وجود شخص واحد فقط حوّل رد فعل المشاركين وجعلهم غير متأكدين وثبّط تدخل غالبيتهم.

توصّل لاتان ودارلي إلى عبارات لا لبس فيها:

كلما قل عدد الأشخاص المتاحين لاتخاذ الإجراءات، كلما زادت فرصة الضحية في الحصول على مساعدة أو الإبلاغ عن الحالة الطارئة.

وهكذا دخل تأثير المتفرج المجال العام في علم النفس الاجتماعي. من المرجح أن يتخذ الشخص الواحد، أو المجموعة الصغيرة، إجراءات أكثر من المجموعة الكبيرة.

ولكن بعد ذلك في عام 2019، أُعلن عن زيف العلم الكامن وراء تأثير المتفرج في كل مكان. حيث راقب الباحثون النزاعات العامة الفعلية في الحياة الواقعية واكتشفوا أن مجموعات كبيرة من المارة يقدمون المساعدة، طوال الوقت تقريباً. هذا عنوان رئيسي في مجلة نيو ساينتست (New Scientist):

تأثير المتفرّج: نتائج مشهورة لعلم النفس يمكنها أن تكون خاطئة بالكامل.

وفي مجلة علم النفس اليوم (Psychology Today):

تقترح دراسة جديدة أن لامبالاة المتفرج ليس معياراً أو قاعدة سلوكية

ومن الأخبار العلمية على نيو أطلس (New Atlas):

دحض تأثير المتفرج: تكشف دراسة أنظمة المراقبة بالفيديو(CCTV) أن الأشخاص يتدخلون في الصراع أكثر مما هو متوقع

حتى صحيفة واشنطن بوست ((Washington Post قد أشادت بهذا التطور الجديد المروع للجماهير:

عليك نسيان ما قد قيل لك. فهناك دراسة جديدة تقول بأن الغرباء يقدمون المساعدة بنسبة 90 % من الوقت

كل ما نشرته عناوين في عام 2019 تشير إلى أن تأثير المتفرج قد انقلب رأساً على عقب وقد تم دحضه. تبيّن أن المارة يفعلون ذلك ويتدخلون؛ إنهم لا ينظرون بطريقة غير مبالية ويغمضون أعينهم على أمل أن يقوم شخص آخر بحل المشكلة.

ما فعلته هذه المجموعة الجديدة من الباحثين هو دراسة “النزاعات العامة”؛ بشكل أساسي مشاجرات الشوارع التي التقطتها كاميرات المراقبة. من بين أكثر من 1200 صراع تم تسجيله، تم تحليل 300 حالة صراع متماثلة تتراوح من “الخلافات الحادّة” إلى “العنف الجسدي المميت” في المناطق الحضرية لثلاث مدن: لانكاستر في المملكة المتحدة، وأمستردام في هولندا، وكيب تاون في جنوب إفريقيا، تلك المدن التي تضم مستويات مختلفة إلى حد كبير من جرائم العنف. في جميع الأماكن الثلاثة، بغض النظر عن مستوى الجريمة الطبيعي عندهم، كانت هناك فرصة متساوية بنسبة 90٪ أن يتدخل واحد أو أكثر من المتفرجين في النزاع، وكانت هذه الفرصة أعلى عندما كان هناك عدد أكبر من المتفرجين. كتب الباحثون:

وفقاً للحكمة التقليدية، بأن هناك آفة تتمثل في عدم مشاركة المارة أثناء حالات الطوارئ العامة. وتحّدياً لوجهة النظر هذه، بينت الدراسة الحالية العابرة للدول لبيانات الفيديو، أن التدخل هو المعيار الأساسي في النزاعات العدوانية الفعلية، حيث يكون احتمال مساعدة شخص ما أكبر في الأماكن الأكثر ازدحاماً. وهذا مطمئن لضحايا العنف المحتملين.

من المؤكد أن هذه النتائج تبدو وكأنها تُسقط ليس فقط فرضية لاتان ودارلي، ولكن تقريباً كل مدرسة علم نفس وكل كتاب دراسي على هذا الكوكب. كيف يمكن أن تكون نتائج الغرفة المليئة بالدخان (Smoke Filled Room) خاطئة إلى هذا الحد؟ إذا كانت النتائج الأخرى التي نراها صحيحة، فما الذي يمكن أن يفسر التبليغ فقط عن حالة طوارئ الدخان بنسبة 10٪ من الوقت؟ يكمن التفسير في تصميم التجربة.

عند أخذ كل هذه الحالات في نظر الاعتبار – سواء كان الأمر يتعلق بـكيتي جينوفيز (Kitty Genovese)، أو الأشخاص في الغرفة المليئة بالدخان (Smoke Filled Room)، أو النزاعات العامة التي تم التقاطها بواسطة كاميرات المراقبة في المدن الثلاث، أو أي من الحالات الأخرى التي لا تعد ولا تحصى حيث كانت هناك فرصة لأحد المارة بالتدخل – هناك على ما يبدو استنتاج واحد تدعمه جميع البيانات. في الغالبية العظمى من هذه الأحداث، يتدخل المتفرجون بنسبة 80٪ من الوقت. هذا رقم تقريبي، لأنني أقارن جميع مجموعات البيانات المتنوعة، لكن الرقم الحقيقي يبقى ضمن 10٪ في جميع الحالات التي تمت دراستها. ويبدو أن هذا الرقم ثابت سواء كان هناك متفرج واحد أو مائة. حيث أن 80٪ من الضحايا تتم مساعدتهم، وحوالي 80٪ من الأزمات الأخرى تتلقى مساعدة من أي نوع.

ومع ذلك، في غرفة مملوءة بالدخان، لوحظ التدخل بنسبة 10 ٪ فقط من الوقت. لماذا ا؟ السبب ببساطة هو أن جميع الموجودين باستثناء واحد منهم فقط كانوا شركاء في التجربة وطُلب منهم عدم التصرف.

لو صمم لاتان ودارلي تجربتهم بشكل أفضل، ولم يكن هناك حلفاء مشاركون وكل الناس في الغرفة خاضعين لنفس التجربة، فإن البيانات ستظهر أن معدل التدخل سيكون 80٪ أو ما يقارب. رأينا أن المشتركة الوحيدة فقط الموجودة مع ستة من الحلفاء، تجوب بنظرها حول الغرفة وتفكر فيما إذا كان عليها التصرف أم لا، لكنها كانت تعدل عن رأيها دائماً بسبب الأشخاص الآخرين المحيطين بها. كان بإمكان أي واحد منهم أن يتصرف في أي لحظة، ولذلك امتنعت. كانت الطريقة التي صُممت فيها التجربة اختباراً مثيراً للاهتمام فيما يتعلق بموضوع الضغط على الأقران، لكنها لم تكن اختباراً مناسباً لتأثير المتفرج. عند التحكم في رد فعل معظم المارة، فإنهم سيكسرون القاعدة العامة.

إذن ماذا عن كيتي جينوفيز؟ لقد كانت حالة مؤسفة بما يكفي لتكون من بين 20٪ من الحالات التي لا يتدخل فيها المارة. لا يهم ما إذا كان هناك 38 شخصاً أو اثنين فقط. يبدو أن قاعدة 80٪ صحيحة. حوالي 20٪ من الوقت، تكون الضحية على مرأى من الجميع ولن تتلقى أي مساعدة. بسبب تجاهل الأغلبية وانتشار المسؤولية التي حددها لاتان ودارلي بشكل صحيح، يقل احتمال تدخل كل واحد منا على حدة مع تزايد عدد زملائنا المتفرجين؛ لكن احتمال تدخل المجموعة ككل يظل كما هو.

لقد فات الأوان لمساعدة كيتي جينوفيز، لكن موتها ساعد في إنشاء نظام هاتف الطوارئ 911. السؤال يكمن فيما إذا كان جعل طلب المساعدة أمراً سهلاً من خلال طلب ثلاث أرقام فقط، من شأنه أن يرفع المعدل الأساسي 80%. آمل ذلك بالتأكيد. ربما هذا هو المجال التالي للدراسة.

المصدر:

Dunning, B. “Observing the Bystander Effect.” Skeptoid Podcast. Skeptoid Media, 13 Oct 2020. Web. 25 Dec 2020. https://skeptoid.com/episodes/4749