إلى جانب ما تناولته أشهر طروحات المشككين في الغرب حول مفهوم “الفكر السحري” يخط الكاتب اليميني محمد علي عطبوش حجر أساس راسخ لتوضيح هذ المفهوم في الإسلام مثلما هو موجود في اديان وحضارات قديمة اخرى.

يُعد اعتماد مصطلح الفكر السحري أمراً موفقاً، فهو يغطي أوسع أنماط السلوكيات اللاعقلانية في تفسير العالم والنظرة المشوهة لقوانينه، بدءاً من أبسط السلوكيات الشائعة في العادات اليومية والتي يعتقد أصحابها بفعالية معينة لكي يجري يومهم بشكل أفضل، وانتهاءاً بكون الفكر السحري يمثل نمطاً متكاملاً من التفكير والسلوك والفهم لقواعد سير العالم، ويشتمل المصطلح أيضا على مختلف أنواع الخرافات ودعائمها القديمة والحديثة من علوم زائفة تبررها أو نصوص مقدسة تعززها.

إذاً فعند قراءة الكتاب عليك أن توسع مفهوم السحر والفكر السحري كثيراً، لا بما ينحصر بدكاكين الشعوذة في الحارات العربية الشعبية اليوم فحسب. بل بنمط شامل متعدد الابعاد من الطقوس والممارسات اليومية والمظلة الفكرية لكل ذلك، وبكل ما أتت به مخيلة الشعوب القديمة. يذكر الكتاب في النهاية تشبيهاً للسحر في العصور القديمة بالعلم اليوم، فكما اننا نمتلك غطاء واسع من النظريات العلمية التي تشرح القوانين الدقيقة في فهم العالم اليوم، كان الامر في الماضي قائما على التفسيرات الخرافية وما تستطيع ان تقدمه، وكل هذه التفسيرات وما يترتب عليها من ممارسات تندرج تحت الفكر السحري.

بدايات الفكر السحري

في البداية علينا أن نعرف أن نشوء الفكر السحري -كما يشرح الكتاب- قد لا يكون سوى مهداً للعقلانية ولطرق الاستقراء والاستنتاج والتجريب. أجلى صورة لذلك تتضح في المثال الذي يفتتح به، حيث تقوم القبائل الصينية في العصور الغابرة بقرع الطبول اعتقاداً منها بأن ذلك سيُنزل المطر بعد ارتقاء جبل مرتفع، ومن حيث تبدو تلك الرواية بعيدة تماماً عن المنطق، فقد يكون لها أصل منطقي، حيث يرى بعض الانثروبولوجيون أن القبائل هذه تصعد إلى الجبال في أوقات من السنة تكون الغيوم فيها مشبعة بحبيبيات الماء، وأن الموجات الصوتية الناتجة من قرع الطبول قد تخلخل بعضها فتسقط فيرى هؤلاء صحة اعتقادهم.

مع هذا المنحى التطوري يتجه الكتاب شارحاً بدايات الفكر السحري كنوع بدائي جداً من الاستقراء وفهم السببية. استشهدنا سابقاً في مقال تحليل الخرافات الشعبية الطبية في العراق بالكتاب تحديداً في نقطة معينة يشير لها، وهي أيضاً دلالة على بعض الأسس المنطقية للخرافات، حيث ينقل عن جيمس فريزر ما عرفه الأقدمون بسحر المشابهة أو “سحر العدوى”، إذ يميل البشر للاشمئزاز من كثير من الأشياء ومنهم من يعرف ما فيها من اتساخ ومنهم من كان يفسرها في الماضي (وفي الحاضر أيضاً) بأنها ضربٌ من السحر. هؤلاء ببساطة لم يعرفوا تحديداً داعي الاشمئزاز ومسبب الضرر فيه فافترضوا أنه سحر، غير أن الداعي المنطقي له قد يكون الخوف من العدوى وانتشار الامراض.

ومن تلك المعتقدات بالأشياء وسحرها، تتفرع النظرة إلى قدسية أشياء أخرى كالنار، أو الحجارة التي تُضرب لإشعال النار. وهكذا يدخل الكتاب مع طيف آخر من أطياف تفاعل البشر مع تفسيراتهم السحرية تلك، حيث يدخل دور الآلهة، وتمتزج الكهانة بالطقوس السحرية بل تتماهى بها ويصبحان شيئاً واحداً.

ثم يعرج الكتاب على دور آخر للسحر، وهو الدور النفسي الذي يملأ به فراغات وفجوات أعمال الإنسان البدائي وتقنياته التي يواجه بها الطبيعة ولا يثق بها ثقة تامة، فيملأ فجوة الثقة تلك بالطقوس السحرية. مثاله كان حول القبائل البولونيزية البدائية التي تؤدي طقوساً سحرية بعد بناء القوارب، لكنها لا تفعل الأمر ذاته حين بناء البيوت، فهم يملؤون فجوة الخوف حين يبنون القوارب بطقوسهم السحرية. ومن نمط التفكير هذا انبثقت الأديان البدائية وبدأت.

يتطرق الكتاب أيضاً إلى منعة الفكر السحري ووسائل مقاومته للتشكيك، والمتمثلة بالتفاصيل الدقيقة التي ينسجها السحرة والكهنة للطقوس السحرية، حتى إذا فشلت قالوا أنها لم تكن كاملة. فتمر الأيام ولا تتحقق النبؤات ولا يفلح الساحر، لكن الايمان بالسحر لا يتناقص، لهذا العامل وللعوامل السابقة فيما يملؤه السحر من دور تفسيري لظواهر العالم ومن دور نفسي.

ينتقل الأمر بعد ذلك إلى طور حرج، وهو ظهور الأديان التي تحارب السحر، ولسنا بصدد مناقشة هذا الطور من التحول لكن باختصار فهو يذكر اختلاف الآراء في العلاقة بين الدين والسحر، فهل هو مرحلة متقدمة منه؟ أم أن الدين نابعٌ من أفكار الارواحية (الاعتقاد بأن لكل شيء روح)، أم أنه حالة اكتشف بها البشر ضعف الروابط والصلات بين طقوسهم السحرية وبين الطبيعة ففكروا بسلطان أعظم يحكم تلك الطبيعة ويجدر بهم توجيه تلك الطقوس له.

الفكر السحري في الاسلام

حتى الآن لم نتطرق إلى الجزء الآخر من عنوان الكتاب وهو “الإسلام”، فكل عارف بشريعة الإسلام، يعرف أن الإسلام يحارب السحر، بل أن الأمر يُعد مثاراً للسخرية أن بعض الدول ما زالت تحاكم الساحر كنوع من المجرمين. كيف إذاً يكون هناك فكر سحري في الإسلام؟ وكيف يكون هناك سحر في الإسلام؟ هذا ما يشرحه محمد علي عطبوش في الكتاب، حيث يظهر أن طقوساً كثيرة في الدين الإسلامي ما هي إلا طقوس سحرية مشتركة مع اقوام أخرى مارستها وتمارسها، كما ينطبق على كثير من تلك الطقوس كافة ملامح السحر ومواصفاته. وكل ما يتعلق بالفكر السحري ضمن العلاقة المعقدة بين العلم والسحر والدين الإسلامي.

أول فصول الفكر السحري التي يمكن ملاحظتها في الإسلام هي في قضية الجن. والجن ليسوا أمراً جديداً أتى به الإسلام، بل الاعتقاد بهم موجود لدى العرب قبل الإسلام، ويرجع البعض ذلك الاعتقاد بأمر شبيه بالمعتقدات البدائية الطوطمية لدى الشعوب. وفي الإسلام ما يحقق هذا الربط المتوافر بين الجن وحيوانات معينة. يتناغم هذا مع معتقدات وقصص بدائية عربية سابقة حول تحول الجن الى حيوانات معينة وتحول حيوانات معينة إلى جن. ويتعزز هذا النوع من الطوطمية بنصوص إسلامية منها على سبيل المثال ما يدعو لقتل من جامع حيواناً وقتل الحيوان معه، وكأن الحيوان يعقل ويساهم في الفعل او النصوص التي تدعو حيوانات معينة بشكل عام كالكلاب او الكلاب السود تحديداً او الافاعي او الوزغ مع ما يتصل بذلك من اساطير حول ان تلك الحيوانات هي من الجن.

أما القضية الثانية في علاقة الاسلام بالسحر، فيشير إليها الكتاب في أنها ليست تحريماً بدافع التشكيك، بل تحريم نابع من الاعتقاد بتأثير السحر وفعاليته، لكنه محرم في نفس الوقت. وهذا قد يكون تشجيعاً بحد ذاته. فالسحر في الإسلام مثلاً يبدو وكأنه تلاعب بالقوانين الأساسية للعالم فيما لا يُسمح به ولا يجوز الاقتراب منه (كتحذير الأطفال من اللعب بمفاتيح الكهرباء). أي ببساطة، إن السحر محرم لضرره لا لبطلانه كما يوجز الكتاب. بل هو خطر لا يستهان به وقد اعدت التعاويذ والرقى والطقوس المختلفة للوقاية منه مثل اكل سبع تمرات في الصباح، والحذر في دفن الشعر والاظافر وغير ذلك من الأمور.

يذكر الكتاب عددا كبيرا من الملامح السحرية في الطقوس الموجودة في الإسلام حاليا، والتي نقول عنها سحرية لانها تلتقي مع طريقة التفكير القائمة على الفكر السحري في تفسيرها للعالم وما يحدث فيه، لا على القوانين الحقيقية للعالم. فالعطاس والتثاؤب لها دلالات معينة محمودة او مذمومة وهي تلتقي في دلالاتها السحرية مع العديد من الشعوب في العالم. ولمواقع النجوم دورٌ فيما يجري في العالم، طقوس استجواب الميت ليخبر من هو قاتله كما يحدث لدى بعض القبائل البدائية، العلاج بالتفل، النفث لطرد الشرور وللعلاج، الاعتقاد بالعين الشريرة (الحسد) وغير ذلك من الطقوس التي ما زالت حاضرة حتى يومنا.

السحر السياسي في الإسلام

لو ألقينا نظرة على علماء الحضارة الإسلامية لوجدنا أن نسبة كبيرة منهم عملوا في علم الفلك، لكن هذا غير دقيق، فمع النظر الى منجزاتهم سنجد التحديثات التي قاموا بها لعمل الاسطرلاب وسنجد الجداول الفلكية (الزيج). كل ذلك في الحقيقة لا يخدم غرضاً علمياً، بل منهجاً وفكراً سحرياً، وهو التنجيم. هذا ما يقودنا اليه الكتاب، وهو يقودنا إلى أمر آخر، وهو ملازمة المنجمين للخلفاء ولحكام المسلمين وتحولهم الى جزء أساسي في اتخاذ القرار.

التنجيم بحد ذاته ليس سمة لفترة بدايات الإسلام، رغم وجود موقف شبيه بالموقف الإسلامي تجاه السحر. وتتضارب النصوص الدينية حول طرح احتمالية لمصداقية المنجمين، وحول صحة المبدأ ذاته (مواقع النجوم)، وحول شرعية استخدامهم. ويتركز هذا الانقسام كما يوضح الكتاب في مواقف السلطة التي تعتمد على المنجمين، والمعارضة التي تحشد الدليل المعارض للتنجيم والذي لا يجيزه شرعاً. غير أن المنجمين بشكل عام كانوا جزءاً من الصورة لفترة طويلة جداً من التاريخ الإسلامي، ووجودهم كان أساسياً في سلالات حاكمة كثيرة في العالم الإسلامي.

السحر والعلم والاسلام

يتجلى الاضطراب بوضوح في العلاقة بين السحر والعلم في الإسلام. ويندرج هذا الاضطراب تحت ثلاث فئات، أولها تحريم العلم لوجود الطابع السحري فيه. وثانياً، وجود الطابع السحري أساساً في معظم العلوم. وثالثاً، القيود الدينية على بعض العلوم لأسباب أخرى. نقتبس من الكتاب حول الفئة الأولى “وقد رأينا مثال هذا التناقض في عصرنا الحديث بتحريم الدراجة الهوائية والراديو والتلفاز ومكبرات الصوت الشتباه تسخير الجن فيها إلى حد قيام الشيخ النقشبندي برجم مكبرات الصوت بالحجارة داخل الحرم المكي في ثلاثينيات القرن الماضي.” هذا الجانب كثير الحدوث بل وأكثر حدوثاً كلما اتجهنا بالسنوات الى الوراء.

اما الجانب الثاني، فيتناول الكتاب بالتفصيل كافة العلوم التي كانت متداولة في الماضي، والأمر الأول الذي يدعو للخلط بين العلم والسحر، أو وجود الطابع السحري في العلم هو المبدأ الإسلامي حول المسببات أي الاعتقاد بأن المسببات لا تؤثر بذاتها بل تؤثر لاسباب أخرى (كالارادة الربانية) وبذلك تستوي المؤثرات الحقيقية لدى بعض الفقهاء مع الخرافات كالسحر والتنجيم. وهكذا تُعامل معظم العلوم معاملة السحر كالكيمياء التي استنكرها وعارضها كثيرون ومنهم ابن تيمية. خضعت علوم كالكيمياء إلى نقاشات طويلة بين الانكرار والاقرار وبين التحريم والتحليل وقد مر كل ذلك بطريق خاطئ من الأساس في النظر إلى الأمر.

مع ذلك، فالكتاب يوضح الجانب السحري في علوم عديدة لم تكن علوماً بالمفهوم الذي نعرفه اليوم، فعلى سبيل المثال كان هناك مزج كبير بين الأطباء والعرافين يذكر الكتاب نصوصاً كثيرة حوله قبل وبعد الإسلام، كما نجد أن كثيراً من الأطباء هم منجمون في نفس الوقت والعكس صحيح. أما الطب فينقلنا الى الجانب الثالث في هذه العلاقة، وهو التحريم للتعارض مع التوكل (من اكتوى واسترقى فقد برئ من التوكل). فضلاً عن وجود الجانب الآخر في المزج بين العلم والسحر فيقال مثلاً مطبوب أي مسحور في دلالة الى سوء الفهم والمزج بين الطب والسحر في ذلك الوقت. ولا ننسى أن نذكر التفسيرات الخرافية للامراض كربطها بالجن (الطاعون وخز اعدائكم الجن). ورغم أن الطب كان افضل حظاً من المجالات الأخرى غير أنه لم ينجو من الكراهة او التحريم.

ورغم ندرة بوادر المنهج التجريبي بين علماء الحضارة الإسلامية، غير أنه ظهر بشكل واضح لدى جابر بن حيان وابن الهيثم الذي يعد رمزاً بارزاً للمنهج العلمي بين علماء الحضارة الإسلامية. مع ذلك فإن هذا لم يؤثر في تغير صورة الفكر السحري وهيمنته على نظرة الإسلام للعلوم وعلى تداخل العلم مع الفكر السحري كثيراً.

ختاماً، لا نستطيع أن نوفي الكتاب حقه، وقد نقلنا نظرة شاملة سريعة لما فيه، وهذه دعوة للمهتمين بقراءته. ولم نتطرق تحديداً لجوانب كثيرة لا تتصل بطرح العلوم الحقيقية رغم أهميتها. وربما نأخذ على الكتاب مأخذاً انه يميل في بعض الأحيان الى تفسير قضايا معينة من المنظور السحري رغم وجود أكثر من منظور، لكننا نتفهم ذلك في كتاب يحاول طرح جميع الآراء والروابط بين الطقوس السحرية للعديد من الشعوب ولا يشترط بذلك ان يكون التفسير الوحيد.