كتب المقال: سامي عادل البدري
يمكن وصف التوحد بأنه مرض يتجاوز الكثير من الحدود: الحد بين الجين والبيئة، وبين طب الأعصاب والطب النفسي، وبين العلاج الدوائي والعلاج السلوكي، ثلاثة حدود فاصلة خصصت لهم هذه المقالة.
الوراثة والبيئة
حين وصف التوحد لاول مرة في اربعينات القرن العشرين جرى توجيه اللوم للتربية النفسية كمسبب له. ثم صار واضحاً في الستينات من القرن العشرين بأنه مرض وراثي، لكن الدراسات بينت بأنه لا يتوارث بنمط مندلي (Mandelian) بسيط، وإنما يورث بنفس الطريقة التي تورث بها الصفات المعقدة(١). إن نسبة اصابة كلا التوائم المتماثلة بالتوحد تمتد من ٦٠ الى ٩٢ ٪، وذلك اعتماداً على المقاييس السلوكية المستخدمة، ولم تبلغ ابداً نسبة ١٠٠٪(٢). وفي حالة التوائم غير المتماثلة يقدر معدل نسبة اصابة كلا التوأمين بنسبة ٣٪، (تمتد من صفر إلى ٣١٪) (٣). رغم أن قابلية مرض التوحد على الانتقال وراثياً تقدر ب ٩٠٪، إلا ان ذلك لا يحصل، على ما يبدو، بسبب جين واحد (٤). ان المعلومات اعلاه لا تكفي لنصل الى استنتاج قاطع بشأن المسببات الوراثية للتوحد. وبناءاً على ذلك فقد بدأت الكثير من الدراسات بالبحث عن أسباب بيئية، ومرة اخرى وجدت الدراسات الكثير منها، جاعلة صياغة الاستنتاج عن سبب المرض هذا أمراً غير محسوم.
التوحد في عصر دراسات الارتباط على نطاق الجينوم Genome Wide Association Studies
في السنين العشرة الاخيرة، بينت دراسات الارتباط على نطاق الجينوم (Genome wide association studies) بان لحمضنا النووي العديد من المواقع الكروموسومية (loci) التي يمكن لها ان تسبب المرض، ولكل منها تأثير صغير، يتم حسابه بمثابة نسبة أرجحية (odds ratio) لكل أليل (allele).
لقد صار من الثابت ان الكثير من الأمراض لا يسببها جين واحد فحسب بل عدد من الجينات معا، وذلك بتآزر الكثير من المواقع الكروموسومية من أجل ذلك (مثلا ٦٠ موقع كروموسومي لداء الذئب الاحمراري، و٥٦ موقع كروموسومي لنخر العظام) (٥). ومما يعقد الفيزيولوجيا المرضية أكثر هو ذلك المبدأ الذي يتطور حاليا المتمثل بعلم التخلق (epigenetics) (إقرأ في العلوم الحقيقية عن علم التخلق، حسام زيدان 15 آذار 2017)، حيث يشير علم التخلق الى كيفية تأثير البيئة على التعبير الجيني (gene expression) دون أن يؤثر على ترتيب الخريطة الوراثية. وتقوم البيئة بذلك من خلال عمليات مثل الميثلة (methylations)، والأستلة (acetylation)، التي تمارسها على أجزاء من الحمض النووي.
أشارت العديد من الدراسات الحديثة إلى حدوث ظواهر التخلق تلك – الميثلة والأستلة – في الحمض النووي لدى المصابين بالتوحد. على سبيل المثال، وجدت احدى الدراسات ان عينات من أدمغة المصابين بالتوحد تظهر بدلالة واضحة قلة في تعبير جين البروتين الرابط (مثيل سي. پي. جي. ٢ Methyl CpG binding protein 2 (MeCP2)) (٦) الذي له دور في نمو التشابكات العصبية (٧).
فيما وجدت دراسة اخرى ان جين مستقبل الاوكسيتوسين (oxytocin recetptor OXTR)، يكون مكتوم التأثير عبر الميثلة لدى العديد من مرضى التوحد (٨). وكما هو معروف منذ عقود ان الاوكسيتوسين يشجع على السلوك الاجتماعي، وقد جرت الاشارة لاضطراب وظيفته في التوحد (٩).
وبالطبع فإن هذه المثيلة والأستلة للجينات تحدث بمسببات بيئية وهو ما يمنعنا بعد اليوم من القول بدقة بأن التوحد مرض جيني بشكل كامل، وأنه ليس بيئياً بشكل تام أيضاً.
الطب النفسي وطب الجملة العصبية
تصنف الحالات العقلية من جهة، والعصبية من جهة اخرى، في فصول مختلفة من كتيبات التشخيص النفسي. وقد أصبح من المتعارف عليه طبياً أن يتم تعريف المرض العقلي بغياب الاصابة العضوية. لكن ما هو الشيء الذي تشير إليه كلمة (عضوي) تحديداً؟ هل يقتصر ذلك على الإصابات البنيوية التي تُرى في المفراس او في الرنين المغناطيسي؟ هل تشمل بنية البروتينات، مثلا بنية مستقبل لناقل عصبي؟ هل تشمل اضطرابات الجينات، من اكثرها وضوحا مثل (الترايسومي)، إلى أكثرها صغيرا (مثل كتم تأثير جين بالمَيَثلَة)؟
يبدو أنه لم يد مقبولاً بعد الان أن نعرف الخط الفاصل بين الطب النفسي وطب الجملة العصبية بوجود او عدم وجود الاصابة العضوية. فالدماغ هو عضو يتشارك فيه الطب النفسي والعصبي سوية. وقد صار من المؤكد لنا اليوم أن العقل موجود في الدماغ(١٠). ويرى البعض بأن الاضطرابات النفسية يجب ان يعاد تصنيفها كاضطرابات تصيب الجهاز العصبي المركزي، ويجري دمج تصنيفات الامراض العصبية والنفسية معاً(١١). أما اذا اردنا تعريف الحد بين هذين التخصصين من خلال الاعراض، فسوف يربكنا وجود أعراض نفسية في الصرع، وداء باركنسون، والتصلب المتعدد (multiple sclerosis)، وداء هنتنجتون، ومتلازمة توريت، و(داء النوم القهري narcolepsy). وعليه يعتقد كثيرون بأنه ليس هناك خط فاصل بين طب الجملة العصبية والطب النفسي (١٢).
يقتنع بعض آباء الأطفال المصابين بالتوحد بان سبب مرض أطفالهم هو سبب بايولوجي، وهم على حق في ذلك، فاليوم يتوفر لنا الدليل بان الخلل يكمن في المشتبك العصبي (١٣، ١٤).
ان بعض اجزاء الدماغ مسؤولة عن الانفعالات، والادراكات، والأفكار. ويطلق مصطلح الدماغ الاجتماعي (social brain) على الفص الأمامي، والصدغي، واللمبي، حيث توجد الدوائر العصبية المسؤولة عن المعرفة الاجتماعية (١٥). وهنا يظهر في ادمغة المصابين بالتوحد، مقارنة بالعينات الضابطة:
- فروقات مهمة احصائيا في تشريح المخيخ، والفص الصدغي، والجسم المخطط (striatum) (١٦).
- يظهر لدى مرضى التوحد قلة في المادة الرمادية (grey matter) في الفص الصدغي، وفي المخيخ، وكثرة في المادة الرمادية في الجسم المخطط (١٧).
- كما أن هناك خمول في وظيفة الدماغ الاجتماعي لدى المصابين بالتوحد (١٨).
لقد نجحت الأبحاث في ايجاد ذلك رغم ان الامر ليس بهذه السهولة فالدماغ ليس جسماً ثابتاً لا يتغير، وتسمى قدرة الدماغ على التعويض واعادة تنظيم نفسه حسب التجربة باللدونة الدماغية (brain plasticity) او اعادة تخطيط القشرة الدماغية (cortical remapping) (١٩، ٢٠).
العلاج السلوكي والعلاج الدوائي
رغم اننا اليوم نعرف بأن التوحد مرض دماغي بيولوجي بوضوح، إلا أنه ليس هناك علاجاً دوائياً فعالاً لاعراضه الاساسية حتى يومنا هذا، فالأدوية النفسية يجري وصفها عادة للأعراض السلوكية والإنفعالية المصاحبة للتوحد وليس لعرضيه الاساسيين المتمثلين بمشكلة التواصل الكلامي والاجتماعي(٢١). ترينا دراسات حديثة ان ٢٧-٤٠٪ من الشباب الذين يعانون من التوحد يتلقون وصفات لأدوية نفسية وقدرت الدراسات ان هذه النسبة عالية (٢٢).
العلاج السلوكي للتوحد
بحثت دراسة مؤخرا في السند الدليلي (evidence base) لثمانين تدخل علاجي نفسي موجود اليوم وتبين ان بعضها يفتقر للدليل على فعاليته، فيما تعد الأدلة على البعض الآخر من هذه التدخلات (أساليب المعالجة النفسية) أدلة ضعيفة(٢٣). ان المشكلة في تقييم هذه التداخلات هو النطاق المحدود للمخرجات التي يتم قياسها (على سبيل المثال بعض العلاجات تدعي انها تحسن المهارات الاجتماعية، لكنك حين تقرأ البحوث عن ذلك ستجد أنه لا يوجد اتفاق على تعريف مصطلح (المهارات الاجتماعية)، وفي بعض الدراسات نجد ان العينة صغيرة تبلغ حتى اقل من عشرين في بعضها.
باستخدام معامل الذكاء، الـ (IQ)، سيصبح واضحاً بان التدخل السلوكي المكثف المبكر (early intensive behavioral inteveion) الذي طوره لوڤاس (lovaas) في الثمانينيات من القرن العشرين هو علاج فعال (٢٤). ووجدت الكثير من المراجعات المنهجية (systematic review) ان هذا النهج العلاجي فعّال (٢٥، ٢٦، ٢٧). ان طريقة لوڤاس هي برنامج يطبق في البيت وقبل الدخول للمدرسة. ويتضمن ٤٠ ساعة في الأسبوع ولمدة سنتين، ويتطلب الكثير من الوقت، والمال، والجهد. يبدو ان التدريب النفسي الكلامي يمكن ان ينهي ضمور فعالية الدماغ الاجتماعي (٢٩).
ألا يبدو من المثير أن نجد بأن علاجاً سلوكياً، يمكنه أن يسبب تغيراً بيولوجياً؟ مؤدياً إلى تحسن أحد اعراض التوحد الأساسية، الشيء الذي فشلت كل العلاجات البيولوجية، ليومنا هذا بأن تفعله.
الاستنتاج
ان التوحد مرض بيولوجي مع قابلية عالية جدا للانتقال بالوراثة، رغم ذلك فان علاج أعراضه الأساسية ليس بيولوجيا. يجب ان يشجع آباء الأطفال المصابين بالتوحد على ان لا يسمحوا بالإكثار من استخدام الادوية لاطفالهم، ويجب ان يتم تقديم الشروحات حول اهمية العلاج السلوكي لهم. ان العلاج الاساسي يجب ان يكون التدخل النفسي الذي يقدمه علماء نفس متدربون ومعالجو نطق، الذين يجب دمجهم في فريق علاجي كبير يضمن اطباء نفس، اطباء جملة عصبية، وأطباء أطفال. لقد صار علينا في القرن الواحد والعشرين، ما دامت الحدود بين الجين والبيئة، الطب النفسي والعلوم العصبية، العلاج السلوكي والتغيير البيولوجي، حدودا ضعيفة، ان نعمل اكثر كفريق واحد، رافعين تلك الحدود المتيبسة التي تفرق بين التخصصات العلمية المختلفة، لأن الحقيقة دائما ما تتجلى في الصورة النهائية الكلية.
References:
1. Kolevzon A, Smith CJ, Schmeidler J, Buxbaum JD, Silverman JM. Familial symptom domains in monozygotic siblings with autism. Am J Med Genet B Neuropsychiatr Genet. 2004 Aug 15. 129B (1):76-81.
2. Muhle R., Trentacoste S.V., Rapin I., The genetics of autism, Pediatrics, 2004, 113, 472–486
3. G. Bradley Schaefer Clinical Genetic Aspects of ASD Spectrum Disorders Int. J. Mol. Sci. 2016, 17, 180
4. Folstein SE, Rosen-Sheidley B. Genetics of autism: complex aetiology for a heterogeneous disorder. Nat Rev Genet. 2001 Dec. 2(12):943-55.
5. Dvidson’s Principles of Medicine (2014) 22nd edition
6. R. P. Nagarajan, A. R. Hogart, Y. Gwye, M. R. Martin, and J.M. LaSalle, “Reduced MeCP2 expression is frequent in autism frontal cortex and correlates with aberrant MECP2 promoter methylation,” Epigenetics, vol. 1, no. 4, pp. e1–e11, 2006.
7. S. Luikenhuis, E. Giacometti, C. F. Beard, and R. Jaenisch, “Expression of MeCP2 in postmitotic neurons rescues Rett syndrome in mice,” Proceedings of the National Academy of Sciences of theUnited States of America, vol. 101, no. 16, pp.6033–6038, 2004.
8. S. G. Gregory, J. J. Connelly, A. J. Towers et al., “Genomic and epigenetic evidence for oxytocin receptor deficiency in autism,” BMC Medicine, vol. 7, article 62, 2009.
9. T. R. Insel, “Oxytocin—a neuropeptide for affiliation: evidence from behavioral, receptor autoradiographic, and comparative studies,” Psychoneuroendocrinology, vol. 17, no. 1, pp. 3–35, 1992.
10. Searle JR. Mind: a brief introduction. Oxford University Press, 2004.
11. White PD, Rickards H, Zeman A Z J. Time to end the distinction between mental and neurological illnesses BMJ 2012;344:e3454
12. (The neurology-psychiatry divide: a thought experiment Thomas J. Reilly BJPsych Bulletin (2015), 39, 134-135
13. Zoghbi HY. Postnatal neurodevelopmental disorders: meeting at the synapse?. Science. 2003 Oct 31. 302(5646):826-30.
14. Garber K. Neuroscience. Autism’s cause may reside in abnormalities at the synapse. Science. 2007 Jul 13. 317(5835):190-1.
15 Brothers L. The social brain: a project for integrating primate behavior and
neurophysiology in a new domain. Concepts Neurosci 1990; 1: 27–51.)
16. Toal F, Murphy DGM, Murphy KC. Autistic-spectrum disorders: lessons from
neuroimaging. Br J Psychiatry 2005; 187: 395–7.
17. Tola F. et al psychosis and autism:magnetic resonance imagin study of brain anatomy. 2009 Brit. J. Psych. 194, 418-425
18. Sato W, Toichi M, Uono S, Kochiyama T. Impaired social brain network for processing dynamic facial expressions in autism spectrum disorders. BMC Neurosci 2012; 13: 99.
19. Pascual-Leone A, Freitas C, Oberman L, Horvath JC, Halko M, Eldaief M, et al. Characterizing brain cortical plasticity and network dynamics across the agespan in health and disease with TMS-EEG and TMS-fMRI. Brain Topogr 2011;24: 302–15.
20. Grafman J. Conceptualizing functional neuroplasticity. J Commun Disord 2000; 33: 345–55.
21. Na Young Ji; Robert L. 2015 Findling An Update on Pharmacotherapy for Autism Spectrum Disorder in Children and Adolescents Curr Opin Psychiatry. ;28(2):91-101.
22. Logan S, Nicholas J, Carpenter L, et al. High prescription drug use and associated costs among Medicaid-eligible children with autism spectrum disorders identified by a population-based surveillance network. Ann Epidemiol 2012; 22:1–8.
23. Howlin P. Evaluating psychological treatments for children with autism-spectrum disorders. Advances in psychiatric treatment (2010), vol. 16, 133–140
24. Lovaas OI (1987) Behavioral treatment and normal educational and intellectual functioning in young autistic children. Journal of Consulting and Clinical Psychology 55: 3–9.
25. Howlin P, Magiati I, Charman T (2009) Systematic review of early intensive behavioural interventions for children with autism. American Journal on Mental Retardation 114: 23–41.
26. Rogers SJ, Vismara LA (2008) Evidence based comprehensive treatments for early autism.Journal of Clinical Child and Adolescent Psychology 37: 8–38.
27. Reichow B, Wolery M (2009) Comprehensive synthesis of early intensive behavioral interventions for young children with autism based on the UCLA young autism project model.Journal of Autism and Developmental Disorders 39: 23–41.
28. Tsang SKM, Shek DTL, Lam LI, et al (2007) Brief report: application of the TEACCH program on Chinese pre-school children: does culture make a difference? Journal of Autism and Developmental Disorders 37: 390–6
29. Sven Bölte, et al. Training-induced plasticity of the social brain in autism spectrum disorder.BJP 2015, 207:149-157.