الذاكرة الجينية : كيف نعرف أشياء لم نتعلمها قط؟ منذ أن قابلت أول عالم في حياتي قبل 52 سنة حتى أصبحت مأسوراً بحالة عجيبة لم أسمع بها من قبل. حيث أن الكثير من العلماء الذين قابلتهم في حياتي يعرفون أشياء بوضوح لم يتعلموها من قبل وهذه أحد أكثر الحالات الملفتة للنظر.
على الرغم من أن ليزلي ليميك الموسيقي الموهوب (Leslie Lemke) لم يتلقَ درساً موسيقا واحداً في حياته مثل توم ويغينز الأعمى (Blind Tom Wiggins) الذي جاء قبله بمائة عام، إلا أن موهبته الموسيقية تفجرت بوقت مبكر جداً وبشكل عفوي، كرضيع لا يمكن ان يكون قد تعلم من قبل وكأنها جاءت مثبتة من المصنع. شهد الموسيقيون المحترفون كلتا الحالتين واكدوا على ان كلا من ليميك وويغينز وعلى نحو ما امتلكا فطرة الوصول إلى ما يمكن تسميته القواعد او بناء جملة موسيقية ضخمة وحتى بغياب التدريب العادي.
لم يكن ألونزو كليمانس (Alonzo Clemons) قد حصل على أي دروس فن في حياته. وبعد اصابته في رأسه عندما كان رضيعاً، بدأ بالنحت بأي مادة لينة يجدها أمامه مثل سمنة الكريسكو (سمن نباتي أبيض). يُحتفى به الآن كنحات يمكنه أن يُشكل نموذجاً مثالياً لأي حيوان بإستخدام الطين خلال ساعة أو أقل وبعد لمحة واحدة فقط ، حيث يرسم كل عضلة ووتر بإتقان ولم يكن قد أخذ أي تدريب في ذلك.
ولأجل شرح حالة العالم الذي يملك مدخلا فطريا إلى مبادئ و قواعد واسعة لكل من الفن والرياضيات والموسيقى وحتى اللغة في ظل غياب أي تدريب أساسي ومع وجود بعض المعوقات، فيبدو أن السبب هو وجود الذاكرة الجينية إلى جانب دارات ذاكرة العادة و المعرفية والإجرائية والدلالية .
الذاكرة الجينية ببساطة هي القدرات المعقدة والمعرفة المتطورة الفعلية المتوارثة جنبا إلى جنب مع خواص فيزيائية وسلوكية أخرى أكثر قبولا بشكل عام. مع العَلماء واسعي المعرفة فإن رقاقة الموسيقى والفن والرياضيات تأتي معهم وكأنها مثبتة من المصنع. بالإضافة إلى الأمثلة المذكورة أعلاه، فقد وصفت أمثلة أخرى في كتابي جزر العبقرية: العقل الخصب للتوحد، العبقرية المكتسبة والمفاجئة (Islands of Genius: The Bountiful Mind of the Autistic, Acquired and Sudden Savant)
إن الذاكرة الجينية ليست مفهوما جديداً بالكامل، حيث اقتبس إبراهيم أردن بريل (A.A. Brill) في عام 1940 من الدكتور ويليام كاربنتر (William Carpenter) الذي كتب بمقارنته بين الطفل المعجزة في الحساب زيرا كولبورن (Zerah Colburn) و براعة موزارت في التأليف الموسيقي:
“في كلا الحالتين أعلاه، لدينا مثال عجيب لامتلاك سلوك فطري استثنائي لنشاط عقلي معين، والذي أظهر نفسه في فترة مبكرة جدا لِغرض استبعاد فكرة قد تم الحصول عليها عن طريق خبرة الفرد. يطلق أسم البديهيات أو الحدسيات على مثل هكذا هبات فطرية. حيث أن من النادر التشكيك في غرائز الحيوانات السفلى، على أنها تعبير عن الميول البنيوية الموجودة في بنية الفرد الذي يبرهن على وجودها”.
أشار ويلدر بنفيلد (Wilder Penfield) في كتابه الرائد لغز العقل (Mystery of the Mind) عام 1978 إلى ثلاثة أنواع من الذاكرة، حيث كتب قائلاً: “تُظهر الحيوانات بشكل خاص برهاناً على ما يمكن أن يُطلق عليه الذاكرة العِرقية وهي ما تُكافىء الذاكرة الجينية. ويدرج النوع الثاني من الذاكرة على أنها مرتبطة بردود الأفعال الشرطية والنوع الثالث منها تجريبية. يتناغم النوعان الأخيران مع المصطلح المطبق عموما على ذاكرة العادة أو التجريبية والذاكرة المعرفية أو الدلالية”.
كتب مايكل جازانيغا (Michael Gazzaniga) في كتابه عام 1998 تاريخ العقل (The Mind’s Past) : “لا يحتاج الطفل تعلم علم المثلثات، بل يعرفه؛ لايحتاج الى تعلم تمييز الشكل من الأرض، بل يعرفه؛ لايحتاج ان يتعلم، بل يعرف عند ارتطام جسم يملك كتلة بآخر فإن أحدهما سوف يحرك الآخر. أن قشرة دماغ الإنسان الواسع المعرفة أي العالم مكتظة بأنظمة متخصصة مستعدة وراغبة وقادرة على استخدامها لمهمات معينة. علاوة على ذلك، فإن الدماغ مبني تحت سيطرة جينية مُحكمة. حالما يُبنى الدماغ يبدأ التعبير عما يعرفه وما يأتي معه من المصنع. ان عدد الاجهزة المختصة والنشطة هو عدد مدهش. حيث ويأتي كل شيء مع الدماغ, ابتداءً من ظاهرة الإدراك الحسي للفيزياء البديهية ووصولا إلى قواعد التبادل الاجتماعي. هذه الأشياء لا تُدرس وإنما هي مبنية بالفطرة حيث يحل كل جهاز مشكلةً مختلفةً. إن كثرة الاجهزة التي نمتلكها لعمل ما نعمله مركبة أثناء خلقنا؛ وبحلول الوقت الذي نعلم فيه حول عمل معين تكون تلك الأجهزة قد قامت به فعلا.”
يدحض الكاتب ستيفن بينكر (Steven Pinker) في كتابهِ اللائحة الفارغة: الإنكار الحديث للطبيعة البشرية عام 2003 (The Blank Slate: The Modern Denial of Human Nature) نظريات اللائحة الفارغة للتطور البشري. يشير (براين بتروورث) في كتابه ما يهم: كيف أن كل دماغ رُبِطَ من اجل الرياضيات ( What Counts: How Every Brain is Hardwired for Math) إلى أن، يملك الأطفال الرضع العديد من القدرات المتخصصة الفطرية بما فيها العددية التي يعزوها إلى نموذج الأرقام المشفرة في الجينوم البشري من الاجداد الاوائل قبل 30,000 سنة.
قدم مارشال نيفر بيرغ (Marshall Nivenberg) من معهد القلب العالمي (National Heart Institut) نظرة داخل مكائن كل من الحمض النووي والحمض النووي الريبي (DNA/RNA) لهذه المعرفة الفطرية في مقالٍ نشر في العام 1968 بعنوان الذاكرة الجينية في مجلة جاما (JAMA).
سواء أطلق عليها الذاكرة الجينية أو المتوارثة أو العرقية أو بديهيات أو هبات فطرية، فإن مفهوم الانتقال الجيني للمعرفة المتطورة ما بعد الغرائز ضروري لشرح كيف يمكن للعلماء العظماء أن يعرفوا اشياء لم يتعلموها قط.
نميل للاعتقاد بأننا قد ولدنا بآلية عضوية رائعة ومُعقدة ندعوها بالدماغ جنبا إلى جنب محرك القرص الصلب (الذاكرة) الضخم والفارغ في نفس الوقت. يُعتقد عموما ان ما أصبحنا عليه هو اختزان وتراكم تعلمنا المستمر و تجاربنا الحياتية التي تضاف واحدة تلو الأخرى إلى الذاكرة. لكن يأتي العالم العظيم مبرمجا بالفعل بكم واسع من المهارة والمعرفة الفطرية في مجاله من الخبرة، يمكن للمرء ان يقول انه برنامج مثبت من المصنع، الذي يفسر القدرات غير العادية التي يتمتع بها العالم فطرياً بمواجهة بعض معوقات التعلم. أن هذه المساحة من الذاكرة تستحق الكثير من الاستكشاف والدراسة.
لقد اقنعتني قضايا العلم المكتسب أو العبقرية العرضية بأننا جميعا نملك برنامجا مثبتا من المصنع. ناقشت بعضا من هذه القضايا بالتفصيل في عدد أغسطس لمجلة ساينتفيك أمريكان (Scientific American) وكانت تحت عنوان العبقرية العرضية. بالمختصر، يظهر اشخاص معينين وبعد إصابة في الرأس أو نتيجة مرض قدرة متفجرة وفي بعض الأحيان جبارة في الموسيقى أو الفن أو الرياضيات، حيث تبقى هذه القدرات خاملة حتى لحظة انفجارها.
واخيرا، توفر مملكة الحيوان أمثلة وافرة حول القدرات المعقدة المتوارثة التي تتجاوز الخصائص الجسدية. تقوم الفراشات الضخمة كل سنة برحلة مسافة (2,500 ميل) من كندا الى قطعة ارض صغيره في المكسيك حيث تقضي الشتاء. ثم تبدأ في الربيع رحلة عودة طويلة إلى الشمال لكنها تحتاج الى ثلاثة اجيال لتفعل ذلك. لذا لايوجد فراشة تقوم برحلة العودة أو قد حلقت فوق ذلك الطريق بأكمله من قبل. فكيف يعلمون طريقا لم يتعلموها من قبل؟ اذا يجب ان يكون هناك نظام ملاحة متوارث, وليس طريقا مُتَعَلماً.
تتعلم طيور الاوسين (Oscine) مثل العصافير والدج والطيور المغردة الاغاني من خلال الإنصات للآخرين. إما أنواع طيور الأوسين مثل صائدات الذباب واقربائها على العكس من ذلك، فهي ترث كل التعليمات الجينية التي تحتاجها لهذه الألحان المعقدة. حتى لو تمت تربيتها في أماكن معزولة صوتياُ، فيمكن لبعض رتب طيور الأوسين أن تعطي النداء العادي لأنواعها بدون تدريب أو تعلم أساسيين. وهناك امثلة اكثر بكثير من مملكة الحيوان والتي تتوارث وتتأصل فيها الصفات والسلوكيات والمهارات. حيث ندعو هذه الصفات والسلوكيات والمهارات بالغرائز عند الحيوانات ولكننا لا نطبق هذا المبدأ على المهارات والمعرفة المعقدة المتوارثة عند البشر.
يناقش البعض أن ما يرثه العالم غير العادي هو الميول أو القواعد التي يمكن تطبيق المعرفة عليها بشكل غير عادي وبسرعة، بدلا من المعرفة نفسها وكما في انواع طيور الأوسين التي تتعلم من الآخرين. برأيي أن العالم المعجزة مثال مقنع على الوراثة الجينية لفصائل الأوسين الفرعية للتعليمات والمعرفة الفعلية التي تسبق التعلم. ان هذا لايعني انه لايمكن لمهارات طبيعية موَروثة كهذه أن تصقل وتعزز التنشئة. لكنني أوافق الدكتور ويليام كاربنتر أن العلماء يظهرون استعدادا خلقيا لنشاط دماغي معين الذي يظهر نفسه في وقت مبكر جدا بحيث يبعد فكرة اكتسابه عن طريق خبرة الفرد.
ادعو ذلك بالذاكرة الجينية واقترح انها موجودة في كل منا. التحدي هو كيف نضغط على تلك القدرة الهامدة بشكل غير تداخلي و دون إصابة دماغية أو حوادث مشابهة لها.
المصدر:
Darold Treffert ,”Genetic Memory: How We Know Things We Never Learned“, scientificamerican.com blogs, January 28, 2015
تدقيق لغوي: نورس حسن