لقد قامت وسائل الإعلام بالتصريح مؤخراً، أن العلماء قاموا باكتشاف غاية «فوق طبيعية» للكون. حيث يتم الاستشهاد بما يُسمى «المصادفات الإنسانية» كدليل، حيثُ تبدو ثوابت الطبيعة وكأنها مضبوطة بشكل مذهل لنشوء الحياة. ومع ذلك، فلا يُوجد لمثل هذه التأويلات في أي من الكتابات العلمية. فطبقاً للمعرفة العلمية الحالية التي نمتلكها بشأن الفيزياء الأساسية وعلم الكون – فإن الصورة الأكثر منطقية وباراسيمونية، أن كوننا كما نعلمه، هو كون طبيعي – بلا أي علامات أو دلائل على التصميم أو الخلق – طبقاً للملاحظات العلمية.

لقد مر – على الأقل – ألفي ونصف الألف عام، منذ أعلن بعض المفكرين مثل طاليس وهيراقليطس باليونان القديمة، أن العالم حولنا يُمكن تفسيره وفهمه كلية، باستخدام المواد والقوى الشائعة مثل الماء والنار. فقد أدرك هؤلاء الأوائل أنه لا يُمكن الاحتجاج والتذرع بقوى خفية، وكائنات غامضة لتفسير الظواهر. لقد كانت فكرة ثورية، ولكن العالًم لم يكنْ مستعداً بعد لاحتضانها. حيث كانت الإنسانية لا تزال تتمسك بالخرافات التي تتم عن الكهوف والغابات. ولهذا – مع بعض الاستثناءات القليلة – فإن المذهب الطبيعي كان راقداً في سبات عميق لألفي عام، بينما استمر الفكر الميتافيزيقي في السيطرة على الثقافات البشرية.

وفي أوربا المسيحية خلال العصور الوسطى، فإن الدراسة التجريبية للظواهر، لم تستبعد بالضرورة القوى فوق الطبيعية. في الواقع، لقد كان معظم علماء هذه الفترة، إن لم يكنْ جميعهم، رجال دين أو على علاقة بطريقة أو بأخرى بالكنيسة. وبالرغم من ذلك، فإن صداماً عنيف بين العلم «الوليد» والدين، اندلع في القرن السادس عشر، عندما أدانت الكنيسة جاليليو لبقاءه على اقتراح كوبرنيكوس، بأن دوران الأرض حول الشمس يمثل ظاهرة فيزيقية، وليس مجرد وصف رياضي للنظام الشمسي. ومع ذلك، فقد توافق العلم والدين، وذلك عندما فسّر نيوتن اكتشافاته الميكانيكية العظيمة – والتي استندت على الأعمال السابقة لجاليليو، ديكارت، وآخرين – بأنها كشف لتصميم الله للعالم المادي. ولهذا فإن نجاح العلم النيوتني كان سريعاً، وهائلاً. حيث بدأ الناس بالتعبير عن الحاجة إلى قراءة كتابين – كتبهما الله: الكتاب المقدس، وكتاب الطبيعة.

يُقدم العلم تفسيرات طبيعية للظواهر التي يتم نسبها إلى تدخل فوق طبيعي. فإن ضوء البرق ينتج عن الكهرباء الساكنة، لا رمح «ثور». إن الانتخاب الطبيعي لا التدخل الإلهي، هو الذي يدفع تطور الحياة. والعمليات العقلية ما هي إلا نتاج الشبكات العصبية المخية، لا روحٌ ميتافيزيقية. إن التفسيرات العلمية في كثير من الأحيان، ما تكون غير شعبية – والدليل على ذلك، الداروينية. وكما يبدو، تستحوذ تلك التفسيرات على مكانة متميزة لأنها تعمل، لا لأنها جذابة أو مغرية. حيث إن التقدم التكنولوجي، المؤجج بواسطة الاكتشافات العلمية، يشهد بقوة هذه التفسيرات للأحداث. مما أعطى العلم منزلة رفيعة، ومصداقية. يستمع الناس للعلم، حتى وإن لم يعجبهم  دائماً ما يسمعون، وبخاصة أنهم ليسوا مركزاً للكون.

بغض النظر عن الأقلية الذين يصرون على التفسير الحرفي للكتب المقدسة، فإن رجال الدين قد أحالوا للعلم – تلك المسائل ذات الإجماع العلمي. وبالطبع، فإن رجال الدين بارعون للغاية في إعادة تأويل تعاليم الدين والإيمان في ضوء المعرفة الجديدة. لا يُوجد ما هو خطأ بهذا الشأن. يتفق معظم العلماء ورجال الدين بأنهم في حالة دائمة من التعلم، لا الوعظ والتبشير. ويُجادل رجال الدين بأن الدين لا يزال يلعب دوراً مهماً في المسائل الأخلاقية، والبحث عن مكانة البشرية. يعتبر معظم العلماء أن السؤال بشأن الغرض من الكون، يتجاوز نطاق العلم. وبرغم هذا، فإنهم عندما يقرأون تقارير الأخبار بشأن تقارب وتلاقي الدين والعلم، فإن بعض المتدينين يتشجعون ويشعرون بالأمل والرضا – بأنه عندما يتم كل شيء – فإن الغاية التي يتمنونها سوف تخرج منتصرة من الضجة العلمية.

الإشارة المفترضة على الغائية

لحوالي عقد من الزمن – وحتى الآن، فإن هناك عدد متزايد من العلماء ورجال الدين الذين يؤكدون في مقالات وكتب شعبية، بأنهم يستطيعون رصد إشارة عن غائية كونية، تعبر عن نفسها بشدة من بيانات علمي الفيزياء والكون. لقد انتشر هذا الإدعاء بصورة واسعة من خلال وسائل الإعلام، مضللاً عامة الناس إلى الاعتقاد بأن هناك نوعاً جديداً من الإجماع العلمي، والذي يدعم الاعتقادات فوق الطبيعية. وفي الحقيقة، فإنه لا يُوجد أي أدلة تشير إلى هذا الإدعاء في صفحات الدوريات العلمية، والتي تستمر في العمل وفق إطار مفترض أساسه أن جميع الظواهر الفيزيقية «طبيعية».

لا يُمكن إثبات الغاية المفترضة المزعومة من خلال البيانات وحدها. فإن مثل هذه الملاحظات تتطلب قدراً كبيراً من التفسير والتأويل للوصول لمثل هذا الاستنتاج. إن هؤلاء الذين ليسوا على دراية بالمناقشات الأخيرة في فلسفة العلم، ربما يميلون للسخرية والاعتقاد بأن الملاحظات تتحدث عن نفسها، بدون الحاجة إلى أي تفسير أو تأويل. الحقائق هى الحقائق – كما يحتجون – فلا الله ولا الغاية الكونية حقائقاً علمية.

ومع ذلك، كان ولا يزال العلماء والفلاسفة غير قادرين على أن يضعوا حداً فاصلاً واضحاً بين النظرية والملاحظات. لكن يتفق الأغلبية على أن جميع الملاحظات العلمية – محملة بالنظريات. ولهذا فإن النتائج التجريبية لا يُمكن فصلها عن الإطار النظري المستخدم لتصنيفها وتفسيرها. وقد فتح هذا التطوير الجديد في فلسفة العلم الباب أمام رجال الدين والعلماء المؤمنين، لإعادة تفسيرها وتأويلها في إطار نماذجهم الخاصة مثل التصميم الذكي، والغاية الكونية. ويدعي بعضهم أن البيانات تلائم هذا النموذج أكثر من غيره. ومعظمهم يقول أنها على أسوأ الفروض جيدة.

إن البيانات محل النقاش، الجدل، والتأويل بين الدين والعلم ليست قصاصات من وثائق متلاشية، بل وليست ترجمات غامضة لأساطير قديمة والتي تطورت بمرور الوقت إلى نصوص مقدسة. بل إنها تحتوي على قياسات دقيقة بواسطة فرق بحثية متطورة، باستخدام أجهزة علمية متقدمة. لذا، فإن الحجة الدينية الجديدة – تقوم على أساس الحقيقة القائلة بأن الحياة الأرضية حساسة للغاية لقيم الثوابت الفيزيائية الأساسية، وخواص بيئتها – ومن هنا فإن أبسط التغيرات في هذه القيم، يعني أن الحياة كما نراها حولنا، لم تكن لتُوجد. هذا ما يُقال، ليُظهر أن الكون بثوابته الفيزيائية الأساسية محكم الدقة بطريقة مذهلة، ومتوازن بعناية من أجل إنتاج الحياة. وباستمرار الحجة، فإن الفرصة لأي مجموعة عشوائية من الثوابت – والتي تتوافق وتناظر الثوابت التي حدث وأن وُجدت في كوننا، صغيرة للغاية، ولهذا فإن ذلك التوازن المحدد والمضبوط من غير المحتمل للغاية أن يكون نتيجة فرصة عشوائية، عمياء. بدلاً من ذلك، فإن خالق شخصي ذكي، وهادف قد صمم الأشياء بهذه الطريقة التي هي عليها (الله). يُمكن فهم الحجة بشكل أفضل، من خلال رسم كرتوني في كتاب للرياضي روجر بينروز The Emperor’s New Mind، والذي يُظهر الخالق مُشيراً بإصبعه إلى حجم صغير للغاية من الطور الفراغي (فراغ متعدد الأبعاد) للأكوان المحتملة، ليُنتج الكون الذي نعيش فيه.

إن أغلبية هؤلاء الذين يحتجون بالثوابت الكونية والتصميم المحكم، سعداء كل السعادة بالقول أن تصميم ذكي، هادف، فوق طبيعي قد أصبح بديلاً مساوياً للعلم التقليدي – القائل بالتطور الطبيعي لا للكون فقط، بل والبشر أيضاً نتيجة عمليات عشوائية، غير هادفة. بل ويصر الآن بعض المعتقدين – المتدينين أن الله مطلوب بشدة بواسطة البيانات. وعلاوة على ذلك، فإنهم يقولون أن هذا الإله لابد وأن يكون إله الكتاب المقدس، الإنجيل. ويتساءل هؤلاء، هل من الممكن أن يكون الكون ما هو إلا نتيجة طبيعية خالصة، وعمليات غير شخصية. وتطابق هذه الرؤية رؤية الفيزيائي وعالم الفلك، هيو روس في كتابه “الخالق والكون، كيف للاكتشافات العلمية العظمة في القرن أن تكشف عن الرب” ( The Creator and the Cosmos How the Greatest Scientific Discoveries of the Century Reveal God)، حيث لا يستطيع روس تخيل التصميم الدقيق للكون بأي طريقة أخرى إلا بواسطة «كيان شخصي … قادر على الأقل بمئة تريليون مرة عنا نحن البشر بجميع مواردنا.»  لذا فإنه يستنتج الآتي: «إن الكيان الذي أحضر الكون إلى الوجود لا بد وأنه كائن شخصي، حيث لا يستطيع أي أحد إلا هو، تصميم الكون بهذه الدقة الشديدة.»

إن العلاقات الدقيقة بين بعض الثوابت الفيزيائية، وبين هذه الثوابت والحياة – يُطلق عليها مجتمعة «المصادفات الإنسانية». قبل مناقشة مزايا تفسير وتأويل هذه المصادفات كبرهان للتصميم الذكي، سوف أوضح أولاً كيف أتى هذا المفهوم للوجود. لتاريخ مفصل و مناقشات موسعة لجميع القضايا، يُمكنك الإطلاع على كتاب The Anthropic Cosmological Principle، لفرانك تبلر وجون بارو. كما أحيل القارئ أيضاً للمصادر الأصلية، بهذا الكتاب. ولا بد من الإشارة هنا، أن هذا الكتاب الشامل به العديد من الأخطاء – خاصة بالمعادلات و التي لاتزال لم تصحح بعد في الطبعات اللاحقة.

سوف نناقش في الجزء التالي، ما الذي دفع العلماء للاعتقاد بأن هناك مصادفات إنسانية، وكيف يُمكن تفسير وتأويل المصادفات الإنسانية.

المصدر

Victor J. Stenger, “The Skeptical Intelligencer”, 3(3, July 1999): pp. 2-17