إن هذه السلسلة يعتمد كل جزءٍ منها على السابق، لذا ننصح بقراءة الأجزاء السابقة لفهم أعمق، وإلمامٍ أفضل للموضوع:

الجزء الأول

المصادفات الإنسانية

عام 1919، عبر هيرمان فايل عن حيرته بشأن النسبة بين القوة الكهرومغناطيسية وقوة الجاذبية بين إلكترونين، والتي تمثل رقماً ضخماً حيث  (N1 = 1039). وبالطبع، فإن هذا يعني أن قوة الطاقة الكهرومغناطيسية أكبر من قوة الجاذبية بـ 39 قيمـة أسية. ولقد تساءل فايل عن سبب هذه الظاهرة، معبراً عن حدسه بأن الأعداد المحضة (كميات لا بُعديه مثل باي) والتي لا تعتمد على أي نظام وحدات، والتي تحدث أثناء وصف الخصائص الفيزيائية – ينبغي على الأغلب أن تحدث طبيعياً في غضون بضعة قيم أسية من الوحدة. يُمكنك أن تتوقع طبيعياً الوحدة أو الصفر. ولكن لماذا 1039، لماذا ليس 1057 أو 10123، إن مبدأً ما يجب أن يختار هذا الرقم بالذات.

عام 1923، علق أرثر إدنجتون قائلاً: «من الصعب للغاية، تبرير ظهور الأعداد المحضة (ذات قيم أسية أكبر من الوحدة) في نظام الأشياء. لكن من الممكن حذف هذه الصعوبة، إذا كان بمقدورنا ربط هذا الرقم – بعدد الجسيمات  في العالم. عددٌ – من المحتمل – أنه قُرر بالصدفة.» ولقد قدر إدنجتون هذا الرقم، والذي يُسمى الآن برقم إدنجتون ويساوي N = 1079. إن رقم إدنجتون ليس بعيداً عن مربع N1. كان هذا أول المصادفات الإنسانية، وذلك أن N  تساوي تقريباً مربع N1.

ربُما تستحضر هذه التأملات إلى الذهن القياسات التي تمت على الهرم الأكبر بمصر، بواسطة عالم الفلك الإسكتلندي بيازي سميث. فقد وجد تقديرات دقيقة للعدد باي Pi، والمسافة من الأرض إلى الشمس – بالإضافة إلى مصادافات غريبة مدفونة بقياساته. ومع ذلك، فإننا نعلم الآن أن هذه النتائج ما هى إلا نتيجة لتلاعب سميث الانتقائي بالأرقام. ولازال حتى الآن، يعتقد بعض الناس أن الأهرامات تحمل أسراراً بشأن الكون. ويبدو أن مثل هذه الأفكار لا تموت أبداً، بغض النظر عن العمق التي قد تصل إليه مدفونة في الرمال.

انظر إلى عدد كافٍ من الأرقام، ومن المحتم أنك سوف تجد بعضهم على ارتباط. ولهذا فلا يعتبر معظم الفيزيائيون الأرقام الكبيرة محيرة بشكل جدي، حتى أظهر اهتماماً بها، أحد أكثر الفيزيائيين عبقرية ونبغاً – بول ديراك. ولقد تجاهل القليل من الفيزيائيين رأي ديراك بهذا الشأن.

اكتشف ديراك أن N1 له نفس القيمة الأسية لعدد محض آخر هو N2، والذي يُمثل النسبة بين مدى حياة عمر النجم النموذجي إلى الوقت الذي يلزم الضوء لعبور قطر البروتون. وبهذا، فقد وجد ديراك رقمين ضخمين، غير مرتبطين ظاهرياً – لهما نفس القيمة الأسية. فإذا كان رقماً واحداً ضخماً غير محتمل، فإن الأمر يُصبح غير مرجح – غير محتمل للغاية بأن يكون لرقم آخر نفس القيمة.

عام 1961، أشار روبرت ديكي أن N2 ضخمٌ بالضرورة ليتيح للنجوم الحياة الكافية لإنتاج وتوليد العناصر الكيميائية الثقيلة مثل الكربون. بالإضافة، فقد وضح أن N1 يجب أن يكون له نفس القيمة الأسية لـ N2 في أي كون يحتوي على عناصر ثقيلة.

إن العناصر الثقيلة لم تُصنع أو تأتي للوجود مرة واحدة – أي بشكل مباشر. فطبقاً لنظرية الانفجار العظيم (برغم مما قد تسمعه، فإن الانفجار العظيم نظرية راسخة تماماَ – وذلك بإجماع علماء الكون) فقد تكون في بداية الكون الهيدروجين، الديوتيريوم (نظير الهيدروجين يتكون من بروتون ونيوترون)، الهليوم، والليثيوم فقط. بينما لم يتم إنتاج الكربون، الحديد، الأكسجين، النيتروجين، وعناصر الجدول الدوري الأخرى إلا لاحقاً بعد مليارات السنين. ولقد تطلب الأمر هذا الزمن الضخم، لكي يتم تشكيل وتجميع هذه العناصر الثقيلة داخل النجوم من النيترونات والبروتونات. فعندما ينفذ وقود النجوم الضخمة والهائلة من الهيدروجين، فإنها تنفجر كـ سوبرنوفا – ناشرة العناصر الثقيلة المصنعة بداخلها في الفضاء، وبمجرد أن تبرد هذه العناصر، فإنها تكون الكواكب.

وتطلب الأمر مليارات من السنين الإضافية من نجمنا – الشمس، لتطوير إنتاج مستقر من الطاقة ليتسنى – على الأقل – لواحد من كواكبه أن يطور الحياة. ولكن إذا لم تكن قوة الجاذبية بين البروتونات في النجوم أكبر بالعديد من القيم الأسية من التنافر الكهربي N1 ، لانهارت النجوم واحترقت قبل فترة طويلة، وذلك قبل أن تحدث العمليات النووية اللازمة لبناء الجدول الدوري من العنصريين الأصليين الهيدروجين والديوتيريوم. إن تكوين التعقيد الكيميائي لا يُمكن إلا في كون ذي عمر ضخم، أو على الأقل كون يمتلك متجهات أخرى ذات قيم قريبة من قيم كوننا.

بل إن العمر الضخم ليس كل شيء. فإن العمليات المنتجة للعناصر في النجوم تعتمد بشكل حساس على خصائص، و وفرة عنصري الهليوم والديوتيريوم – اللذين تم إنتاجهما في بداية الكون. حيث أن الديوتيريوم لم يكن ليوجد على الإطلاق، إذا تم إزاحة الاختلاف بين كتلتي النيوترون والبروتون قليلاً عما هى عليه الآن. كما أن هذا الاختلاف يحدد أيضاً وبشدة الوفرة النسبية لعنصري الهيدروجين والهليوم. بالإضافة، تعتمد وفرة عنصري الهيدروجين والهليوم أيضاً على التوازن الدقيق بين قوتي الجاذبية والتفاعل النووي الضعيف – المسئول عن أشعة بيتا أثناء التحلل الإشعاعي. فإذا كانت تلك القوى النووية الضعيفة أقوى قليلاً، لأصبح الكون 100% هيدروجين. وفي هذه الحالة، لتحللت واضمحلت جميع النيوترونات في بداية الكون – وبالتالي عدم تشكل الديوتيريوم، والذي سيتم استخدامه في عملية صنع العناصر بالنجوم. أما إذا كانت تلك القوى النووية الضعيفة أضعف قليلاً، لتحلل عددٌ قليل من النيوترونات، ولأصبح لدينا نفس العدد من النيوترونات والبروتونات، ولارتبط جميع البروتونات والنيوترونات لتكوين أنوية هليوم، في كل منها بروتونين ونيوترونين. وكنتيجة لذلك، لأصبح الكون 100% هليوم، واختفى الهيدروجين الذي سوف نحتاجه كوقود لعمليات الاندماج في النجوم. لذا فإن كلا من الحالتين لم يكن ليسمحا بوجود النجوم، بل والحياة القائمة على الكربون التي نعرفها.

كما أن الإلكترون أيضاً مهم لتكوين العناصر الثقيلة. حيث أن كتلة الإلكترون أقل من فرق الكتلة بين النيوترون والبروتون، لذا فإن نيوترون حر يُمكن أن يتحلل إلى بروتون حر، إلكترون، ومضاد-النيترينو. فإذا لم تكن هذه الحالة، لأصبح النيوترون أكثر استقراراً، ولاندمج أغلبية البرتونات والإلكترونات في بداية الكون لتكوين النيوترونات، وبالتالي لم يعدْ هناك ما يكفي من الهيدروجين – الوقود الرئيسي للنجوم. من المهم أيضاً، أن تكون كتلة النيوترون أكبر (أثقل) من البروتون، ولكن ليس من الكبر الذي يمنع النيوترون من الوجود داخل النواة، وحيث يمنع قانون بقاء الطاقة النيوترونات من التحلل والاضمحلال.

عام 1952، قام عالم الفلك فريد هويل باستخدام الحجج الإنسانية للتنبؤ بأن ذرة كربون مثارة تمتلك مستوى طاقة مثار عند حوالي 7.7 ميللي إلكترون فولت. ولقد لاحظت أن التوازن الدقيق بين الثوابت الفيزيائية، كان ضرورياً للكربون والعناصر الكيميائية الأكبر من الليثيوم بالجدول الدوري، لكي تُشكل داخل النجوم. وقد نظر هويل فاحصاً العمليات النووية المتضمَنة، مكتشفاً أنها غير كافية.

إن الآلية الأساسية لتشكيل الكربون – هى دمج ثلاث أنوية هيليوم إلى نواة كربون مفردة.

He to C12

بيد أن، احتمالية اجتماع ثلاث أنوية معاً في وقت واحد ضعيفة للغاية، كما أن بعض العمليات الحفزية عند تفاعل نواتيْن – يجب أن تكون حاضرة. لذا فإن عملية انتقالية (وسطى) قد تم طرحها، حيث تم اقتراح اندماج نواتي هيليوم أولاً لتكوين نواة بريليوم، والتي تتفاعل بدورها مع نواة هيليوم ثالثة لتكوين الكربون.

ولقد أوضح هويل أن ذلك لم يكنْ كافياً، إذا لم تكن ذرة الكربون تمتلك حالة إثارة عند 7.7 ميللي إلكترون فولت لتوفير احتمالية عالية للتفاعل. وبالفعل تم إجراء تجربة معملية، وقد وجدت أن حالة الكربون المثارة هى 7.66 ميللي إلكترون فولت.

لا يُوجد شيء في العلم، يستطيع أن يكسبك قدراً عالياً من الاحترام مثل التنبؤ الناجح بظاهرة جديدة. ونجح هويل بذلك مستخدماً النظرية النووية القياسية. ولكن احتوى استدلال هويل على عنصر آخر، والذي لا تزال أهميته محلاً للنقاشات الساخنة.

بدون حالة الكربون المثارة عند 7.7 ميللي إلكترون فولت، فإن حياتنا الكربونية لم تكن لتوجد. حتى الآن، لا يُوجد شيءٌ في النظرية النووية الأساسية – القياسية باستطاعته أن يحدد بشكل مباشر وجود هذه الحالة. حيث لا يُمكن استنتاجها من بديهيات – مسلمات النظرية.

مثل المصادفات الأخرى، فإن الحالة النووية على وجه الخصوص، من الصعب أن تكون نتيجة للصدفة. ففي عام 1974، قام براندون كارتر بتقديم مفهوم المصادفات الإنسانية، مفترضاً أنها ليست نتيجة للصدفة ولكن بطريقة ما موجود في بنية الكون. قام بارو وتبلر بتحديد ثلاث أشكال مختلفة من المصادفات الإنسانية – وأشاروا إلى نسخة كارتر بـ المبدأ الإنساني القوي، ويتم تعريفـه كـ

المبدأ الإنساني القوي: إن الكون لا بد وأنه يحتوي على تلك الخصائص، التي تسمح بتطوير الحياه بداخله في مرحلة ما من تاريخه.

وهذا يعني أن المصادفات ليست عشوائية، بل نتيجة لأحد قوانين الطبيعة. ولكنه بالتأكيد قانون غريب، على عكس أي من القوانين الفيزيائية الأخرى. حيث يقترح بوجود الحياة كـ سبب نهائي أرسطي.

زعم بارو وتبلر – بأن هذا (المبدأ الإنساني القوي) يمكن تأويله إلى ثلاث تفسيرات:

1- لا يُوجد إلا كون واحد ممكن «مصمم» بهدف إنتاج وتعزيز «المراقبين».

يتم تبني هذا التأويل من أغلبية المؤمنين.

2- إن وجود الكون يعتمد بشدة على المراقبيين (أي أن المخ هو الذي يُنشئ العالم المُشاهد).

يُعد هذا جزء من فلسفة وحدة الذات (الأنّانّة)، وأيضاً جزءٌ من روحانيات وصوفيات العصر الحديث.

3- إن وجود مجموعة أخرى من الأكوان المختلفة ضروري لوجود كوننا.

ويعدُّ هذا التخمين جزءاً من التفكير الكوني المعاصر كما سأناقش لاحقاً. حيث يُمثل فكرة أن المصادفات عشوائية – وأننا حدث ووجدنا أنفسنا نعيش في كون ملائماً لنا.

إن الحوار الآن يُركز على الخيارين الأول والثالث، بينما الثاني لا يتم أخذه بجديه في المجتمع العلمي.

النوعان الآخران من المبدأ الإنساني هما

المبدأ الإنساني الضعيف: إن قيم الكميات الفيزيائية والكونية الملاحظة، ليست جميعها متساوية الاحتمال. ولكنها تكتسب قيماً محددة بضرورة أنه يُوجد مواقع حيث يُمكن للحياة القائمة على الكربون أن تتطور، وبضرورة أن الكون قديم كفاية ليسمح بالفعل بتطور الحياة.

إن ما يقوله المبدأ الإنساني الضعيف هو أنّه إذا لم يكن الكون بالطريقة التي هو عليها، فإننا لم نكن هنا لنتحدث بشأنه. فإذا لم يكن ثابت البناء الدقيق 137/1 – فإنه لربما اختلف شكل الناس. فإذا لم أكن أعيش في هاواي، فإنني كنت سأعيش في مكان آخر.

المبدأ الإنساني النهائي: يجب أن تأتي معالجة بيانات ذكية (intelligent, information-processing) إلى حيز الوجود في الكون، وبمجرد أن يتم ذلك – فإنها لن تموت أبداً.

عادة يُطلق عليه المبدأ الإنساني الأكثر سخفاً.

سوف نناقش في الجزء التالي تفسير وتفنيد كلاً من المبدأ الإنساني النهائي، بالإضافة إلى التفسير الأول والثاني للمبدأ الإنساني القوي.

المصدر

Victor J. Stenger, “The Skeptical Intelligencer”, 3(3, July 1999): pp. 2-17