نُشرت مؤخراً دراسة قام بها عدة باحثين، من معهد ماكس بلانك لعلوم الدماغ والإدراك في ألمانيا، قارنوا فيها عمل الدماغ بين متكلمي اللغة العربية كلغة أم ومتكلمي اللغة الألمانية. يُظهر متكلمو اللغتين انماطاً مختلفة من الترابط بين بعض الشبكات التي لها دور في اللغة. في الألمانية ذات التركيب المعقد للجمل يظهر نمط من الترابط في طيف من الشبكات ذات الدور باللغة في الدماغ. أما في العربية فيظهر الترابط في طيف آخر ومجموعة أخرى من الشبكات ذات الدور باللغة.

تطوع في الدراسة 94 متحدثاً باللغة الأم الألمانية أو العربية وقام الباحثون بفحصهم بالرنين المغناطيسي مع شبكة قائمة على تخطيط المسارات (tractography). كان من هؤلاء 47 متحدثاً بالعربية (كانوا من المتحدثين باللهجة الشامية) ومثلهم من متحدثي الألمانية كلغة أم. كما كان معظم المشاركين في الدراسة من العرب هم من الذين وصلوا حديثاً لألمانيا في الأشهر الأخيرة.

أظهرت الدراسة أن هناك ترابطاً قوية لمتحدثي الألمانية بالجانب الأيسر بين شبكات عدة ومنها الشبكة الجدارية الأمامية اليسرى (frontal parietal temporal network) والتي ترتبط وظيفياً بمعالجة تراكيب الجمل المعقدة. أما العربية فقد أظهرت ترابطاً عابراً للفصوص يربط مناطق المعاني ذات الصلة بالتحورات الغنية للأفعال بالعربية مع الشبكة المؤقتة الجدارية اليسرى. كما أظهرت الدراسة أن الترابط العابر للفصوص في العربية أعلى بقليل لو قورنت العربية بالألمانية بما يدعم نظاماً ثنائي الفصوص لمعالجة المعاني، في حين أن الترابط داخل الفصوص تميل فيه الألمانية بشكل أكبر إلى استخدام الفص الأيمن. غير أن كلاً من اللغتين ترجحان الجانب الأيسر من الدماغ وهو أمر نابع من طبيعة اللغة بشكل عام كما يوضح البحث.

لو أردنا فهم هذه الاختلافات فقد لا يمكن تبسيط الموضوع. لكن لإعطاء أمثلة فإن الترابط بين الفصوص يصبح أقل في حالة التوحد مثلاً[1]. ويرى العلماء أن الترابط بين الجانبين الأيمن والأيسر له علاقة بالترابط الداخلي في الفصوص، فحين يزداد أحد نمطي الترابط ينخفض الآخر[2]. وقد أظهر الترابط بين الفصين تحسناً في الوظائف الإدراكية لدى النساء في إحدى الدراسات[3]. يقترح الباحثون أن دور الترابط بين الفصين في العربية ينعكس فيه المزيد من معالجة المعلومات عبر اللحن وعبر النحو تكون أكثر في العربية ويدعم ذلك بنمط الأصوات الصامتة واصوات العلة في العربية. كما يتوقع الباحثون أن ذلك الترابط القوي بين الفصين قد يأتي من التأقلم مع طبيعة الكتابة العربية، حيث تفتقر اللغة لكتابة أصوات العلة القصيرة وتعبر عنها في الحركات، لذا ينبغي على القارئ أن يعتمد على السياق لتحديد طبيعة نطق الكلمة ويعزز الباحثون فرضيتهم هذه بدراسة أخرى أثبتت ظهور ذلك النمط بالترابط تحديداً حين قراءة اللغة العربية بشكل لم يحدث في الألمانية.

أما بقية الحقائق حول الشبكات المترابطة فهي كما أوضحنا، ترتبط بشكل مباشر بطبيعة تركيب الجمل في الألمانية والحاجة للترابط بين شبكات الدماغ المسؤولة عن ذلك.

الدخول بهذا المستوى من فهم العلاقة بين وظائف الدماغ وطبيعة الترابط بين شبكاته يعد أمراً فريداً. لكنه مجرد البداية لمجال واسع من الدراسة الحديثة للدماغ واللغة.

الدراسة

Wei, Xuehu, et al. “Native language differences in the structural connectome of the human brain.” NeuroImage 270 (2023): 119955.

المراجع

[1] Anderson, Jeffrey S., et al. “Decreased interhemispheric functional connectivity in autism.” Cerebral cortex 21.5 (2011): 1134-1146.

[2] Krupnik, Ronnie, Yossi Yovel, and Yaniv Assaf. “Inner hemispheric and interhemispheric connectivity balance in the human brain.” Journal of Neuroscience 41.40 (2021): 8351-8361.

[3] Davatzikos, Christos, and Susan M. Resnick. “Sex differences in anatomic measures of interhemispheric connectivity: correlations with cognition in women but not men.” Cerebral Cortex (New York, NY: 1991) 8.7 (1998): 635-640.

نشر هذا المقال ضمن مجلة العلوم الحقيقية العدد 56 وراجعته لغوياً ريام عيسى