في واحدة من مناطق بغداد التي تمتاز بخطورتها وكثرة الصراعات القبلية فيها وانتشار المعتقدات الشعبية على نطاق واسع وفي إحدى الليالي المظلمة خرج أمير متوجهًا نحو منزل أقاربه الساكنين بالقرب منهم والذي اعتاد على زيارتهم ولكن في تلك الليلة حدث شيء غريب، فقد شعر أمير بوجود أحدهم بالقرب منه، مصاحبًا إياه أثناء مسيره، غير مرئي ولا يصدر أي صوت، لم يتوقف أمير واستمر بطريقه ولكن الإحساس ما زال موجودًا بهذا الشيء الذي يصفه أمير قائلًا “شعرت بأن هناك كائن غير مرئي يتبع خطاي ولا يصدر صوتًا أثناء سيره، على الرغم من ذلك فإن بإمكاني تعيين بعض صفاته، فهو قزم او من المفترض أن أقول هي قزمة تتخلف عني ببضع خطوات وإلى اليسار مني، عندما أتوقف، تتوقف هي، وعندما التفت لأراها، اجدها متحركة بنفس السرعة التي أتحرك بها محاولةً أن تبقى خارج حقلي البصري….شعور غريب ولكني لم أشعر بالخوف منها، بل كنت خائفًا من أن أتعرض لهجوم من قبل أحدهم إذ تعرض بيتي لهجوم قبل بضعة أيام من قبل بعض المسلحين نتيجة لخلاف دب بيننا وبينهم، فهذا الخوف هو الذي كان مسيطرًا على كل شيء”.

الشعور الشبحي او ما يعرف بـ”الرجل الثالث” هو الشعور القوي بوجود شخص أو كائن ما (يختلف بحسب المعتقدات الشائعة ومعتقد الشخص) والذي لا يُرى ولا يُسمع والذي يختلف تمامًا عن تجارب الخروج من الجسد التي تتميز برؤية الجسد والشعور به من الخارج، كما ويختلف عن تأثير الشبيه (doppelgänger effect) والذي يتميز برؤية الجسد والتفاعل معه. يحدث هذا الشعور في ظروف مختلفة كالبرد الشديد، الجفاف الشديد، نقص الاوكسجين، الظلام، الخوف الشديد، وأضف إليها المعتقدات القوية كما رأيت في حالة ادم.

آدم هو جندي اشترك في الحرب العراقية-الإيرانية، ويذكر قصته مع هذا الإحساس، يقول “لطالما شعرت بوجود أحد معي اثناء المعارك، من الممكن أن تسميه ملاكي الحارس، ولطالما شعرت بالراحة بوجوده والثقة الكبيرة، وبإمكانك أن تقول ان وجوده مألوف بالنسبة لي ولكن في إحدى المعارك الدموية التي خضناها، حدث شيء غريب معي. وصلنا أمر من القيادة العليا ان ندخل لمنطقة تتميز بخطورتها وقد دخلتها مجموعة من الجنود قبلنا ولكنهم قتلوا ولم يبق احدٌ منهم، ولذلك عندما وصل الامر، شعرنا جميعنا بالخوف والرعب فقد حصدت هذه المنطقة الكثير من الأرواح وظننا أن اليوم هو آخر شروق للشمس بالنسبة لنا. اتى الامر بالانطلاق مع بداية المساء، وبالفعل انطلقنا ودخلنا المنطقة وما رأيناه جعلنا نفقد عقولنا، جثث الجنود في كل مكان، رائحة الدماء القوية، وضوء القمر المنعكس على سطح الماء العكر. لم نلبث قليلًا حتى بدأت القذائف بالتساقط والرصاص بالتطاير وبدأ الجنود بالسقوط واحدٍ تلو الآخر، شعرت بالرعب في هذا الوقت وحاولت ان أختبئ في أي مكان ولكن لا وجود لأي ساتر ولذلك انبطحت واحتميت بجثة أحد الجنود الذين سبقونا بالدخول، هنا حدث الشيء الغريب فقد شعرت بوجود أحد يرقد بالقرب مني غير ملاكي الحارس، شخص لا ينطق ولا يرى ولكنه يثير الرهبة، ولأكون صريحًا معك، فعند دخولنا لهذه المنطقة شعرنا “بأرواح” هؤلاء الجنود، شعور لا يمكن وصفه ولكنك ستعرفه حالما يحدث معك. قضيت بضع ساعات وانا مختبئ خلف هذا الجندي وروحه معي الى ان طلع الصباح علينا وانسحبنا. ها انا اروي لك هذه الحادثة بعد سنين طوال والاثر الذي تركه ذلك الجندي لا يختفي..”

يذكر طبيب الاعصاب ماكدونلد كريتشلي (McDonald Critchley) قصص مشابهة لجنود أثناء الحرب العالمية الثانية، منها قصة بحارين كانت قد تدمرت سفينتهما ليتشبثا بطوق مطاطي ويصلا لبر الأمان، إذ يذكر هذان الجنديان الشعور الشديد بوجود شخص ثالث معهم كان قد صاحبهما خلال الرحلة. يعتقد كريتشلي ان فكرة الوجود (The idea of presence)، كما أطلق عليها، تحدث في حالات التوتر الجسدي والعقلي الشديدة. من حالات التوتر العقلي الشديد التي يذكرها كريتشلي هي لإمرأة استيقظت في الليل لتشعر بوجود شخص مألوف بالقرب منها، شخص تعرفه لدرجة كبيرة، ولكن بعد لحظات أدركت ان هذا الشخص ما هو الا ذاتها، هذه المرأة كانت تعاني من تقلص في حجم الفصين الجداريين (Parietal Lobes)، مما يدل على وجود أساس عضوي لهذه التجارب.

الشبح في الدماغ

الشعور الشبحي ويسمى أيضاً (feeling-of-a-presence) تحدث في حالات عصبية ونفسية كثيرة مثل الصرع، انفصام الشخصية، إصابات الدماغ وغيرها من الحالات. يعتقد بعض العلماء ان الشعور الشبحي هي حالة توازي ما يحدث عند المصابين بانفصام الشخصية الذين يسمعون أصواتاً وينسبوها لأشخاص خارجيين، وفي الحقيقة هي أصوات أفكارهم الداخلية ولكنهم فشلوا بالتعرف عليها. يحدث الفشل بالتعرف أيضًا في حالات الشعور الشبحي، إذ يفشل الشخص بالتعرف على “الذات” وبالنتيجة ينسبها الى “الاخر”.

أن الأسس العصبية لمثل هذا الشعور لم تُستكشف إلا حديثًا، بعدما تمكنت مجموعة من الباحثين من تعيين ثلاث مناطق دماغية مسؤولة عنه في 12 مريض، 11 منهم يعانون من الصرع، ومريض واحد يعاني من عدوى دماغية. تم تعيين المناطق المصابة باستخدام تقنيات مختلفة مثل الرنين المغناطيسي (MRI)، جهاز قياس كهربية الدماغ (EEG)، وتحفيز الدماغ بواسطة الأقطاب.  هذه المناطق هي القشرة الصدغية-الجدارية (Temproparietal cortex)، القشرة الجبهية-الجدارية (Frontopareital cortex)، والجزيرة (Insular cortex) والذي يميز هذه المناطق هو الارتباط القوي بينها والتناسق بالعمل. هناك منطقة صغيرة من ضمن القشرة الجبهية-الجدارية تدعى منطقة برودمان السابعة (Broadmann area 7) هي الأكثر ارتباطًا بظاهرة الشعور الشبحي. هذه المنطقة مسؤولة عن تعيين الأجسام في الفضاء وأي إصابة بها تجعل من الصعب الوصول للجسم والإمساك به كما وأن وظيفتها لا تقتصر على تعيين الفضاء الشخصي، ولكن بإمكانها ان تعين فضاء الآخرين ايضًا، أي الفضاء المحيط بالشخص.

تمكنت نفس المجموعة من الباحثين من تحفيز مثل هذا الشعور عند مريض يعاني من الصرع أثناء خضوعه لعملية لتخفيف حدة النوبات. قبل إزالة أي جزء من الدماغ، يتم تحفيز عدة مناطق مسؤولة عن مختلف الوظائف لتجنب ازالتها اثناء العملية، وأثناء هذه العملية، عمد الباحثون إلى تحفيز المنطقة الصدغية-الجدارية من الفص الايسر، عندها شعر المريض بوجود أحد ما يتخذ نفس وضعية جسده والى يساره مما يشير إلى اضطراب في معالجة الإشارات الجسدية الحسية. بالاعتماد على هذا المبدأ (الاضطراب في معالجة الإشارات الجسدية الحسية) حاول الباحثون أن يحفزوا مثل هذا الشعور عند اشخاص اصحاء في ظروف طبيعية باستخدام الروبوتات.

أصبح من المعروف في ميدان علم الدماغ أن الشعور بالجسد من الممكن نقله لأجساد غير حية، كاليد المطاطية، الطاولة، أو أي جسم آخر وهذه الظاهرة تُعرف بوهم اليد المطاطية (Rubber hand illusion). إذ يجلس الشخص الخاضع للتجربة لينظر الى يد مطاطية توضع على الطاولة، بينما توضع يده الحقيقة تحت الطاولة، ومن ثم يعمل المجرب على لمس يده الحقيقة واليد المطاطية بنفس الوقت، وبعد بضع دقائق وحالما ينتقل شعور الشخص لهذه اليد، يعمل المجرب على وخز اليد المطاطية وعندها يمكن مشاهدة التوتر على الخاضع للتجربة ورد فعله المفاجئ.


(Rubber Hand Illusion via BBC)

وهم اليد المطاطية اقتصر على جزء من الجسد فقط، ولشمل الجسد بأكمله بهذا الوهم استخدم الباحثون روبوت يتكون من ذراع يمكن تحريكها إلى الأمام، في الوقت ذاته هناك ذراع تعمل على وخز ظهر الخاضع للتجربة الذي قد وضع عصابة على عينيه. هذه الحركة حدثت بالتزامن، فعندما يحرك الخاضع للتجربة الذراع للأمام، يشعر بأن هذه الحركة أدت إلى وخز ظهره وهذا التفاوت بالإشارات (الإحساس بحركة اليد إلى الأمام في الوقت ذاته يحدث الإحساس بالوخز من الخلف) جعل الخاضعون للتجربة يشعرون وكأن أجسادهم قد أزيحت الى الامام. في الجزء الثاني من التجربة، أضاف الباحثون تأخر بحركة الذراع الخلفية لبضع أجزاء من الثانية، فعندما يحرك الخاضع للتجربة الذراع إلى الأمام، هناك فترة زمنية قصيرة تتبعها وخزة على الظهر. هنا شعر الخاضعون للتجربة بأن أجسادهم قد أُزيحت إلى الخلف وحدث مع بعضهم ظاهرة الشعور الشبحي.


(Robot arms recreate feeling of alien presence)

هذه الظاهرة تحتاج للمزيد من الدراسات لمعرفة الظروف والعوامل المؤثرة لحدوثها (وذلك بسبب حدوثها في الحالات المرضية والحالات الطبيعية). اغلب القصص تشير إلى الشعور بموجود واحد، وعلى الأغلب في الاتجاه الخلفي الايسر، ولكن هناك قصة لرجل يعاني من الصرع يشعر بموجودات كثيرة، وهناك قصة لشخص أعسر اليد يشعر بموجود في الاتجاه الخلفي الأيمن وليس الأيسر وربما يشير هذا إلى اختلاف في الدوائر الدماغية وبالنتيجة اختلاف في التجربة.

مثل هذه الدراسات قد تساعد في فهم الهلوسات التي تحدث في مرضى انفصام الشخصية وقد تساعدهم في التخفيف منها من خلال استخدام الروبوتات. فضلًا عن ذلك، فإن تسليط الضوء على هكذا ظواهر يخرجها من ميدان الماورائيات إلى ميدان علم الدماغ، وبالنتيجة تقليل الضرر النفسي الذي قد تسببه عند البعض.

 

تنويه: تم تغيير أسماء الأشخاص المذكورين وبعض التفاصيل الصغيرة حفاظًا على خصوصيتهم وأي تشابه في قصصهم مع أي شخص، ما هو إلا بمحض الصدفة.

اقرأ أكثر:

https://www.scientificamerican.com/article/the-sensed-presence-effect/

https://www.newscientist.com/article/dn26516-ever-felt-a-ghostly-presence-now-we-know-why/

http://www.dana.org/News/Swiss_Neuroscientists_Induce_Spooky_Feeling_of_a_Presence_in_Healthy_Volunteers/

المصادر:

Blanke, O., Pozeg, P., Hara, M., Heydrich, L., Serino, A., Yamamoto, A., … Rognini, G. (2014). Neurological and Robot-Controlled Induction of an Apparition. Current Biology, 24(22), 2681-2686. doi:10.1016/j.cub.2014.09.049

Feinberg, T. E. (2002). Altered egos: How the brain creates the self. Oxford: Oxford University Press.

Critchley, M. (1955). THE IDEA OF A PRESENCE. Acta Psychiatrica Scandinavica, 30(1-2), 155-168. doi:10.1111/j.1600-0447.1955.tb06055.x