أخبرتُ أنا وزوجتي أطفالنا أن سانتا كلوز سُيقدمُ لهم الهدايا عشية عيد الميلاد. طلبنا إليهم ترك الكوكيز لسانتا والجزر لحيوانات الرنة، وتأكدنا من إخفاء هذه الأشياء أو جعلها تبدو نصف مستهلكة في صباح عيد الميلاد. مثل العديد من الآباء، أنا مذنبٌ بالكذب على أطفالي بشأن سانتا، لكن في تطور غريب على النمط المعتاد، أخبرني ابني لاحقا أنهُ على الرغم من اكتشافه في النهاية أن سانتا كان أسطورة، إلا أنهُ واصل التظاهر بأنهُ لا يدري أنهُ اسطورة، لأنه كان قلقا من أنه إذا كشف أنه يعرفُ الحقيقة، فقد يحصل على هدايا أقل.

على الرغم من تقدير الآباء الصريح للصدق في كثير من الأحيان وتعزيزه لدى أطفالهم، فإنهم يكذبون في جميع أنحاء العالم على أطفالهم بمعدلات مروعة، وليس سانتا كلوز هو المثالُ الأكثرُ إثارة للقلق. يُسميها أحد علماء النفس “التربية بالكذب” (Setoh et al. 2023)، وتظهرُ هذه الاستراتيجيةُ الشائعةُ لتربية الأطفال في مجموعة متنوعة من المواقف. يُقدمُ الجدولُ أدناهُ بعض الظروف اليومية التي تدفعُ الآباءُ إلى الكذب على أطفالهم.

نوعُ الكذب أمثلة
لحماية مشاعر الأطفال “لقد كان عزفك جميلا”. حين يعزف الطفل على البيانو (عزفا غير جميل)؛ “أعدك أن ماما لن تموت أبدا”
للحصول على السلوك المثالي “إذا لم تترك أختك الآن، سأتصلُ بالشرطة، وسيأخذونك إلى السجن”.
لتجنب إحراج الوالدين “السماءُ زرقاءٌ لأنهُ اللونُ المفضلُ لدى الطيور”.
الإقرار بوجود الكائنات الوهمية سانتا كلوز، أرنبُ عيد الفصح، جنية الأسنان

 

 

يبدو الكذبُ خطأ — وإلا فلن نُركز كثيرا على قول الحقيقة — لكن إن كنت أحد الوالدين فسيصير الأمر معقدا. يكذبُ جميعُ الآباء تقريبا على أطفالهم من وقت لآخر، لكن لا بد أن يكون ذلك بمثابة استراتيجية مثيرة للقلق في تربية الأطفال. علاوة على ذلك، حتى وقت قريب، لم يكن هناك سوى القليل جدا من الأبحاث النفسية حول تأثيرات التربية بالكذب. حاليا، بدأ سد هذه الفجوة المعرفية، والنتائجُ الأوليةُ أسوأ مما كُنا نتصور. ولكن أولا، لتكون لدينا خلفية صغيرة عن الأمر.

أخلاقيات الكذب

قضى الفلاسفة الكثير من الوقت في التفكير في الكذب. التعريف الأكثر شيوعا للكذبة هو “التصريحُ الذي يُدلي به شخصٌ لا يُصدق هذا التصريح بقصد جعل شخص آخر يُصدقه” (Isenberg 1964, 466). يُغطي هذا التعريف احتمال أن يقول الكاذبُ شيئا صحيحا عن غير قصد، كأن تعتقد بوجود أموال في جيبك، لكنك تُقول للمُتسول أنك لا تملك المال، ثم تكتشف لاحقا أنك تركت كل أموالك في المنزل. يعتمد الكذب على ما يعتقده الكاذب لا على حقائق الأمر.

حدد الفلاسفة وجهتي نظر أخلاقيتين رئيسيتين للكذب، مع عدة تدرجات بينهما. وفي أقصى أحد الطرفين من الطيف، قال إيمانويل كانط Immanuel Kant (1724-1804) إنه ليس للكذب ما يبرره على الإطلاق. إذا جاء قاتلٌ إلى باب منزلك سائلا أين تختبئ ضحيته المقصودة وأنت تعرف الإجابة، فيجب عليك أن تقول الحقيقة لأن قول الحقيقة أمرٌ حتمي لا يمكن تجنبه بغض النظر عن العواقب على نفسك أو الآخرين (Bok 1999). وهذا ما يُعرف بوجهة النظر الأخلاقية. على الطرف الآخر، اعتنق جيريمي بينثام Jeremy Bentham (1748-1832) وجهة النظر النفعية، فأشار إلى أن الخطأ ليس متأصلا في الكذب، ويجب تقييمه على أساس العواقب. يقدم الفيلسوف المعاصر كلانسي مارتن حجة نفعية لصالح الكذب في سياق العلاقات الرومانسية: “إذا كنت تريد أن تحظى بالحب في حياتك، فمن الأفضل أن تكون مستعدا لقول بعض الأكاذيب وتصديق بعض الأكاذيب” (مارتن 2015). ويشير إلى أن إيمانويل كانط كان عازبا طوال حياته.

لطالما اعتُبر الكذبُ على الأطفال حالة خاصة. ورأى الفيلسوف الهولندي هوغو غروتيوس Hugo Grotius (1583 ـ 1645) أن الكذب على الأطفال مسموحٌ به لأنهم لم يمتلكوا بعد “حرية الحكم” ومن ثم فليس لديهم الحق في معرفة الحقيقة (Bok، بوك 1999). في كتابها الكلاسيكي الكذب: الاختيار الأخلاقي في الحياة العامة والخاصة Lying: Moral Choice in Public and Private Life، وضعت سيسيلا بوكSissela Bok (1999) الكذب على الأطفال ضمن فئة أوسع هي الأكاذيب الأبوية Paternalistic lies وأعربت عن شكوك كبيرة حول استخدامه. لقد أدركت أنه في حالة الأزمة قد يكون من الضروري الكذب على الطفل لتجنب خطر وشيك، لكنها تعتقد أنه يمكن للأطفال في كثير من الأحيان الاستفادةُ استفادة فعالة من الحقيقة. إضافة إلى ذلك، على الرغم من أن البالغين يُمكنهم إعطاءُ موافقة مُسبقة على التعرض للخداع في مواقف معينة (على سبيل المثال: “إذا كنت في علاقة غرامية، فلا تُخبرني عنها رجاء”)، إلا أن الأطفال بصورة عامة غيرُ قادرين على إعطاء موافقة مستنيرة. يحاولُ بعضُ الأشخاص الالتفاف حول هذه العقبة، بحُجة أن الطفل حين يكبر سيوافق على ما تعرض له من خداع في الماضي. يُطلقُ على هذا غالبا اسم “الموافقة الضمنية”. لكن المستقبل نادرا ما يكونُ مؤكدا، وتشيرُ بوك إلى أن المُبررات المُستندة إلى الموافقة الضمنية من المرجح أن تكون متحيزة لدوافع شخصية للكاذب. وتخلصُ بوك إلى أنهُ، مثل الأكاذيب البيضاء (على سبيل المثال: “أنا أحب قصة شعرك الجديدة”)، فمن غير المرُجح أن نتمكن من تجنب كل الأكاذيب الأبوية، لكن يجبُ أن نحاول إبقائها على الحد الأدنى (Bok 1999, 217).

العواقب النفسية للكذب على الأطفال

من السهل إلى حد ما على الفلاسفة أن يتخيلوا سيناريوهات حول الأكاذيب ويناقشوا آثارها الأخلاقية، لكن من الأصعب بكثير إجراءُ بحث نفسي حول هذا الموضوع بسبب القيود العملية والأخلاقية. على سبيل المثال، في تجربة نفسية مثالية، سيوزع الباحثون العائلات توزيعا عشوائيا على مجموعة “الكذب” أو “عدم الكذب”. سواء أرادوا ذلك أم لا، سيُطلبُ إلى الآباء في مجموعة الكذب تعمدُ استخدام أنواع مُختلفة من الأكاذيب مع أطفالهم، وسيُطلبُ إلى الآباء في مجموعة عدم الكذب تجنبُ الكذب على أطفالهم تماما. إضافة إلى ذلك، قد تكونُ هناك حاجةٌ إلى أجهزة مراقبة أو تسجيل في المنزل – وربما في سيارة العائلة – للتأكد من امتثال الوالدين لتعليمات الباحثين. وبعد ذلك بوقت طويل، بعد تعرض الأطفال لهذه الظروف لسنوات عديدة، سيعودُ الباحثون لإجراء تقييمات نفسية لكل من الوالدين والأطفال الذين كبروا. ولك أن تتخيل كم ستكون هذه التجربةُ مكلفة، وغير أخلاقية على الإطلاق، وربما يكونُ من المستحيل إجراؤها.

على الرُغم من المشاكل المنهجية المتأصلة في الأبحاث المتعلقة بالتربية بالكذب، إلا أن الموضوع مُهمٌ بدرجة كافية لدرجة أن علماء النفس بدأوا في إلقاء نظرة عليه. في مراجعة حديثة في الاتجاهات الحالية في العلوم النفسية Current Directions in Psychological Science، ذكرتْ بييبي سيتوه Peipei Setoh وزملاؤها أن انتشار التربية بالكذب مرتفعٌ جدا في جميع أنحاء العالم. على سبيل المثال، في دراسة استقصائية لعدة أنواع من الأكاذيب بين آباء الأطفال الذين تبلغُ أعمارهم ثلاث سنوات أو أكبر، أفاد 78% من الآباء الأمريكيين و98% من الآباء الصينيين بممارسة التربية بالكذب (Heyman et al. 2013). وجدت الدراساتُ التي بحثت في المتغيرات الديموغرافية عددا مدهشا من الأشياء التي لا يبدو أنها تؤثرُ في احتمالية الكذب على الأطفال. على سبيل المثال، لا يبدو أن جنس الطفل، والآراء السياسية للوالدين، وعدد الأطفال في الأسرة، تؤثرُ في احتمالية الكذب على الأطفال (Setoh et al. 2023). إضافة إلى ذلك فإن الآباء الذين أفادوا بأنهم مُلتزمون بشدة بتعليم أطفالهم أن الكذب أمرٌ خاطئٌ لم يكونوا أقل كذبا على أطفالهم من أولئك الذين لم يلتزموا ذلك (Heyman et al. 2009)، وهو ما يثيرُ الدهشة إلى حد ما.

في مقارنة بين الأمريكيين الأوروبيين والأمريكيين الآسيويين، أشارت دراسةٌ استطلعت ما أفاد به طلابُ الجامعات حول تصرفات والديهم وما أفاد به أولياء أمور عن سلوكهم؛ إلى أن احتمال كذب الأمريكيين الأوروبيين مساو لاحتمال كذب الأمريكيين الآسيويين لحماية مشاعر الطفل، لكن احتمال كذب الآسيويين الأمريكيين كان أعلى من الأمريكيين الأوروبيين حين يتعلق الأمر بمحاولة السيطرة على سلوك أطفالهم (Heyman et al. 2009).

تشيرُ الأبحاثُ الأكثرُ إثارة للقلق إلى أن التربية بالكذب ذات تأثيرات سلبية عديدة. لخصت سيتوه وزملاؤها (2023) العديد من الدراسات التي أظهرت نتائج تتماشى مع فرضية التعلم الاجتماعي، وهي أنهُ حين يكذبُ الآباءُ على أطفالهم، يزداد احتمال أن يكذب الأطفالُ على والديهم. إضافة إلى ذلك، ترتبطُ التربيةُ بالكذب بضعف الارتباط بالآباء وضعف الرضا عن العلاقة بين الوالدين والطفل. ومن النتائج المثيرة للقلق بصورة خاصة أن ظهور تدن في الصحة العقلية أعلى في الشباب الذين أبلغوا عن تعرضهم للتربية بالكذب. على سبيل المثال، وجد دود ومالم Dodd and Malm (2023) أن المُشاركين الشباب البالغين الذين تعرضوا للتربية بالكذب عانوا أعراض القلق والتوتر والاكتئاب بصورة أكبر من أولئك الذين لم يُربوا بهذه الطريقة. كلما تعلمنا المزيد عن التأثيرات السلبية للتربية بالكذب، توضح لنا أن الآباء يتأرجحون بين طرفي صراع كلاسي، أحدهما قصير المدى مقابل والآخر طويل المدى، سواء أدركوا ذلك أم لا. في اللحظة التي يُسْتخْدمُ فيها الكذب، فقد يؤدي إلى النتيجة المرجوة: تهدئةُ مشاعر الطفل أو تشجيعه على الامتثال للأوامر. لكن يلوحُ في الأفق احتمالُ تضاؤل الثقة، وضعف العلاقات بين الوالدين والطفل، وفي أسوأ الحالات، تدهورُ الصحة العقلية.

تنبيهٌ

كل هذا يبدو سيئا جدا، لكن ينبغي أن يُؤخذ بشيء من التشكيك. فهذا موضوعٌ يُشقُ البحث فيه، وقد تكونُ الصورةُ الواقعية أكثرُ دقة مما تبدو عليه الآن. جُمعت معظمُ البيانات التي لدينا باستخدام التقرير الذاتي -إما إجابةُ الوالدين على أسئلة حول سلوكهم أو تذكر الشباب والأطفال الأكبر سنا كيف تعامل آباؤهم معهم. هذه الأساليبُ عرضةٌ للانحياز، والارتباطُ لا يعني السببية. وربما تكونُ هناك عواملُ أخرى مؤثرةٌ هنا لم يُكشف عنها بعد. إن هذا النوع من الأبحاث التفصيلية المستقبلية التي وصفتُها في التجربة الافتراضية أعلاه لن يكون ممكنا أبدا، لكن مع ظهور المزيد من الدراسات التي تستخدمُ منهجيات متنوعة، قد يُكشف عن فهم أوضح لتأثيرات التربية بالكذب. ومع ذلك، بناء على هذه النتائج الأولية، قد يُدركُ الآباءُ الحكيمون أن الدافع إلى الكذب على أطفالهم علامةٌ منذرةٌ – وهي إشارةٌ إلى أنهُ يجبُ عليهم استكشافُ استراتيجيات أكثر فعالية لتربية الأطفال. وفي حالتي الخاصة، فقد فات الأوان للتفكير مرة أخرى بشأن سانتا. لا يسعني إلا أن أتمنى أن يُسامحني أطفالي – وهم الآن في الثلاثينيات من عمرهم – على الترويج لهذا الخداع.

المقال الأصلي:

Stuart Vyse, “Should We Lie to Our Kids?”, Skeptical Inquirer,  January 18, 2024

تم نشر المقال في العدد 60 من مجلة العلوم الحقيقية وراجعته لغويا ريام عيسى