بعكس النظرة الطبية الشائعة إلى الاكتئاب باعتباره مرضا عقليا، ينظر علم النفس التطوري إلى الاكتئاب باعتباره مشكلة تهدد وجود الفرد ولياقته التكاثرية. في هذا المقال سأقدم لكم موجزا لأهم أساليب علاج الاضطرابات النفسية القديمة والأسلوب المعرفي التطوري الحديث. سأعتمد على الدراسة المنشورة عام 2014 بعنوان (Cognitive evolutionary therapy for depression: A case study). وللمزيد من المعلومات حول الاكتئاب، راجعوا هذه المقالات: 1 ، 2 ولإجراء اختبار لقياس مستوى الاكتئاب، راجعوا هذا المقال: 3 .

الأساليب العلاجية القديمة

العلاج المعرفي السلوكي Cognitive-behavioral therapy هو واحد من أشهر الأساليب المستندة إلى الدليل العلمي والمتَّبعة في مجال الطب النفسي وعلم النفس. فكرة هذا العلاج هي أن المشكلات النفسية تنتج من المعارف cognition غير العقلانية (الأفكار، التجارب) التي تسبب الخلل في حياة الفرد الوظيفية. ومن هنا، يقوم الطبيب المُعالِج بمساعدة مرضاه في تتبُّع مواطن الخلل في حياتهم لتعديلها وإصلاح حالاتهم المزاجية والسلوكية.

إحدى النظريات المؤثرة في هذا المجال هي نظرية الطبيب النفساني الأميركي آرون بيك Aron Beck. رأى بيك أن الاعتقادات الخاطئة التي يحملها المرضى تجاه أنفسهم وتجاه الحياة هي نتيجة اكتئابهم وليست سببه. فالناس يكونون أنماطا معرفية ثابتة نسبيا نتيجة لتعلُّمهم المبكِّر، وهذا يقودهم إلى تكوين تأويلات غير طبيعية لأحداث الحياة.

إذن، فالعلاج المعرفي السلوكي يركز على العوامل المباشرة proximal التي تسبب الأمراض ولا يلتفت إلى العوامل غير المباشرة ultimate (الأسباب التطورية).

فهم الاضطرابات النفسية تطوريا

نظرا إلى عالمية وشيوع الاضطرابات النفسية، حاول علم النفس التطوري مرارا تفسير أسبابها والبحث عن طرق “تطورية” لعلاجها. ومن وجهة نظر نفسية تطورية، فإن بعض الاضطرابات النفسية لها فوائد متعلقة باللياقة (اللياقة البيولوجية هي القدرة على وصول سن التكاثر وإنجاب ذرية)، سواء كانت هذه الفوائد حاضرة في زمننا الحديث أو في الماضي (زمن الأسلاف).

العلاج التطوري

اهتمت دراسات علم النفس التطوري باضطراب الاكتئاب لعدة أسباب، منها:

  • الانتشار المتزايد (حيث يُقدَّر انتشار الاكتئاب في أميركا وحدها بـ 5-10%)،
  • العالمية (انتشار الاكتئاب في جميع الثقافات)،
  • تأثيره المدمِّر على اللياقة التكاثرية reproductive fitness كنتيجة لإقدام بعض المرضى على الانتحار، وإهمالهم لأنفسهم.

يكمِّل العلاج المعرفي التطوري Cognitive Evolutionary Therapy العلاجَ السلوكي المعرفي بتركيزه على الأسباب غير المباشرة للاضطرابات النفسية، مثل: اللياقة المتضمَّنة والنجاح التكاثري التي يرى العلماء أنها تؤدي إلى الاكتئاب عندما تُمنَع من أداء وظيفتها بأكمل وجه. ويركِّز أيضا على الوظائف التكيُّفية لأعراض الاكتئاب، بالإضافة إلى السلوكات غير الصحية التي تقلل من اللياقة.

يدور السلوك البشري في حلقة مغلقة من المشكلات التكيفية البيولوجية والاجتماعية (مثل: المأوى والأمان، التغذية، الجنس، التربية، التفاعل مع الآخرين). وقد ذكرت الدراسات أن الناس يكونون سعداء وجيدين إذا حققوا هذه الأهداف، ويصيرون كئيبين وغير راضين ومحبطين إذا فشلوا في تحقيقها.

فلكم أن تتخيلوا الطبيب النفساني يجلس قريبا من المريض ويشرح له طبيعة الإنسان من وجهة نظر تطورية، فيحدثه عن الاقتران وعن الاستثمار الوالِدي وعن الحدود الأساسية التي لا يمكن أن يتعدَّاها الإنسان. يتقبَّل المريض وجهة نظر الطبيب ويبدأ بالتفكير في مشكلاته باعتبارها نتائج لنمط حياته لا عقوبةً من الله ولا نتيجة للسحر والحسد وسوء الحظ!

حالة اكتئاب

هذه هي الدراسة الأولى من نوعها التي تحاول اختبار فوائد العلاج المعرفي التطوري العملية. درس الباحثون طالبة تبلغ من العمر 22 عاما أعطوها اسم “جودي”. قام أصدقاء جودي بتحويلها إلى العلاج النفسي بعد أن تأثرت حياتها الشخصية وأداؤها في المدرسة بعد انفصالٍ عاطفي. جودي هي الابنة الوحيدة لعائلة من الطبقة الوسطى، تعيش وحدها خلال وقت الدراسة ثم تعود إلى أهلها في مدينة أخرى في أيام الإجازات.

في بداية العلاج، ذكرت جودي قائمة مشكلاتها، وهي: مزاج كئيب، نقصان الاهتمام بالنشاطات الممتعة، شعور بالذنب والغضب، ضعف في التركيز بسبب انتهاء علاقة غرامية دامت ستة أشهر. شعرت بأنها المسؤولة عما حدث وأنها لن تكون قادرة على الوصول إلى نفس المستوى من الاحتواء العاطفي مرة ثانية. كان هدف جودي من العلاج أن تتخلص من العلاقة وتكون قادرة على التأقلم مع حالتها بعد أن حاولت شرب الكحول والاحتفال بلا مبالاة لمعالجة مشكلتها.

شُخِّصت جودي في البداية بأنها حالة اكتئاب متوسط.  وكانت لياقتها منخفضة بعد أن ملأت استمارةً لتقييم إدراكها لجاذبيتها (رأت أنها لم تعد جذَّابة جسديا)، ونمط أكلها (لم تكن تأكل طعاما صحيا)، ونشاطها الجسدي (كانت خاملة).

  • الجلسة الأولى: ركزت الجلسة الأولى على إعطاء جودي معلومات طبية عن الاكتئاب وعن العلاج النفسي عموما، مع التشديد على أهمية العمل المنزلي (طُلِب منها أن تكتب بالتفصيل عن نمط غذائها وتمارينها) وأهمية تغيير نمط الحياة ومعرفة توقعاتها عما يمكن أن تكسبه من العلاج. أيضا، شرح الطبيب المعالِج لجودي أن التركيبات المعرفية التي نملكها الآن كانت تكيُّفية فيما قبل (في بيئة البليستوسين/العصر الحديث) ولكنها قد لا تكون متوافقة تماما مع البيئة الحديثة التي نعيش فيها الآن. كما أوضح الطبيب لجودي أن بعض الباحثين يرون الاكتئاب باعتباره تكيفا قد يكون ساعد في تشجيع التعاوُن والحصول على الدعم الاجتماعي في بيئة الأسلاف.
  • في الجلسات التالية، ركز المعالِج على “غضب جودي” الذي رأى أنه هو الذي يمنعها من تقبُّل وضعها الجديد والتغلب على حزنها. هذا الغضب هو عاطفة ثانوية secondary emotion أي أنه عاطفة نتجت من عاطفة أخرى. وباختصار، كان لسان حال جودي يقول بغضب “لا يجب أن أحزن على انفصالي عنه، أنا ضعيفة لأنني صرت كئيبة بعد انفصالنا”. وفي هذه الحالة، لا يمكن الخوض في موضوع الاكتئاب إلا بعد حل مشكلة العاطفة الثانوية.
  • بعدما فهمت جودي اضطرابها من وجهة نظر تطورية تمكنت من تقبُّل نفسها وتحسنت حالتها قليلا. شُرِح لجودي أن الرفض من قِبل شريكٍ يتمتع بلياقة عالية -في زمن الأسلاف- كان يعني تكاليفَ خطرة على اللياقة والسمعة والمكانة، هذا لأننا كنا نعيش في قبائل تتكون من 150 إلى 200 عضوا. بالإضافة إلى صعوبة الحصول على شريكٍ يتميز بلياقة عالية في الماضي. فكان هدف الجلسات التالية هو أن تتخلى جودي عن وجهة النظر “يجب أن أتخلص من هذا بسرعة، وإذا لم أستطع فأنا ضعيفة بلا جدوى” وتستبدلها بوجهة النظر “أودُّ أن أتخلص من هذا بسرعة، ولكنني لا أمانع إن احتجت وقتا أطول، ولو حدث هذا فهو لا يعني أنني ضعيفة، بل يعني أنني إنسانة طبيعية يمكن أن تخطئ”.
  • في الجلسات من 7 إلى 11، حاول المعالِج إبقاء جودي على الغذاء الصحي والتمارين انطلاقا من فكرة أن الأسلاف كانوا يتنقلون بين أكثر من مكان في اليوم الواحد، ومن ثم كان على جودي أن تمارس هذا “التنقُّل” من خلال تمارينها حتى لا تصل إلى حالة التشبُّع والملل.

دام علاج جودي 12 جلسة. في الجلسة الأولى ملأت استمارة لتقييم مستوى اكتئابها فحصلت على 23 نقطة (اكتئاب متوسط). هبط مستوى الاكتئاب إلى 16 نقطة بعد الجلسة الرابعة (تحسَّنت حالتها قليلا). وبعد الجلسة الثامنة وصلت جودي إلى 7 نقاط (اكتئاب طفيف أو لا اكتئاب) وهذا يعني أن حالتها تحسنت بنسبة 68%.

تابع الباحثون حالة جودي لمدة ثلاثة أشهر بعد انتهاء العلاج، فوجدوا أن نتائج العلاج لم تتغير وأنها لم تعد مصابة بالاكتئاب.

خاتمة

لقد توقفت نظرية التطور عن كونها مجرد نظرية منذ عقود. وبينما يتجادل بعض الناس حول مصداقيتها وصلاح الأشخاص الذين اقتنعوا بها، يقوم العلماء في مختبرات البيولوجيا وعلم الجينات وفي العيادات النفسية بتطبيق أساليب تطورية عملية جديدة لتغيير الآراء الخاطئة وتجديد عالمنا. لم يزل علم النفس التطوري في شبابه، متحمِّسا وجريئا ومقنِعًا جدا. الذين يقرأون في علم النفس التطوري قد يتفقون معي حول نقطة واحدة: إن هذه الدراسات المثيرة حول طبيعة النفس البشرية لن تتوقف عن هذا الحد، بل ستجتاح المستشفيات ذات يوم وستقلل من تكاليف العلاجات الدوائية ذات الأعراض الجانبية الكثيرة والخطيرة.

هذه الدراسة ليست إثباتا قاطعا وهذا النوع من العلاجات ليس مضمونا دائما، فالأمر يحتاج إلى المزيد من الدراسات التجريبية والمزيد من الوعي بنظريات علم النفس التطوري بين الناس من كل المستويات العلمية.

أخيرا، أرجو أن يأتي اليوم الذي يفهم فيه الناس أسباب سعادتهم وشقائهم وينسبونها إلى مصدرها الطبيعي بدل أن يتخبطوا في الأوهام والخرافات التي تزيدهم شقاء. في هذا اليوم ستشرق شمس جديدة على البشرية، شمس دافئة تملأ النفوس بالحياة الواقعية والرضى بالإمكانات الطبيعية.

المصدر:

Giosan, Cezar, Vlad Muresan, and Ramona Moldovan. “Cognitive evolutionary therapy for depression: a case study.Clinical case reports 2.5 (2014): 228-236.