خالد بنشانع[1]*

في السابع من ديسمبر عام 1900 أعلن ماكس بلانك Max Planck (1858 – 1947) خلال جلسة الجمعية الفيزيائية التابعة لأكاديمية برلين عن فرضية الكم، التي أدت لظهور بوادر فيزياء جديدة مختلفة عن فيزياء نيوتن الكلاسيكية. فبعدما ساد اعتقاد يقول بأن الضوء من طبيعته الاتصال، أثبت بلانك أن الطاقة مثلها مثل المادة والكهرباء تظهر بصورة منفصلة ومتقطعة، أي على شكل حبات ووحدات تسمى في الاصطلاح العلمي بـ “الكوانتم” أو “الكم”. وهذه الدراسة هي قراءة في كتاب الفيزياء والفلسفة لفيرنر هايزنبرغ Werner Heisenberg (1901 – 1976) – الذي يعد من بين العلماء الذين ساهموا في تقديم الصياغة الأولى لهذه النظرية- وتحديدا لإشكال إبستمولوجي يخص بنية المادة في فيزياء الكم (La physique quantique) التي يصعب وصفها اعتمادا على اللغة العادية. مما سيفرض اعتماد صياغة رياضية تقوم على بنى رياضية مجردة تتجاوز المفاهيم الهندسية التي اعتمدها آينشتاين.

وسينتج عن هذا الوضع الجديد للعلم تحولات معرفية؛ تمثلت في إقرار هايزنبرغ لـ “مبدأ اللاحتمية” أو ما يعرف بـ “مبدأ عدم التحديد” مما سيؤدي إلى انهيار مبدأين أساسيين قامت عليهما الفيزياء الكلاسيكية: الموضوعية والحتمية. بتعبير آخر سيتم تجاوز التصور الكلاسيكي للعلم الذي اعتقد في أن قواعد العلم ثابتة وراسخة ومفاهيمه واضحة يقينية لكونها صادرة عن حدس مباشر، إلى تصور يقوم على عدم الثبات والتعدد والكثرة والتعقيد والاختلاف. مع الانفتاح على بعض إشكالات تخص طبيعة الممارسة العلمية على مستوى طبيعة العلاقة القائمة بين اللغة العلمية والوقائع الطبيعية.

الكلمات المفتاحية: فيزياء الكوانتا، الكم، المادة، القوة، اللاحتمية، الواقع، اللغة.

تقديم

أسهمت الثورات العلمية في تطور الفهم البشري للطبيعة وفي تغير «المفاهيم التي عليها يبنى الموضوع»[1]. إذ عرفت الفيزياء المعاصرة تطورا هائلا بفعل نظريتين أساسيتين: الأولى نظرية النسبية بخصوص تصورها حول المكان والزمان والحركة. أما الثانية فهي نظرية ميكانيكا الكم التي اهتمت بالبحث في طبيعة المادة وطبيعة القوى المشكلة لها. بحيث أدت كل من النظرية النسبية ونظرية الكم إلى احتدام الجدل بفعل التحولات التي طالت أسس الفيزياء الحديثة، مما أدى إلى شعور أن أسس العلم ستنهار. ويعد فيرنر هايزنبرغ[2] من العلماء الذين أسهموا في تقديم الصياغة الأولى  لميكانيكا الكم (1925)، التي كان لها أثار فلسفية جذرية، تتمثل في كشفه عن أحد المبادئ المشكلة للعالم الطبيعي، وهو مبدأ “عدم اليقين” أو مبدأ “اللاحتمية ” (1927). حيث أقر أن تعيين الجسيمات المشكلة للمادة الذرية لا تخضع لقوانين الفيزياء الكلاسيكية، أي أن المقادير الفيزيائية الخاضعة للملاحظة تعرف تحولات لا يمكن التنبؤ بها، لتصير قيمها غير محددة تماما. بالتالي صار العلم مع ميكانيكا الكم بمثابة “برنامج رياضي إحصائي”. لذلك تتمثل أهمية تصوره في معرفته الدقيقة لفيزياء الكم وكذلك قدرته على استجلاء مضامينها الفلسفية الهائلة. وسنحاول من خلال هذا المقال أن نسلط الضوء على مفهوم المادة من خلال فيزياء الكم، وكذلك بعض نتائجها الفلسفية.

مفهوم المادة من التصور الفلسفي إلى التصور العلمي

اتخذ مفهوم المادة معاني متعددة في تاريخ الفكر الإنساني بفعل اختلاف المذاهب الفلسفية.  غير أن اللافت للنظر، حسب هايزنبرغ، أن لهذه المعاني حضور بمعنى ما في العلم المعاصر. مثال ذلك، أن نظرية النسبية تتصور «أن يكون الكون قد نشأ في لحظة محددة في الماضي، عندما بزغت المادة والطاقة فجأة في الوجود ومعهما الفضاء والزمن»[3]. هذا التصور، كما بين هايزنبرغ، سبق للقديس أوغسطين أن أشار إليه في القرن الخامس ميلادي، «فكرة أن الزمن لا يمتد إلى الوراء حتى الأبد، وإنما هو قد خلق مع الكون، هناك إذن نظير علمي لتعاليم المسيحية عن الخلق من العدم»[4].

وقد بدأ الاهتمام فلسفياً بمفهوم المادة مع الفلسفة اليونانية، منذ طاليس إلى عهد الذريين،  ومدار بحثهم ودراساتهم هو العثور على المبدأ الموحد للتغير اللامتناهي للأشياء. إذ اعتقدوا في إمكان وجود مفهوم كوني للمادة انطلاقا من المكونات الأربعة (الماء، الهواء، التراب، النار). في حين منح أرسطو معنى جديد لمفهوم المادة من خلال مقابلته مع مفهوم الصورة. فما نراه حسبه في عالم الظواهر ما هو إلا مادة مشكلة لا تمثل الواقع، بل هي مجرد إمكانية موجودة بالصورة والشكل، بمعنى أن الحادثة الطبيعية تنتقل من الإمكان عبر الصورة إلى ما هو واقعي وحقيقي. لذلك لم يحدد المادة من خلال المكونات الأربعة كما هو شأن الذريين، بل إنها تشمل كل ما له إمكانية للانتقال من الصورة والشكل إلى ما هو واقعي وحقيقي، وبين هايزنبرغ ذلك من خلال مثالين – معتبرا أن التصور الأرسطي له امتداد بمعنى من المعاني في الفيزياء المعاصرة – يوضحان هذا الانتقال؛ ففي العملية البيولوجية تتحول المادة إلى كيان حي وكذلك في مثال تكوين وتشكيل الأعمال الفنية، فالتمثال كان إمكانية قبل أن ينحته النحات. بينما استبدلت الفلسفة الديكارتية الثنائية الأرسطية بثنائية المادة والروح لتجعل الوجود محددا بمظهرين: الشيء الممتد والشيء المفكر. فالمادة المشكلة يمكن تفسير عملية تشكلها بواسطة سلسلة سببية لأفعال متبادلة ميكانيكيا. هكذا صار التصور الديكارتي للمادة حسب  هايزنبرغ أكثر ملائمة للعلم الحديث. إلا أن التحول الجذري للتصور العلمي سيحصل في القرن التاسع عشر، إذ صار ينظر للمادة من خلال مفهوم القوة، أي أن للقوى تأثير على المادة وبإمكانها أن تحدث قوى، مثلا تولد المادة قوة الجاذبية التي بدورها تؤثر في المادة:

ومع توالي الأبحاث العلمية سينعدم التمييز الحاصل بين المادة والقوة، لأن مجال القوة يحتوي على طاقة ويشكل كذلك جزءً من المادة. هكذا ارتكزت الدراسات العلمية المعاصرة في مجال الفيزياء على تحليل بنية المادة والقوى المسؤولة عنها، بعدما قطع العلم مع التصورات اللاهوتية والمفاهيم الميتافيزيقية كمفهوم الجوهر واستبداله بمفهوم العنصر، خاصة في مجال الكيمياء، اعتماداً على التجريب العلمي. لتشكل هذه الخطوة، حسب هايزنبرغ، الأساس لفهم بنية المادة، من خلال رد التنوع الهائل للمواد المشكلة للطبيعة إلى أقل عدد، مما نشأ عن ذلك بناء نظام محدد وسط مختلف ظواهر الكيمياء. فتم اعتماد مفهوم الذرة كتعبير عن أصغر وحدات المادة، مثلا ذرة الأوكسجين وذرتي الهيدروجين أصغر أجزاء مشكلة لعنصر الماء (H2O). كما كشفت الأبحاث العلمية المعاصرة عن إحدى خصائص المادة والمتمثلة في “حفظ الكتلة في تفاعلات كيميائية”، ومثال ذلك، أن احتراق عنصر الفحم ينتج عنه ثاني أوكسيد الكربون، فتساوي كتلة (CO2)  حاصل كتلتي الكربون والأوكسجين قبل بداية الاحتراق. بالتالي نخلص مع هايزنبرغ، أن العلم المعاصر أضفى على مفهوم المادة معنى كمياً. إضافة إلى ذلك، تم اكتشاف أعداد كبيرة من العناصر الكيميائية – على الأقل عشر عناصر – مكنت من تحديد العلاقة بينهما. فأصبح ينظر إلى الأوزان الذرية لعناصر كثيرة بأنها مضاعفات صحيحة لأصغر وحدة تتطابق تقريبا مع الوزن الذري للهيدروجين. وبهذا تم إيجاد علاقة بين مختلف العناصر التي تمكن من فهم وحدة المادة.

وفي سنة 1896 تنبه الفيزيائيون إلى مثل هذه القوى نتيجة اكتشاف التفتت الإشعاعي، كما أسهمت أبحاث كل من “كوري” و”رذفورد” فيما يخص التحول الذي يطال العناصر في العملية ذات النشاط الإشعاعي، فأصبح بالإمكان استخدام هذه الجسيمات كأدوات جديدة لدراسة البنية الداخلية للذرة. بحيث أسهمت التجارب التي قدمها “رذفورد” Ernest Rutherford 1911 الخاصة بانتشار أشعة ألفا في المادة من تحديد السمات الخاصة بالذرة: نواة الذرة والطبقات الإلكترونية المحيطة بالنواة. فعد هايزنبرغ هذا التفسير مناسبا للتأكيد على أن حقيقة العناصر الكيميائية بالذات هي آخر وحدات المادة بالنسبة للكيمياء، ولكي تتحول العناصر فيما بينها يجب حصول على أكبر قوى[5]. كما تم تحديد الترابط الكيميائي بين ذرات متجاورة يحدثه فعل متبادل بين الطبقات الإلكترونية لفهم بنية المادة. علاوة على ذلك، تم رصد السلوك الكيميائي للذرة بواسطة شحنة النواة الكهربائية مع أنه يقوم على سلوك طبقات الإلكترونات. وبين هايزنبرغ أن النموذج النووي للذرة كنظام لا يمكن أن تُفسر قوانينه من خلال ميكانيكا نيوتن خاصة مسألة استقرار الذرة، بل يمكن تفسيرها بواسطة نظرية الكم التي يستحيل معها وصف الذرة موضوعياً. وبهذا قدمت أولى الأسس لفهم المادة، حيث اقترح هايزنبرغ تطبيق المخطط الرياضي لنظرية الكم على طبقات الإلكترونات لتفسير خواص الذرة الكيميائية. فبأي معنى يتم اعتماد الرياضيات لتفسير بنية الذرة؟

تتميز الصياغة الرياضية لميكانيكا الكم عن باقي الصياغات الرياضية السابقة في اعتمادها على بنى رياضية مجردة، مثل فضاءات هيلبرت. ومازال التكميم القانوني كصياغة لميكانيكا الكم معتمدا حتى أيامنا الحالية، ومازال يشكل أساس الحسابات في الفيزياء الذرية والجينية وفيزياء الحالة الصلبة. وبين هايزنبرغ حدود ما يمكن للملاحظ أن يقيسه أو يرصده تجريبيا وهذه الحدود متضمنة داخل نظرية الكم، فأقام حدودا للاعتقاد في قدرة الرياضيات على الوصف الكامل وقيامها بحسابات كافية للكميات التي يمكن قياسها تجريبيا. كما تم تجاوز المفاهيم الهندسية (الهندسة التفاضلية، والمعادلات التفاضلية) خاصة مع نسبية آينشتاين.

وقد مكنت ميكانيكا الكم، حسب هايزنبرغ، من دراسة خصائص الذرة باعتماد مسارين مختلفين في الدراسة:

  • دراسة الفعل المتبادل للذرات وعلاقتها بوحدات أكبر كالجزيئات والبلورات.
  • محاولة التعمق لدراسة النواة وأجزائها إلى المكان الذي تصبح فيه وحدة المادة مفهومة.

ويتمثل دور نظرية الكم في كلا المسارين من خلال مبدأ أساسي، وهو اعتبار أن القوى الحاصلة بين الذرات المجاورة هي بصورة أولية قوى كهربائية، وهذه المسألة عبارة عن تجاذب شحنات متعاكسة ومسألة تنافر شحنات متوافقة تتطابق في الاسم. ومن ثم، فالإلكترونات تجذبها نواة الذرة وتبعدها إلكترونات أخرى. فالأساس الإبستمولوجي لهذا التصور يتمثل في أن قوانين المجال الذري لا تخضع لميكانيكا نيوتن، بل لقوانين الكم. كما ميز هايزنبرغ في معرض تقديمه الإبستمولوجي والعلمي للكم بين نوعين من الترابطات الحاصلة بين الذرات:

الترابط القطبي: ينتقل بموجبه الإلكترون من ذرة إلى ذرة لكي يملأ أو يشغل طبقة إلكترون معزولة. فينتج عن ذلك شحن للإلكترونين.

الترابط التكافؤي: يتبع الإلكترون مسار كلتا الذرتين بطريقة معينة لا تكون ممكنة إلا في نظرية الكم، فمن خلال صورة مدار الإلكترون يتبين أنه يدور حول كلتا الذرتين ويمضي لحظة زمنية مهمة سواء في إحدى الذرتين أو في الأخرى.

يتحدد من خلال هذين النموذجين من الترابط كل التحولات الممكنة، كما ينتج من خلالهما كل أنواع الترتيبات في المجموعة الذرية. إضافة إلى أنهما يكونان مسؤولين عن كل بنى المادة المعقدة التي يتم دراستها في الفيزياء والكيمياء. ويحافظان على ثنائية المادة والطاقة ، «ذلك لأنه يمكن اعتبار النوى والإلكترون عناصر للمادة التي تتماسك عن طريق قوى كهرومغناطيسية»[6]. يفضي هذا الاعتبار إلى اندماج بين الفيزياء والكيمياء في علم موحد انطلاقا من تشابههما في بنية المادة خلاف بنية المادة في البيولوجيا فهي جد معقدة ومتمايزة عن هذين المجالين. ولنظرية الكم دور مهم في التفاعلات الكيميائية، فمثلا القوى النوعية لنظرية الكم لا يمكن وصفها إلا اعتمادا على مفهوم التكافؤ الكيميائي، بحيث أن لها دور مهم لفهم الجزيئات العضوية الكبيرة وشتى أنواع ترتيباتها الهندسية، فمثلاً قد تبين قوانين نظرية الكم يوماً ما الطابع الاحصائي للطفرات الوراثية أو أي عملية بيولوجية اخرى.

ويتأسس بحث هايزنبرغ على افتراضين داخلي وخارجي، الأول يبتدئ «من فيزياء الذرة إلى فيزياء الأجسام الصلبة إلى الكيمياء وأخيراً إلى البيولوجيا». والاتجاه الثاني هو معاكس للأول، إذ يبتدأ بالبحث في الأجزاء الخارجية للذرة لينتهي إلى تحديد أجزائها الداخلية. وقد قاده هذا المنحى في البحث من دراسة النواة إلى تحديد عناصرها الدقيقة. غير أنه رجح الاتجاه الثاني (الخارجي) لحصول فهم دقيق لوحدة المادة. كما حدد المراحل التي تم قطعها في التحليل التجريبي للنواة:

المرحلة الأولى: حصلت في العقود الأولى من القرن العشرين، فاعتمدت أدوات لإجراء تجارب على النواة منها “دقائق ألفا” التي تتبعها أجسام إشعاعية، من بينها نموذج رذفورد 1919، حيث إستطاع من خلاله أن يقيم تحويل نوى عناصر خفيفة، مثال ذلك أنه استطاع أن يحول نواة نتروجين إلى نواة أوكسجين بإلصاق “دقيقة ألفا” بنواة النتروجين وأطلق منها في الآن ذاته بروتوناً.

المرحلة الثانية: تعد حاسمة على مستوى إحداثها لتسريع إصطناعي للبرتون بواسطة “آلات توتر عال” لحد طاقات تكون كافة لتحويل النواة، من نماذج هذا العمل نموذج “كوك كروفت” و”إرنست والتون” اللذان استطاعا تحويل نوى عنصر الليثيوم إلى عنصر الهيليوم.

لقد مكن هذا العمل من تحديد كيفي لبنية النواة، في غاية البساطة، تتألف من نوعين مختلفين من الجسيمات: البرتون والنيتروجين. وتتألف نواة الذرة من عدد من البروتونات والنيتروجينات، مثلاً يتألف الفحم من ستة بروتونات وستة نيتروجينات. وبالتالي صار من الممكن وصف المادة من خلال تحديد عناصرها الكيميائية إلى ثلاثة عناصر أساسية: البرتون والنيتروجين والإلكترون.

مبدأ اللاحتمية ومآلاته المعرفية

خلص هايزنبرغ من خلال ميكانيكا الكم إلى عدة تحولات جذرية مست أسس العلم الطبيعي والفكر الإنساني، بمعنى أن نتائج الفيزياء المعاصرة طالت معرفتنا بالمادة وأعادت النظر في “المسلمات”، مما نتج عنه «مراجعة أساسية للمفاهيم المتداولة، كمفهوم المادة والجسم والموقع والنقطة المادية»[7]، من ذلك أن ميكانيكا الكم فندت مسلمة اتصال المادة التي قامت عليها الفيزياء الكلاسيكية. عندما أثبت العالم الألماني ماكس بلانك سنة 1900 أن الطاقة مثلها مثل المادة والكهرباء تظهر بصورة منفصلة ومتقطعة، أي على شكل حبات ووحدات تسمى في الاصطلاح العلمي بـ “الكوانتم” أو الكم. كما تمت مراجعة مبدأين أساسيين قامت عليهما الفيزياء الكلاسيكية: الموضوعية والحتمية للاعتقاد بأن «للأجسام خواصا ضمنية حقيقية، ذات وجود واقعي موضوعي»[8]، أي أن الظواهر «توجد باستقلال عن العالم المجرب وعن منهجه وأدواته»[9]. وكذلك للاعتقاد «أن ثمة اتساق بين نظام الأشياء، وأن جميع الظواهر تخضع لقوانين، وتتقيد بشروط معينة»[10]. في حين أن الطبيعة، من وجهة نظر هايزنبرغ، ليست في مجملها حاصل منطق سببي، بل إن جزء مهم منها محكوم بـ “مبدأ عدم اليقين” أو “اللاحتمية” التي «تكمن في صلب الطبيعة، وأنها ليست مجرد نتيجة لقصور في تكنولوجيا القياس»[11]. فلم تعد لقوانين الفيزياء الكلاسيكية صلاحية مطلقة، مفهوم السببية، إذ يستحيل التنبؤ بمسار الكوانتم، «عدم إمكانية التنبؤ في النظم الكمية لا يعني الفوضى. فمازالت ميكانيكا الكم تمكننا من أن نحدد بدقة “الاحتمالات” النسبية للبدائل»[12].

رغم الرفض الذي واجهته هذه الفكرة من قبل الأوساط العلمية، خاصة من قبل آينشتاين حين أعلن قولته الشهيرة (إن الإله لا يلعب النرد) مع اعتقاده في إمكانية صحة نظرية الكم.  فإن هايزنبرغ أعلن تشبثه بتصوره واعتبر المواقف الرافضة لمبدأ “عدم اليقين” ناتجة عن التشبث بمبادئ النظرية الكلاسيكية للعالم، أي الاعتقاد في تناغمه وانتظامه. بالتالي فقد مفهوم الواقع بوصفه أحد أسس الفيزياء الكلاسيكية أهميته مع نظرية الكم، أي لا وجود للواقع الموضوعي في عالم الكم. ومثال ذلك، أن الإلكترون ليس شيئاً مادياً بقدر ما أنه ترميز تجريدي لمجموعة من الإمكانات أو النتائج المحتملة للقياسات، أي ليس للإلكترون موقع محدد تماما وكمية حركة محددة تماما في غياب ملاحظة فعلية لموقعه أو لحركته.

وأثار هايزنبرغ في تأملاته الإبستمولوجية إشكالات ترتبط بالعلاقة القائمة بين اللغة والواقع، لغاية تبيان أن الواقع العلمي لا علاقة له بالمفاهيم والعبارات المعتمدة عند الجماعة العلمية. بحيث وضح أن من مشاكل اللغة بشكل عام تكمن في استخدام مفاهيم تخص وقائع الحياة اليومية في مجال مختلف يتعلق بالظواهر الطبيعية، أي أن الحقائق التي نبني عليها عالم الخبرة تشير إلى أشياء عينية، في حين أن عالم الذرات أو الجسيمات ليس واقعيا، «إنها تشكل عالما من الإمكانات أو الاحتمالات لا عالما من الأشياء والحقائق»[13]. ومثال ذلك، أن ميكانيكا الكم تستخدم كلمات متداولة (الموجة أو الجسيم أو الموقع)، مع أن معانيها في غاية التعقيد، فقد «ورثت الميكانيكا الكمية عن الفيزياء الكلاسيكية جميع المفاهيم التي استخدمتها هذه الأخيرة في تفسيرها لظواهر عالمنا الواقعي الاعتيادي، ثم نقلت هذه المفاهيم إلى عالم الميكروفيزياء» [14].  لذلك نبه هايزنبرغ أنه في حال ما قادنا الاستعمال الغامض غير المنهجي للغة إلى مشاكل، فعلى الفيزيائي أن يتحول إلى البرنامج الرياضي وعلاقاته الواضحة مع الوقائع التجريبية. فصار العلم مع ميكانيكا الكم عبارة عن «برنامج رياضي يربط نتائج الملاحظات بطريقة إحصائية»[15].

لقد اعتمد العلماء في الفيزياء النظرية رموزا رياضية لفهم الظواهر من خلال ربطها بالوقائع، أي بنتائج القياس، «وبهذه الطريقة تكون الرموز إذاً مرتبطة باللغة العادية، ومن ثم ترتبط الرموز ببعضها بعضا بواسطة نظام صارم من التعريفات والبديهيات»[16]. فلا يمكن وصف الممارسة العلمية إلا اعتمادا على اللغة المعتمدة في الحياة اليومية، يعني أن قوانين العلم تستند على مفاهيم اللغة العادية. وما يتنج عن اتساع المعارف العلمية هو اتساع دائرة المفاهيم العلمية من خلال إدراج مفاهيم جديدة «على هذا النحو نطور لغة علمية يمكننا أن نعدها توسعا طبيعيا للغة العادية، إنه توسع لا يتعارض مع المجالات العلمية التي تم التوصل إليها»[17]. مثلا المفاهيم المستحدثة في مجال الفيزياء كمفهوم المجال الكهرومغناطيسي ارتبط بالتحول الذي طال التصورات العلمية.

خاتمة: هكذا، نتج عن التصور الكمي تحولات معرفية همت بالأساس مراجعة أساسية للمفاهيم المتداولة، من ذلك مفهومي المادة والواقع. إذ تم تجاوز التصور الإبستمولوجي الديكارتي المؤسس للعلم الحديث والقائم على مسلمات منها: الاعتقاد في إمكانية تحديد المادة بالشكل والحركة، أي إمكانية وصف حركة الأجسام داخل الامتداد المكاني، لكون الظواهر الميكرفيزيائية يصعب وصفها بناء على معرفة الشكل. بالتالي صرنا أمام إبستمولوجيا لاديكارتية تتجاوز فكرة وجود حدس أولي ناتج عن معرفة مباشرة للأشياء لتوفرها على طبائع بسيطة مطلقة، بل صار  الحدس الأولي مسبوقا بـ “دراسة استدلالية”. فلا وجود في العلم المعاصر لظواهر وأحداث بسيطة وبديهية لأن كل ظاهرة هي نسيج علاقات. بالتالي نزع الصيغة المادية الجوهرية عن الكون الفيزيائي، بالانتقال من الواقعية المادية إلى الواقعية الرياضية. علاوة على ذلك، إعادة مساءلة مجموعة من الإشكالات التي تمتد إلى كيفية تفكير الإنسان بغية التخلي عن الصورة الوثوقية للفكر الخاضعة لمسلمات ناتجة عن هيمنة النموذج الارشادي للموضوعية.

المراجع

  • هايزنبرغ فرينر، الفيزياء والفلسفة، ترجمة صلاح حاتم، دار للحوار والنشر، 2011.
  • هايزنبرغ فرينر، الفيزياء والفلسفة، ترجمة أحمد مستجير ، المكتبة الأكاديمية، 2011. (مقدمة بول دافيس 1989)
  • عبد السلام بن عبد العالي وسالم يافوت، درس الإبستمولوجيا، دار توبقال للنشر، الطبعة الثالثة، 2001.

 

[1]  بول دافيس، تقديم لكتاب الفيزياء والفلسفة لفيرنر هايزنبرغ، 1989، ترجمة أحمد مستجير، المكتبة الأكاديمية،  ص. 9 . [بول تشارلز وليام دافيس:  ( Paul Charles William Davies)‏ (1946) عالم فيزياء بريطاني، مجال اهتماماته البحثية هو الفيزياء الكونية والنظرية الكمومية وعلم الفلك البيولوجي. ]

[2]  فيرنر هايزنبرغ: Werner Heisenberg (1901 – 1976) فيزيائي ألماني يعد أحد مؤسسي ميكانيكا الكم. حاز على جائزة نوبل للفيزياء سنة 1932. وأسهمت دراساته وأبحاثه في مجال ميكانيكا الكم من تطوير مجموعة من التقنيات الحديثة المعتمدة في مجال البحث العلمي (الميكروسكوب الإلكتروني وأشعة الليزر والترانزستور) كما كان لها وقع على الفيزياء النووية والطاقة النووية.

[3]  نفس المرجع، ص. 10

[4]  نفس المرجع، ص. 10

[5]  فيرنر هايزنبرغ، الفيزياء والفلسفة، ترجمة صلاح حاتم، دار الحوار للنشر والتوزيع، 2011، صص. 167- 168.

[6]  نفس المرجع، ص. 174.

[7]   عبد السلام بنعبد العالي وسالم يفوت، درس الإبستمولوجيا، دار توبقال للنشر، الطبعة الثالثة، 2001، ص. 147.

[8]  نفس المرجع، ص. 111

[9]  عبد السلام بنعبد العالي وسالم يفوت، درس الإبستمولوجيا، ص. 111

[10]  نفس المرجع، ص. 109.

[11]  نفس المرجع، ص. 11.

[12]  نفس المرجع، ص. 12.

[13]  نفس المرجع، ص. 14.

[14]  نفس المرجع، ص. 146.

[15]  بول دافيس، تقديم لكتاب الفيزياء والفلسفة، لفيرنر هايزنبرغ، ص. 15.

[16]  فيرنر هيزنبرغ، الفيزياء والفلسفة، ص. 199.

[17]  نفس المرجع، ص. 200.

[1]*  باحث من المغرب.

نشر هذا المقال في العدد 58 من مجلة العلوم الحقيقية وراجعته لغويا ريام عيسى فيما راجعه علميا عمر المريواني باستشارة مختص في الفيزياء النظرية