هل لك أن تتخيل أن زواج الأقارب قد يؤدي إلى نتيجة غير متوقعة ولا مُحببة كالإصابة بصعوبة النطق أو انعدامه؟ هذا ما حدث مع ابنة أحد الزملاء، حيث لاحظ الأب أن ابنته تجاوزت الـ ربيع الثالث ولم تنطق بكلمة، مع أنها كانت تُتأتأ في أيامها الأولى، ثم ذهب زميلي إلى أحد الأطباء المختصين بمعالجة مرض التوحد، ليأتيه الجواب بعد الفحص والتشخيص أن الطفلة لا تُعاني من التوحد أو طيف التوحد، ثم توجه إلى طبيب تلو الآخر حتى طلب منه أحدهم  إجراء فحص غربلة لحديثي الولادة (Newborn Screening) ليتم إكتشاف اصابة الطفلة بمرض وراثي ايضي نادر وهو بيلة الفينيل كيتون (PKU)
ثم سألت زميلي هل الطفلة ابنة زواج أقارب فأجابني بـ نعم.

فما هو هذا المرض، وما هي أسبابه وكيفية علاجه؟

لكي نجيب على الاسئلة أعلاه علينا أن نعرف كيف يعالج الجسم البروتينات؟

البروتينات مركبات معقدة تتكون من وحدات أصغر تُدعى “الأحماض الأمينية” وهي حوالي 20 نوعاً (ومن بينها حمض أميني يدعى الفينيل ألانين) لا يستطيع جسم الإنسان تخليق معظمها لبناء البروتينات، بل يستمدها من الغذاء.

يبدأ هضم البروتينات في المعدة، حيث ترحب المعدة بالغذاء الغني بالبروتين بأنزيم الببسين وبحامض الهيدروكلوريك بتركيز (0.05) الذي يوفر بيئة حامضية تتراوح بين pH=1.5-3.5  وتشوه هذه البيئة البروتين، بينما يقوم الببسين بقطع الأواصر في البروتين مكوناً سلاسل الببتيد المتعددة والتي تحتوي على مكوناتها من الأحماض الأمينية، وعند دخول خليط الطعام المهضوم (الكيموس) إلى الأمعاء الدقيقة يُطلق البنكرياس الصودا الكاوية، لمعادلة تأثير الهيدروكلوريك، بينما تُطلق الأمعاء الدقيقة هرمونات هاضمة كالسيكرتين (secretin)، والذي يساعد في تحطيم البروتينات إلى اجزاء اصغر ليسهل امتصاصها في الأمعاء، كما يقوم البنكرياس بإطلاق الإنزيمات الهاضمة للبروتين وهي: الايلاستين (elastase)، البروتييس تريبسين (proteases trypsin) والكايموتربسين (chymotrypsin) يفكك مجموع هذه الإنزيمات البروتينات إلى وحدات أصغر حيث يشبه عملها عمل المعاول التي تهدم الجدار لتفككه إلى مكوناته الأساسية وهي الأحماض الأمينية في حالة البروتينات، عندها سوف تمر هذه الأحماض الأمينية من خلال جدران الأمعاء الدقيقة المخاطية لتدخل الدورة الدموية وتذهب إلى أماكن في الجسم لتبني بروتينات جديدة أو تتحول إلى دهون أو تدخل في دورة كريبس وتتحول إلى طاقة.

دورة اليوريا في جسم الانسان

تحدث دورة اليوريا في الكبد، حيث تنتج سلسلة تفاعلات بايو-كيميائية، اليوريا من الامونيا(أحد مكونات الحمض الأميني) لمنع صعود مستوى الأمونيا إلى المستوى السام في الجسم [أشبه بنظام التصريف] حيث تنتج المجموعات الامينية عن تكسر الروابط بين الأحماض الأمينية نتيجة لـفعل الإنزيمات والهرمونات سالفة الذكر[1].

كيف تحدث بيلة الفينيل كيتون؟

هذا المرض يصيب 1 من كل 15 ألف في الولايات المتحدة، تحدث هذه الحالة عند غياب الإنزيم الهاضم للفينيل ألانين وهذا الإنزيم يسمى بـ فينيل ألانين هيدروكسيليز (PhenylAlanine Hydroxylase) ويحدث هذا الخلل بسبب تغيّر في الجين المكون لهذا الأنزيم، فعندما يأكل الأشخاص المصابين بهذا المرض طعاماً يحتوي على البروتين فهم يواجهون خطر ارتفاع نسبة الفينيل ألانين بالدم حيث أن القيمة الطبيعية من الحمض الأميني هي  2 mg/dl فإذا زادت القيمة عن  4 mg/dl فهذا يعني أن الطفل مصاب بالمرض[2] ، لذلك يجب على المصابين الحرص الشديد على تناول غذاء يحتوي على نسبة قليلة من الفينيل ألانين[3].

العارض الوراثي:

لنعرّف الجينات اولاً ودورها في جسم الإنسان، فهي الشفرات الوراثية التي نتلقاها من أبوينا وتكون موجودة في جميع خلايا الجسم وهي التي تشكل وتوجه وظائف الاعضاء والانسجة، فمثلاً هي التي تحدد كيفية النمو وتطور العضو من شكل إلى آخر، فمثلاً تكون مسؤولة عن نمو التفاحة ونضجها من الزهرة حتى تصبح ثمرة يانعة، فهي ببساطة تكون كالرسائل الموجهة للخلايا تخبرها عن طبيعة عملها، في الحالة الطبيعية  يخبر الجين المسؤول عن الـ PKU خلايا معينة أن تقوم بإفراز الانزيم الهاضم للفينيل ألانين(PAH)، ولكن عند حدوث الطفرة أو التشوه الوراثي هنا ستحدث المشاكل التي تؤدي إلى أمراض في جسم الإنسان لأن الرسالة الصحيحة التي يبعثها الجين الصحيح لا تصل في حالة حدوث خلل في هذا الجين، فيحدث الاضطراب الوراثي عندما يتلقى الطفل نسختين معتلتين من المادة الوراثية (الجين) المسؤولة عن تكوين الانزيم الهاضم (PAH)؛ أي أن يكون كِلا الأبوين حاملين للجين المعتل أو المشوه، حيث يتلقى كل الإنسان جيناته لكل خلية في جسمه من الأبوين، حيث يتكون الجين من نسختين الاولى يتلقاها من أمه، والثانية من أباه، فإذا كانت إحدى النسختين مُعتلة والأخرى صحيحة يكون الانسان خالياً من المرض، لكنه يكون حاملاً للجين المُعتل وسيورثه لذريته، في حال كان الأبوان حاملين للجين المعتل فإن احتمالية إصابة الطفل نتيجة كل حمل ستكون كالتالي:

  • يكون الطفل مصاباً بنسبة 25%
  • يكون الطفل حاملاً للجين المعتل بنسبة 50%.
  • لا يكون الطفل حاملاً للجين المعتل بنسبة 25%[4].

أعراض الإصابة

لا تظهر على حديثي الولادة أي أعراض لكنهم يطورون اعراضاً خلال الأشهر الأولى بعد الولادة والتي تتراوح بين الشديدة والمتوسطة:

  • رائحة عفنة بالفم والجلد والإدرار (تشبه رائحة اللفت المسلوق)بسبب ارتفاع نسبة الفينيل ألانين بالجسم.
  • مشاكل في الجهاز العصبي، حدوث نوبات الصرع مثلاً.
  • طفح جلدي- الاكزيما.
  • يكون لون الجلد والشعر والعيون أخف من بقية أفراد العائلة لأن الفينيل ألانين يتحول إلى ميلاتونين وهي الصبغة المسؤولة عن لون الجلد والشعر.
  • حجم الرأس يكون صغيراً.
  • فرط الحركة.
  • الإعاقة الذهنية: الشلل الدماغي، فقدان النطق، فقدان السمع، ازدواج الرؤية، شلل الحبل الشوكي.
  • تأخر في النمو.
  • مشاكل سلوكية واجتماعية وعاطفية.
  • اضطرابات الصحة النفسية.

حدة المرض

هناك نوعين من بيلة الفينيل كيتون:

الكلاسيكي (الشديد): هنا يكون الانزيم ضئيلاً أو مفقود كلياً، مما يؤدي إلى ارتفاع نسبة الفينيل ألانين مسبباً ضرراً أكبر بالدماغ.

المعتدل: هنا يكون الإنزيم موجوداً لكن يؤدي وظيفته بصورة أقل فعالية مما ينتج نسبة أقل من الفينيل ألانين، مسبباً ضرراً أقل للدماغ[5].

كيفية معالجة بيلة الفينيل كيتون PKU؟

تعالج بيلة الفينيل كيتون بتناول المصاب غذاء خالي من البروتين لذلك يتوجب تجنب الأغذية التالية:

  • اللحوم والأسماك.
  • البيض والجبنة.
  • المكسرات والبذور.
  • المعجنات: كالخبز والباستا والكيك والبسكويت.
  • الأغذية التي تحتوي على الصويا.

مع التأكيد على أخذ المرضى لمكملات الاحماض الامينية لضمان حصولهم على الغذاء الكافي لحدوث النمو السليم والصحة الجيدة. كما أن هناك منتجات غذائية واطئة البروتين مصممة خصيصاً للمصابين بهذا المرض كالباستا والطحين والرز.

في حالة تأكد اصابة الطفل بالمرض يجب أن يخضع فوراً لحمية واطئة البروتين وتناول مكملات الأحماض الأمينية، مع استمرار مراقبة مستوى الفينيل ألانين بالجسم عن طريق اجراء تحاليل مختبرية حيث يجب إجراء الفحص المختبري للطفل دون عمر السنة الواحدة مرة كل أسبوع، أما الأطفال بين عمر السنتين إلى 12 سنة فيتم اجراء الفحص لهم كل أسبوعين أما ممن تجاوزوا عمر الـ 12 عام فيتم اجراء الفحص لهم مرة كل شهر. كما يجب أن يقوم طبيب متخصص بالأغذية بتصميم حمية خاصة للطفل وتعديل تلك الحمية حسب متطلبات النمو ، وهذه الحمية يجب أن تستمر طيلة فترة حياة المصاب بهذا المرض، عند إبقاء مستوى الفينيل ألانين ضمن المدى الطبيعي ستبقى صحة الطفل على ما يرام دون المساس بوظائف الدماغ. [6]

عند اكتشاف المرض خلال الأيام الأولى بعد الولادة وتفعيل الحمية الشديدة سوف تقلل من ظهور الأعراض، أما عند البدء بالحمية في سن 2-3 سنة فإنها تمنع تدهور الحالة لتصبح شديدة والتي تتمثل بظهور أعراض كالصرع وفرط الحركة، ورفع معدل ذكاء الطفل (IQ)، لكنها لا تعكس الاعاقة الذهنية، الحمية يجب أن تستمر على مدى الحياة، وبعكسه؛ سيؤدي إلى انخفاض في معدل الذكاء، ومشاكل عصبية وعقلية. أما الأطفال المولودين لأم تتحكم بمستوى الفينيل كيتون بشكل ضعيف، فإن ارتفاع مستوى الحمض الأميني للأم أثناء الحمل فإنهم على احتمال كبير أن يصابون بحالة الصَعل (صغر حجم الرأس   (Microcephaly  وهذه الحالة تسمى بيلة الفينيل كيتون الامومية[7].

دواء بيلة الفينيل كيتون PKU

السابروبتيرن علاج يُعطى للمرضى ذوو الغذاء واطئ البروتين، لعلاج الحالة المعتدلة من المرض، ولكن يعطى في الحالات الآتية:-

  • أن يكون عمر المريض دون الـ 22 سنة.
  • أن تكون المريضة حامل.
  • أن يكون المريض بالغ ويستجيب للعلاج (يجب إجراء فحص جيني لمعرفة ذلك).

تتلخص فعالية هذا العلاج بـ

  • خفض مستوى الفينيل ألانين.
  • يُحسن أعراض المرض ويساعد في وقاية الدماغ.
  • يسمح بتناول القليل من الغذاء المُعالج (الخالي من البروتين).
  • يسيطر على ارتفاع مستويات الفينيل ألانين أكثر من الغذاء المعالج لوحده.

خطورة منتجات الاسبرتام على المصابين ببيلة الفنيلي كيتون

الاسبرتام هو المنتج المحلي الصناعي الذي يستخدم لتحلية الشاي والقهوة للمصابين بداء السكري أو أولئك الذين يرومون تقليل أوزانهم، يجب تجنب جميع الأغذية التي تحتوي على الاسبرتام كالعلكة، ومحليات الشاي، وكذلك بعض الادوية المحتوية على الاسبرتام والتي تستخدم لعلاج البرد عند الأطفال، لأن الاسبرتام يتحول إلى فينيل إلينين بعد هضمه.

[1] Protein Metabolism, Module 8: Metabolism and Nutrition, courses.lumenlearning.com

[2]Phenylketonuria (PKU), University of Rochester.

[3] Mayoclinic, PKY

[4] Phenylketonuria (PKU), better health

[5] PKU, Mayoclinic

[6] المصدر السابق من مايو كلينيك

[7] Matt Demczko, Phenylketonuria (PKU), Reviewed/Revised Dec 202

تم نشر هذا المقال في مجلة العلوم الحقيقية العدد 56 وراجعته لغويا ريام عيسى