بصفتي مشكك ومصاب بالسكري من النوع الأول فإن الكثير من الأخبار ذات الصلة تأتيني من الأصدقاء فوراً. في العادة تكون الأخبار مكررة حول إيجاد علاج للسكري دون الأخذ بنظر الاعتبار حتى أن هناك نوعان من السكري يختلفان الى حد كبير. لكن هذه المرة كان الخبر حول أحد حلفاء مرضى السكري من الأغذية وهي المحليات الصناعية، والخبر كان ذو وقع كبير على الناس لأنه من منظمة الصحة العالمية. وكالات الانباء مثل سبوتنك، الجزيرة، سكاي نيوز تذكر أن منظمة الصحة العالمية “تحذر” من المحليات الصناعية، أنها قد تتسبب باصابتك بالسكري، فيها أضرار كثيرة، تزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب. وهكذا تمضي الصفحة الأولى من بحث أخبار جوجل حين بحثت عن “منظمة الصحة العالمية المحليات الصناعية” دون توقف عن طرح عناوين كهذه وليست نصوص الأخبار أفضل حالاً. أما البحث باللغة الإنجليزية فلا تقل الاخبار فيه رعباً عن العربية: لا منافع في فقدان الوزن، منظمة الصحة العالمية تحذر، وغير ذلك، لكن هناك على الأقل بعض المقالات الموضوعية في صفحة البحث الأولى.

بتقصي الخبر نجد مقالاً منشوراً في موقع منظمة الصحة العالمية يحمل عنوان “منظمة الصحة العالمية تنصح بعدم استخدام المحليات غير السكرية للسيطرة على الوزن في تعليمات جديدة”. ينص المقال على أن مراجعة منهجية أجرتها منظمة الصحة العالمية تصل الى “عدم وجود فائدة طويلة الأمد بتقليل الدهون في الجسم لدى البالغين أو الأطفال”، وتضيف: “قد تكون هناك بعض التأثيرات غير المرغوب بها المحتملة من استخدام المحليات الصناعية على الأمد البعيد، مثل ارتفاع نسبة الإصابة بالسكري من النوع الثاني، الأمراض القلبية، أو نسبة الوفاة لدى البالغين”. لم تكذب المواقع إذن في نقل واقع التحذير. فيبقى السؤال، هل يؤخذ بما ذكرته منظمة الصحة العالمية هنا؟

بالطبع يجدر القول أن “التحذير” الوارد هنا – والذي قد يفسره البعض بأنه ضوء أخضر لتناول السكريات – يتضمن أيضاً الدعوة للطعام غير المحلى أو الى تناول السكريات الطبيعية مثلما هو الحال مع الفاكهة. فلا يجب تفسير التحذير – بغض النظر عن صحته – على أنه دعوة لتناول السكريات.

قبل أن نبدأ بمناقشة المراجعة المنهجية التي نشرتها منظمة الصحة العالمية، ينبغي القول أن التصريحات التحذيرية الحادة والدقيقة من الصعب أن تصدر عادة بناءاً على مراجعات منهجية وخصوصاً في قضية كهذه.

الأمر الثاني الذي تجدر الإشارة إليه هو أن منظمة الصحة العالمية ووفقاً لنص الخبر المنشور على الأقل تناقض مراجعة منهجية أخرى صدرت في العام 2021 وغطت 263 دراسة حيث أبلغت تلك المراجعة عن انخفاض في نسب الدهون، وانخفاض ووزن الجسم ومؤشر كتلة الجسم في الدراسات التي كانت تجارب معماة محكمة، أما في دراسات الحالات فقد وجدت الدراسة نتائج سلبية في ذات الأرقام وأرقام أخرى.

السبب في تباين الأرقام التي تصدر من المراجعات المنهجية، هو أن المراجعات المنهجية رغم أنها أحدى أقوى الأدلة العلمية، لكنها يمكن أن تكون بوابة للانحياز. ندعو لقراءة المقال حول إساءة استخدام التحليلات البعدية والذي يتضمن شرحاً عن المراجعات المنهجية أيضاً، لكن لنلخص الأمر، لكي تقوم بمراجعة منهجية فعليك أن تختار عدداً من الدراسات، وأن تجمع نتائجها وتصدر بناءاً على ذلك رقماً جامعاً لنتائج عدد كبير من الدراسات. لكن ما مدى صحة الدراسات التي تشكل المراجعة؟ وما الغرض الأساسي من البحث لكل منها؟ وكيف تم اختيارها وشمولها؟ هل درست فئة عمرية معينة مثلاً؟ هل درست تأثير ذات المادة (المحليات الصناعية في هذه الحالة) على احتمالية حدوث السرطان؟ يجب إذن اختيار معايير مشابهة للأرقام التي تقدمها الدراسات فمثلاً في حالة المراجعة المنهجية للمحليات الصناعية اختار الباحثون الفئة العمرية بالغين أو أطفال، واختاروا النساء الحوامل. يضاف الى ذلك الى ان نتائج الدراسات الأصلية قد تكون فيها إشكاليات، لكن المراجعة المنهجية لن تناقش ذلك وستجمع جميع الأرقام.

الأمر الثاني عن المراجعة المنهجية هو أنها في النهاية تقدم دليلاً احصائياً لا غير. وهنا علينا تذكر أن الترابط في الإحصاء لا يعني السببية. والترابط الاحصائي هو في أغلب الأحيان افضل ما يمكن للمراجعة أن تقدمه.

ننتقل الآن الى المراجعة التي صدرت حديثاً من منظمة الصحة العالمية. نجد في بدايتها ما يتعارض بشدة مع اقتراح أي “أضرار” من المحليات الصناعية، حيث يصرح بيان الارشادات أن المصابين بالسكر مستثنون من الارشادات هذه. وتعزز الارشادات القول بسلامة المحليات الصناعية بالقول أن هذه الارشادات تصدر وفقاً للأساس بأن المحليات الصناعية آمنة، وهي لا تقترح تغيير جرعتها القصوى أو تغيير التصريحات حول سلامتها. لكن الفرق في المراجعة الجديدة هو أنها تضيف الدراسات المعماة المحكمة طويلة الأمد بالإضافة الى قصيرة الأمد لدرء التعارض مع ما معروف في الدراسات بأن المحليات الصناعية تتزامن مع خفض الوزن ومؤشر كتلة الجسد، فتقول المراجعة الجديدة بأن ذات النتائج لا يمكن الحصول عليها على الأمد البعيد. (لكن مرة أخرى، فحتى في الدراسات التي تجرى على الأمد البعيد كما تقول المراجعة تصرح بأن مقارنة المحليات الصناعية بالسكر تقترن مع وزن أقل ومؤشر كتلة جسد أقل).

تضيف المراجعة ان الاستخدام طويل الأمد اقترن مع خطر السكري من النوع الثاني والأمراض القلبية. ولم تجد المراجعة الجديدة الكثير من الدراسات طويلة الأمد على النساء الحوامل أو الأطفال، لكن بالدراسة التي وجدتها عن الأطفال وجدت ان استخدام المحليات الصناعية اقترن بخفض الدهون في الجسم حين قورن استخدام المشروبات المحلاة بالسكر أو بالمحليات الصناعية. يعود كتاب المراجعة ليؤكدوا أيضاً عدم وجود ترابط ملحوظ بين المحليات الصناعية ومؤشر بدانة الجسم من ناحية الأسباب. وجد الباحثون أيضاً ترابطاً احصائياً آخر وجدوه بين صحة الأسنان لدى الأطفال وبين استخدام المحليات الصناعية. وذكرت بعض الترابطات الأخرى في المراجعة، منها ما هو سلبي ومنها ما هو إيجابي. منها الولادة المبكرة إيجابي، انخفاض وزن الجنين سلبي، وزن الطفل لاحقاً فيما لو استخدمت أمه المحليات الصناعية: سلبي، زيادة احتمالية الإصابة بالربو: إيجابي.

أول رد على هذه النتائج باختصار شديد هو أن الترابط الاحصائي لا يعني السببية. والمراجعة تؤكد ذلك بشكل مباشر وغير مباشر للكثير منما ورد. لا يمكن لأي جهة طبية أن تزعم وفقاً لدليل كهذا أن المحليات الصناعية تتسبب بالسكري من النوع الثاني أو الأمراض القلبية. كل الدليل العلمي الذي يمكن الاتيان به حول المحليات الصناعية يجب أن يأتي من صنف آخر من الدراسات التي تدرس تأثير هذه المواد على الجسم، وليس من دراسة تجمع الدراسات التي تحاول الحصول على ترابط احصائي. ما يمكن التعبير عنه فقط من نتائج الدراسة هو القول الآتي:

إن استخدام المحليات الصناعية لوحده ليس شرطاً في الحصول على وقاية من السكري من النوع الثاني أو الأمراض القلبية.

غير أن افتراض وجود علاقة سببية بين الاثنين هو جريمة إحصائية وعلمية اقترفت على مستويات متعددة من كتاب المراجعة ومن كاتب المقال في منظمة الصحة العالمية ومن نقلوا عنه من مواقع مختلفة.

يمكن التفكير لاحتمالات عديدة لوجود الاقتران الاحصائي بين السكري 2 أو الامراض القلبية مع استخدام المحليات الصناعية. احدها مثلاً هو أن يكون الأشخاص الذين يستخدمون المحليات الصناعية يعانون من الأساس من البدانة لذا فقد لجأوا للمحليات الصناعية كحل وهو بطبيعة الحال ليس حلاً كافياً ولا احد يزعم أنه كذلك وبطبيعة الحال فستظهر نتائج هؤلاء ضمن الدراسة حيث أن كونهم من فئة تعاني من زيادة الوزن قد يعني زيادة نسبة اصابتهم بالسكري من النوع الثاني، تذكر المراجعة طبعاً أن المحليات الصناعية لم تسعف البدانة على المدى الطويل أيضاً وهذا بديهي أيضاً. هذا افتراض واحد فقط لشرح تلك النتيجة.

وحين النظر الى طبيعة تأكيد الدليل المقدم والذي يقترح ذلك الترابط بين السكري من النوع الثاني مع استخدام المحليات الصناعية نجد معدي الدراسة يذكرون بأنه دليل ضعيف التأكيد. فضلاً عن ذلك تؤكد المراجعة عن عدم العثور في الدراسات على ما يقترن بالاصابة بالسكري من النوع الثاني مثل مقاومة الانسولين او ارتفاع جلوكوز الدم حين الاستيقاظ أو مؤشر السكر التراكمي HbA1C، فهل يجوز أن نقترح علاقة سببية بين السكري من النوع الثاني مع استخدام المحليات الصناعية؟

ما تم قياسه حول السكري من النوع الثاني ينطبق على الأمراض القلبية في المراجعة، حيث لم تجد المراجعة اقتراناً مع المؤشرات الحيوية للأمراض القلبية مثل ضغط الدم أو الكولسترول.

في النهاية، يجب أن نأخذ الدليل بجدية أكبر حين يطرح الدليل تفاعلاً كيميائياً معيناً أو تغييراً على عملية بيولوجية يؤدي الى شيء مثل زيادة مقاومة الانسولين وبشكل مباشر من تأثير المحليات الصناعية. ولا توجد حتى الآن أدلة من هذا النوع سواء على السكري من النوع الثاني أو زيادة الوزن أو الأمراض القلبية أو معدل الوفيات. لكن الدليل المتهافت الذي يقترح علاقة سببية من مراجعة منهجية تقدم دليلاً ضعيف التأكيد لترابط احصائي فإن ذلك يقترح العديد من التفسيرات وكان يجدر بمنظمة الصحة العالمية الحذر من التأويلات الأكثر خطورة لتصريح ضعيف كهذا.

رابط المراجعة:

Use of non-sugar sweeteners, WHO guide, ISBN 978-92-4-007361-6

رابط الخبر:

WHO advises not to use non-sugar sweeteners for weight control in newly released guideline, Departmental news, WHO, 15 May 2023

للإطلاع على مقالات سابقة حول المحليات الصناعية:

حقيقة السكرين

حقيقة اسيسلفام كي

حقيقة الاسبارتام

حقيقة السكرلوز

تم نشر هذا المقال ضمن العدد 55 من مجلة العلوم الحقيقية وراجعته لغوياً ريام عيسى