ترجمة: المجتبى الوائلي. الكتاب منشور في دار نابو، بغداد

عام 1859، بعد إرسال داروين نسخة من كتابه أصل الأنواع إلى شقيقه إيرازموس، ردّ عليه الأخير برسالة مديح. إذ كانت نظرية الانتقاء الطبيعي مقنعة منطقيًا لدرجة: أنَّ فشل السجل الأحفوري في توثيق التغيّر التطوري التدريجي لم يزعجه، كما قال: “في الحقيقة، إن المنطق المسبق مرضي تمامًا لي لدرجة أنه لو لم يتناسب مع الحقائق، فإنّي سأُشفق على الحقائق”.

يتشارك التطوريون هذا الشعور على نطاق واسع أكثر مما قد يعترف به بعضهم. إن نظرية الانتقاء الطبيعي في غاية الأناقة والقوّة بحيث تلهم نوعًا من الإيمان بها – ليس إيمانًا أعمى بحق؛ لأنه إيمان يستند إلى قدرة النظرية البيّنة على شرح كثير من ظواهر الحياة. لكنه مع ذلك إيمان؛ حيث هناك نقطة لا يعود بعدها المرء يفكر في إمكانية مواجهة بعض الحقائق التي من شأنها تعريض النظرية برمّتها للتشكيك.

وعليّ الاعتراف طالما بلغتُ هذه النقطة. لقد ثبت الآن أن الانتقاء الطبيعي يُفسر كثيرًا عن الحياة عمومًا وعن العقل البشري خصوصًا لدرجة امتلاكي قليلًا من الشك عن إمكانية تفسيره للباقي. ومع ذلك، فإن “الباقي” ليس تضريسًا تافهًا. فهناك كثير بشأن الأفكار والمشاعر والسلوكيات الإنسانية مما لا يزال يحيّر ويتحدّى أي دارويني – وأخرى كثيرة قد لا تحيّر داروينيًا متيقّنًا، ولكن شخصًا اعتياديًا. سيكون من غير الدارويني لي عدم ذكر بعض الأمثلة البارزة. لقد كان داروين منشغلًا إلى حد ما بأوجه القصور الحقيقية والواضحة في نظريته، وإصراره على مواجهتها جعل أصل الأنواع مقنعًا للغاية. وجاء العيب الذي ألمح إليه إيرازموس من فصل دعاه داروين “مصاعب تحيط بالنظرية”، في الإصدارات اللاحقة، أضاف داروين فصلًا آخر عنونه بـ”اعتراضات متنوعة على نظرية الانتقاء الطبيعي”.

واللاحق بالكاد يُمثّل قائمة شاملة للألغاز الحقيقية والمفترضة التي تحيط بالأنموذج الدارويني الجديد كما ينطبق على العقل الإنساني. لكنه يبيّن طبيعتها ويقترح بعض الآفاق لحلّها. كما يعالج بعض الأسئلة الأكثر شيوعًا عن علم النفس التطوّري، مع أملي في أن يساعد على تبديد بعض المفاهيم الخاطئة الشائعة.

1- ماذا بشأن المثليين؟

قد لا يتوقّع المرء أن يخلق الانتقاء الطبيعي أناسًا غير راغبين في القيام بما يساعدهم على نقل جيناتهم إلى الجيل اللاحق (الجماع بين الجنسين مثلًا). في فجر السوسيوبيولوجيا، اعتقد بعض التطوّريين أن نظرية انتقاء الأقارب ربما تفسّر هذه المفارقة. ربما كان المثليّون أشبه بالنمل العقيم: إذ بدلًا من بذلهم طاقتهم في محاولة إيصال جيناتهم مباشرة إلى الجيل اللاحق، يستخدمون مسارات أخرى ملتوية؛ فبدل الاستثمار في أطفالهم، يستثمرون في أشقّائهم وأبناء أشقّائهم.

يُمكن لهذا التفسير النجاح من حيث المبدأ، لكن لا يبدو أن الواقع يؤيده. فقبل كل شيء، كم عدد المثليين الذين يقضون جُلَّ وقتهم في مساعدة أشقّائهم وأبناء أشقّائهم؟ وثانيًا، انظرْ إلى ما يفعله أكثرهم لقضاء وقته: السعي وراء الاقتران بمثليّ بذات الحماس الذي يسعى فيه المغايرون للاقتران بالمغايرين. أين المنطق التطوّري في ذلك؟ إذ لا يقضي النمل العقيم كثيرًا من وقته في مداعبة غيره من النمل العقيم، ولو فعل ذلك سيُشكّل الأمر لغزًا لنا.

من الجدير بالملاحظة أن البونوبو، أقرب أقربائنا، يظهر ازدواجيّة في توجهه الجنسي (على الرغم من أنها ليست مثلية حصرية على ما يبدو). إذ ينخرطون في ممارسة فرك الأعضاء التناسلية على سبيل المثال كإحدى علامات الصداقة، وطريقة لنزع فتيل التوتّرات. يُشير هذا إلى مبدأ عام: بمُجرّد أن أوجد الانتقاء الطبيعي شكلًا من أشكال الإشباع الجنسي – في هذا السياق، تحفيز الأعضاء التناسلية – صارت تلك الأشكال في خدمة وظائف أخرى؛ حيث يُمكنها إمّا التكيف مع هذه الوظائف الأخرى عبر التطور الجيني أو المجيء لخدمتها عن طريق التغيير الثقافي المحض. وهكذا طوّرت اليونان القديمة تقليدًا ثقافيًا حيث يُرضي الصبية الرجال في بعض الأحيان بالتحفيز الجنسي. (وبالمصطلحات الداروينية المحضة، ليس واضحًا من كان يستغل من؛ فالصبية الذين استخدموا هذه التقنية لإرضاء معلّميهم كانوا يستفيدون عبرها من رفع مكانتهم؛ أمّا الرجال – بالاصطلاحات الداروينية مجددًا – فقد كانوا يضيعون وقتهم فقط).

من وجهة النظر هذه، فإن حقيقة تحوّل الحوافز الجنسية لبعض الأشخاص من قنواتها الأنموذجية هو إجلال آخر فحسب لمدى مرونة العقل البشري. إذ يُمكن لحلول حزمة معيّنة من التأثيرات البيئية أن تصنع أيّ قدر من التغييرات. (والسجن هو مثال متطرّف لمثل هذه التأثيرات البيئية؛ فحينما يكون الإشباع الجنسي بين المغايرين مستحيلًا، قد تبحث الرغبة الجنسية – ولا سيما الذكورية القوية والعشوائية نسبيًا – عن البديل الأقرب لها).

هل هناك جينٌ للمثلية الجنسية؟ هناك أدلة تقترح وجود بعض الجينات التي يرجح أن تؤدي إلى المثلية الجنسية أكثر من غيرها. لكن ذلك لا يعني أن هناك “جينًا مثليًا” – جينٌ يدفع المرء حتمًا كي يصبح مثليًا، بغض النظر عن البيئة؛ وهو لا يعني بالتأكيد أن هذه الجينات المعنية قد اُختيرت عبر الانتقاء الطبيعي نتيجة إسهامها في المثليّة الجنسية. (لا شك أن بعض الجينات تجعل المرء أكثر ميلًا للانخراط مثلًا في مجال المصارف أو كرة القدم الاحترافية، مقارنة بجينات أخرى؛ لكن لا وجود لشيء مثل “جين مصرفي” أو “جين لاعب كرة احترافي” – لا وجود لجين اُختير نتيجة مساهمته في الأعمال المصرفية أو لعب كرة القدم. مُجرّد جينات تؤدّي، إن صحّ القول، إلى مواهب في التعامل مع الأرقام أو إلى امتلاك قوّة بدنية)، في الواقع، بمجرد استبعاد نظرية انتقاء الأقارب للميول المثلية، سيكون من الصعب للغاية تخيّل جين يتم اختياره نتيجة تأديته إلى المثليّة الكليّة. لو كان هناك “جينًا مثليًا” انتشر وسط جزء كبير من السكان، فمن المحتمل أن يكون له بعض التأثيرات بخلاف الميل المثلي وسط البيئة التي انتشر فيها.

أحد الأسباب التي تجعل بعضهم قلقًا للغاية بشأن سؤال “الجين المثلي” هو أنهم يريدون معرفة ما إذا كانت المثلية “طبيعية”، وهو سؤال يبدو – بالنسبة إليهم على الأقل – أن له عواقب أخلاقية. هم يعتقدون أن من المهم للغاية أ) وجود جين (أو تشكيلة من الجينات) مسؤولة عن المثلية انتُقيت حتمًا نتيجة تأثيرها هذا؛ أو ب) هناك جين (أو تشكيلة من الجينات) مسؤولة عن المثلية انتقيت لسبب آخر ولكن، في بعض البيئات، لها تأثير في التشجيع على المثلية؛ أو ج) هناك جين (أو تشكيلة من الجينات) مسؤول عن المثلية وقد وصل حديثًا إلى المشهد البشري إلى حد ما ولا يزال لم ينل بعد تأييدًا قويًا من الانتقاء الطبيعي لأي غرض معين؛ أو د) ليس هناك “جين مثلي”.

لكن من يهتم؟ لماذا على “طبيعانيّة” المثلية التأثير بأي شكل في حكمنا الأخلاقي عليها؟ فهي “طبيعية” بمعنى “مقبوليتها” لدى الانتقاء الطبيعي، كمقبولية رجل يقتل آخر وجده نائمًا مع زوجته. وقد يكون الاغتصاب، وفق السياق نفسه، “طبيعيًا”، والاهتمام بإطعام أطفالك وإكسائهم “طبيعي” بالطبع. لكن معظم الناس يحكمون على هذه الأشياء بعد النظر لعواقبها، لا أصولها. والصحيح بوضوح حول المثليّة هو الآتي: 1) بعض الناس ولدوا بتشكيلة من الجينات وضمن ظرف بيئي حفّزهم بقوة تجاه اتخاذ حياة مثليّة؛ 2) لا وجود لتناقض متأصل بين شيوع المثلية وسط البالغين ورفاهية الآخرين. ولأسباب أخلاقية (كما أعتقد) أرى وجوب أن تكون هذه النقطة نهاية النقاش.

2- لماذا يختلف الأشقاء عن بعضهم بعضًا؟

لو كانت الجينات غاية في الأهمية، فلماذا يتباين من لديهم كثير من الجينات المشتركة بعضهم مع بعض؟ بمعنى ما، ليس في هذا السؤال منطق بحيث يطرح على عالم نفس تطوري. فبعد كل شيء، لا يدرس علم النفس التطوري السائد كيف تؤدي الجينات المختلفة إلى سلوكيات مختلفة، بل كيف يمكن أن تؤدي الجينات المشتركة بين البشر إلى سلوكيات شتى – في بعض الأحيان مختلفة، وفي أخرى متشابهة. بعبارة أخرى، يُحلّل علماء النفس التطوريّون عادة السلوك بغض النظر عن التكوين الجيني الفريد للشخص. ومع ذلك فالإجابة على هذا السؤال بشأن الأشقاء تلقي بكثير من الضوء على لغز أساس في علم النفس التطوري: إذا كانت التأثيرات الجينية الرئيسة على السلوك البشري آتية من الجينات التي يتشاركها كافّة الناس، فلم يتصرّفون عمومًا بشكل مختلف عن بعضهم الآخر؟ لقد تناولنا هذا السؤال من جوانب عدّة في الكتاب الذي بين يديك، لكن موضوع الأشقّاء يلقي بنوع جديد من الضوء عليه.

تأمل داروين. كان ثاني أصغر ستة أبناء. وبذلك فهو متوافق مع نمط لافت للنظر لم يظهر سوى مؤخرًا: إنّ من يبدأون أو يدعمون الثورات العلمية من غير المرجّح أن يكونوا أبناءً بكرًا. وجد فرانك سولوي (راجع سولوي [في الصحافة])، الذي وثّق هذا النمط ببيانات ضخمة، أيضًا أن الأشخاص الذين يقودون أو يدعمون الثورات السياسية من غير المرجّح أن يكونوا أبناءً بكرًا.

ما تفسير هذا النمط؟ من المفترض، كما يلحظ سولون، أن للأمر علاقة بحقيقة إيجاد الأطفال الصغار أنفسهم داخل منافسة مع أشقائهم الكبار – شخصيات سلطوية – على الموارد. وفي الواقع، قد يجدون أنفسهم في صراع ليس فقط مع هذه السلطات بعينها، ولكن ضد مؤسسة بأكملها. فللأبناء البكر، بعد كل شيء، قيمة إنجابية أعلى من أشقائهم الأصغر (راجع الفصل السابع)، ولا بدّ أن يكونوا من الناحية النظرية مفضّلين لدى الوالدين عند تساوي الأشياء الأخرى. وبذلك غالبًا ما تكون هناك قواسم مشتركة طبيعية في المصالح، تحالف بين الآباء والأشقاء الأكبر يجد فيه الأبناء الأصغر أنفسهم في صراع. إذ تضع المؤسسة القانون، فيتحدّاه الابن الأصغر. يُمكن أن يكون تكيّفًا للأبناء الذين يجدون أنفسهم في وضع يؤهلهم كي يصبحوا جيّدي التشكيك بالقواعد المتّبعة. أي بمعنى: برنامج تنموي أنموذجي للأنواع قد يميل إلى توجيه الأبناء ممن لديهم أشقاء كبار نحو الفكر الراديكالي.

النقطة المحورية هنا تتعلّق بـ”البيئة غير المشتركة”، التي لم يُدرك علماء الوراثة أهميتها إلّا في العقد الماضي (راجع بلومين ودانيالز [1987]). يحب من يشككون بالحتمية البيئية الإشارة إلى شقيقين ترعرعا جنبًا إلى جنب والسؤال عن سبب تحوّل أحدهما مثلًا لمجرم بينما شبّ الآخر وكيل نيابة. لو كانت البيئة شديدة الأهمية، كما يسألون، فلِمَ تفرّقت مسارات حياة هؤلاء؟ مثل هذه الأسئلة تسيء فهم “البيئة”، فعلى الرغم من اشتراك الشقيقين ببعض جوانب البيئة (الوالدين نفسهما والمدرسة نفسها) فإن جزءًا كبيرًا من بيئتهما “غير مشتركة” (من كان معلمهما في الصف الأول، ومَن أصدقائهما، وغيرها).

من المفارقات، كما يشير سولوي (راجع سولوي)، أن للأشقاء، بحكم كونهم أشقاء، ربما بيئات “غير مشتركة” معيّنة تتفاوت جذريًا. على سبيل المثال، فبينما تتشارك أنت وجارك صفة الابن البكر – وبذلك “تتشاركان” هذا التأثير البيئي – فمن غير الممكن لك مشاركة ذات الصفة مع أي من أشقائك. الأكثر من ذلك: يؤمن سولوي أن أحد الأشقاء، بحكم احتلاله “مكانة” استراتيجية معينة داخل البيئة الأسرية، فقد يدفع الأشقاء الآخرين نحو مكانات أخرى في أثناء كفاحهم على الموارد. وبذلك فقد يجد الشقيق الأصغر أن شقيقًا آخر فاز بحظوة كبيرة عبر التضحية الدؤوبة لأجل الوالدين مثلًا؛ وكردّ، قد يسعى الآخر تجاه “مكانة” أخرى – الامتياز في المدرسة مثلًا – بدلًا من محاولة التنافس في سوق بُذِل فيه بالفعل كثير من التضحيات.

3- لماذا يختار الناس إنجاب قليل من الأطفال أو عدم الإنجاب حتى؟

يُشار لهذا أحيانًا بأنه “لغز” تطوري عظيم. لقد احتار الأكاديميون بمسألة “التحول الديمغرافي” الذي خفض معدلات المواليد في المجتمعات الصناعية المتقدمة، محاولين تفسيرها داروينيًا. يُنَظِّرُ بعضهم مثلًا أن في البيئات الحديثة، يُمكن لامتلاك ما كان يُعدّ يومًا عائلة متوسطة الحجم أن يضرّ بإرثك الوراثي. فربما سينتهي بك الأمر مع مزيد من الأحفاد لو كان لديك طفلان يُمكنك أن تتحمّل تكاليف تعليمهما في مدارس خاصة باهظة الثمن مما لو امتلكت خمسة أطفال تلقوا تعليمهم في مدارس أرخص؛ فوجدوا أنفسهم غير قادرين على إعالة أطفالهم بأنفسهم. وبذلك فمع إنجاب عدد أقل من الأطفال، يتصرّف الناس تكيّفيًا.

وهناك حل أسهل: لم تكن الغاية الأساسية للانتقاء الطبيعي في حملنا على التكاثر غرس رغبة عارمة وواعية فينا لإنجاب الأطفال. فقد صُمِّمنا لمحبّة الجنس، وبذلك محبّة العواقب المتحققة بعد تسعة أشهر منه، لا الانخراط في الجنس محبّة في حصد العواقب. (لاحِظْ سكان جزيرة تروبرياند، الذين لم يدركوا، وفقًا لمالينوفسكي، العلاقة بين الجنس والإنجاب، ولكن مع ذلك، ظلّ الرجل المُسنّ على رغبته نفسها في مواصلة التكاثر)، ولم يعرقل هذا التصميم سوى ظهور تقنيات منع الحمل.

يُعدّ اختيار حجم الأسرة إحدى القضايا العديدة التي تفوقنا فيها على الانتقاء الطبيعي؛ فعبر التفكير الواعي – النظر مثلًا إلى مدى إزعاج الأطفال عند بلوغهم المراهقة – يُمكننا اختيار اختصار الأهداف النهائية التي “أراد” لنا الانتقاء الطبيعي السعي وراءها.

4- لماذا ينتحر الناس؟

مرة أخرى، يمكن للمرء أن يحاول بناء سيناريوهات يكون فيها هذا النوع من السلوك قابلًا للتكيف. ربما كان اختيار الشخص الذي مثّل في بيئة الأسلاف عبئًا كبيرًا على عائلته إخراج نفسه نهائيًا من المشهد مُعزِّزًا لّلياقة الشاملة. فربما يكون الطعام مثلًا شحيحًا لدرجة أن استمراره في تناول الطعام قد يحرم أقرباءه الأكثر قيمة إنجابية من العناصر الغذائية لحد تعريض حياتهم إلى الخطر.

هذا التفسير غير مستبعد تمامًا، لكن فيه بعض الإشكالات. إحداها أن في البيئة الحديثة على الأقل، نادرًا ما ينتمي المنتحرون إلى عائلات تواجه المجاعة.

وبالفعل، فإن الاقتراب من الجوع ما هو إلا ظرف وحيد لا يمكن أن يكون الانتحار معه منطقيًا داروينيًا. ونظرًا لوفرة الغذاء المتاح إلى حد ما، فالجميع تقريبًا – باستثناء المعاقين وكبار السن والعجزة – يمكنهم البقاء أحياء والمساهمة بشكل كبير في أقاربهم القَيّمين تكاثريًا: جمع التوت، تعليم الأطفال ورعايتهم، إلخ. (وعلى كل حال، حتى لو أصبحت عبئًا غير مُبرّر بالنسبة إلى عائلتك، فهل سيكون الانتحار الكليّ المسار الأمثل وراثيًا؟ ألن يكون من الأفضل مثلًا لجينات الرجل المكتئب أن ترتحل بعيدًا عن القرية، على أمل إيجاد مكان آخر أفضل لو أسعفه الحظ – على أمل مواجهة امرأة غريبة يُمكنه إغواءها، هذا إن لم يكن اغتصابها ربما؟)

يكمن أحد الحلول المحتملة لمفارقة الانتحار في تذكر أن “التكيّفات” السلوكية التي صممها الانتقاء الطبيعي هي ليست السلوكيات بحد ذاتها، لكنها الأعضاء العقلية الضمنية. والأعضاء العقلية التي تكيّفت بما يكفي في بيئة ما كي تصبح جزءًا من الطبيعة البشرية قد تؤدي في بيئة أخرى إلى سلوكيات عصيّة على التكيّف. وسبق أن رأينا على سبيل المثال لماذا قد يكون الشعور بالسوء تجاه النفس قابلًا للتكيّف أحيانًا (الفصل الثالث عشر). ولكن للأسف يمكن للعضو العقلي المصمم لجعلك تشعر بالسوء تجاه نفسك أن يخطئ؛ فالشعور بالسوء تجاه نفسك لمدة طويلة، من دون ما يُريح، قد يؤدي إلى الانتحار.

يبدو أن البيئات الحديثة أكثر احتمالًا كي تؤدي إلى هذا الخلل من بعض البيئات القديمة؛ فهي تسمح مثلًا بدرجة من العزلة الاجتماعية لم تكن معروفة بالنسبة إلى أسلافنا.

5- لماذا يعمدُ الناس لقتل أطفالهم؟

ليس قتل الرضّع مجرّد نتاج من نتاجات البيئة الحديثة. إذ كثيرًا ما حدث في ثقافات الصيد وجمع الثمار والثقافات الزراعية. هل هو إذن نتيجة للتكيف – عضو عقلي يحسب ضمنيًا متى سيُعظّم قتل رضيع اللياقة الجينية؟ ذلك محتمل جدًا. إذ ليس الأطفال المعتلون والمعاقون أكثر عرضة للقتل فقط؛ بل وأيضًا المواليد المولودون في ظل أنواع أخرى من الظروف سيئة الحظ – كأن يكون للأم أطفال صغار والأب غائب مثلًا.

في البيئة الحديثة يصعب بالطبع تفسير قتل الرضّع بأنه خدعة وراثية منطقية. ولكن كما سبق أن رأينا (في الفصل الرابع)، فإن كثيرًا من حالات القتل المفترضة للذرية هي في الواقع قتل لأبناء الأزواج. وأظنّ أن كثيرًا من بقيتها يرتكبها أزواج قد يكونون آباءً طبيعيين واقعًا لكنهم بدأوا يشكّون في أبوّتهم – بوعي أو من دونه. وفي الحالات القليلة نسبيًا التي تقتل فيها الأم طفلها حديث الولادة، غالبًا ما يكون ذلك وسط نوع من الإشارات البيئية التي ربما كانت تعني، في بيئة الأجداد، أن وأد الأطفال سيكون مربحًا وراثيًا: الفقر النسبي، والافتقار لمصدر موثوق للاستثمار الأبوي، إلخ.

6- لماذا يضحي الجند لأجل أوطانهم؟

القفز فوق قنبلة يدوية – أو، في بيئة الأجداد، قيادة دفاع انتحاري ضد غزاة يحملون الهراوات – قد يحمل معنى داروينيًا لو كنت في حضرة أقربائك المقرّبين. لكن لماذا التضحية بالنفس لأجل زمرة من الناس ليسوا سوى أصدقاء؟ فذلك فضل لم تتمتّع برفاهية رؤيتهم يسدّدونه لك.

أولًا، يجدر تذكر أن في بيئة الأجداد، في قرية صغيرة يسكنها الصيّادون جامعو الثمار، لم يكن متوسّط القرابة مع رفيق السلاح منخفضًا للغاية – وقد يكون في الواقع، استنادًا لأنماط الزواج هناك، مرتفعًا إلى حد ما (راجع تشاغنون [1988]). عند مناقشة نظرية انتقاء الأقارب في الفصل السابع، ركزنا على الأعضاء العقلية التي تحدد الأقارب ومن ثمّ تعاملهم بكرم مخصوص؛ كما واقترحنا أن الجينات المؤدية لمثل هذا التمييز ستميل إلى الازدهار على حساب الجينات المانحة للإيثار بشكل أوسع من دون تمييز. لكن قد تكون هناك بعض الظروف التي لا تسمح بهذا التمييز الدقيق، وأحدها التهديد الجماعي. فلو تعرضت مثلًا مجموعة كاملة من الصيادين جامعي الثمار، بمن فيهم عائلتك الأقربون وكثير من الأقارب الآخرين لهجوم رهيب، فقد يكون للشجاعة المفرطة معنى وراثي مباشر بفضل انتقاء الأقارب. إذ ربما يتصرّف الرجال في حروب اليوم تحت تأثير الميل لمنح مثل هذا الإيثار العشوائي في المواقف الشبيهة بالحرب.

فارق آخر بين الحرب الحديثة وحرب الأسلاف أن المكافأة الجينية للنصر صارت أقلّ اليوم. من المعقول الشكّ – استنادًا إلى ملاحظة المجتمعات البدائية – في أن الاغتصاب أو اختطاف النساء كان ذات يوم سمة مشتركة من سمات الحرب. وبذلك فقد كانت المكافآت كبيرة بما يكفي، وفق المنطق الدارويني، كي تُسوغ المخاطرة بالنفس (وإن لم يكن باتخاذ سلوك انتحاري واضح). ومن المرجح أن الرجال الذين أظهروا أعلى قدر من الشجاعة في أثناء الحرب كوفئوا بأفضل ما يكون.

باختصار، إن أفضل التخمينات للشجاعة إبّان الحرب هي أنها نتاج أعضاء عقلية خدمت ذات يوم لتعظيم اللياقة الشاملة إلى حدودها القصوى وربما لم تعد تفعل الشيء نفسه اليوم. لكن هذه الأعضاء لا تزال قائمة وجاهزة للاستغلال، مثلها مثل أعضاء أخرى، من قبل السياسيين المستفيدين من الحرب (راجع جونسون [1987]).

يطرح السلوك البشري كثيرًا من الألغاز الداروينية الأخرى. ما هي وظائف الفكاهة والضحك؟ لماذا يعترف الناس على فراش الموت؟ لماذا يتّخذ بعضهم نذورًا للزهد والتبتّل – بل والالتزام بها حتى في بعض الأحيان؟ ما هي وظيفة الحداد بالضبط؟ (من المؤكد أنها تشير، كما افترضنا في الفصل السابع، إلى درجة الاستثمار العاطفي في المتوفى، ومن المؤكد أن الاستثمار العاطفي نفسه كان له معنى وراثي حينما كان المتوفى حيًّا. ولكن الآن بعد رحيل المتوفى، كيف يخدم الحداد الجينات؟)

الحل لمثل هذه الألغاز يُمثّل واحدًا من أكبر التحديات في العلوم المعاصرة. وغالبًا ما يتضمّن الطريق إلى الحل هذه الموضوعات: 1) التمييز بين نوع السلوك والعضو العقلي الذي يحكمه؛ 2) تذكر أن العضو العقلي، وليس السلوك، هو ما صمّمه الانتقاء الطبيعي حقًا؛ 3) إلى جانب تذكر أنه على الرغم من كون هذه الأعضاء قد تؤدي إلى سلوك تكيفي في البيئة التي صُمِّمت فيها (ذلك أن هذا هو السبب الوحيد الذي يدفع الانتقاء الطبيعي أبدًا لتصميم عضو عقلي)، فإنها قد لا تستمر في إنتاج هذا السلوك؛ 4) تذكّرْ أن العقل الإنساني معقّد بشكل لا يُصدّق، وأنه قد صُمِّم لإثمار طيف كبير من السلوكيات، اعتمادًا على كافة أشكال التفاصيل الدقيقة للظروف المحيطة، وأن طيف السلوكيات الذي يُثمره يتوسّع بنطاق هائل بسبب التنوع غير المسبوق للظروف في البيئة الاجتماعية الحديثة.