توماس كون (Thomas Kuhn) هو أحد أكثر فلاسفة العلم تأثيراً  وجدلاً في القرن العشرين وقد عرف بكتابه (بنية الثورات العلمية) والذي اتصف بتعارضه مع عدد من المذاهب الوضعية وأتصف أيضاً بمنحى جديد من فلسفة العلم ينبع من تاريخ العلم. كما عرف كون بفرضيته المثيرة للجدل (فرضية عدم إشتراكية القياس[1]) (incommensurability thesis) كما أن معظم أعمال كون القادمة كانت تطويراً لأفكاره الواردة في كتاب بنية الثورات العلمية[2].

ولد توماس كون في سينسيناتي في ولاية أوهايو في الولايات المتحدة عام 1922 وابتدأ حياته الأكاديمية بدراسة الفيزياء ثم انتقل إلى تاريخ العلم ومن ثم إلى فلسفة العلم مع محافظته على إهتمام كبير بالفيزياء. حصل على شهادة الماجستير في الفيزياء عام 1946 ومن ثم الدكتوراه في عام 1949، وحتى عام 1956 كان كون يدرس مادة العلوم لطلبة العلوم الإنسانية في جامعة هارفارد. الدورة الدراسية التي كان يقدمها كانت تُركز على دراسة حالات تاريخية معينة مما ساعد كون على التركيز على تاريخ العلم بشكل أكثر كثافة.

عُين أستاذاً مساعداً لتاريخ العلم في قسم الفلسفة  بجامعة كاليفورنيا مما طوره بشكل أكبر في مجال فلسفة العلم ليصدر مسودة كتابه الشهير بنية الثورات العلمية وليصدر الكتاب بشكل سلسلة في عام 1962.

تتلخص فرضية عدم إشتراكية القياس التي قدمها كون بالمفهوم المركزي الذي قدمه حول تطور العلوم وهو ما عرفه بالنموذج (Paradigm) والذي تتمثل وظيفته بتقديم مجموعة من الألغاز للعلماء ليقوموا بحلها وأن هناك شذوذات (anomalies) توجد ضمن  تلك الألغاز التي يحلها العلماء. العلم الذي الناتج عبر نموذج معين لا يُمكن مُقايسته مع علم آخر جاء من نموذج آخر. مما يعني أنه لا يوجد مقياس عام لتقييم النظريات العلمية.

تهدد فرضية عدم إشتراكية القياس أموراً كثيرة مالوفة في فلسفة العلم مثل أن العلوم الحديثة تُبنى على المعرفة المحتواه في النظريات القديمة، أو أن النظريات الحديثة هي مقاربات أكثر دقة للحقيقة من النظريات القديمة. وقد تعرض كون لنقد كثير إثر ذلك بالنظر لما كانت عليه قواعد كالمنهج العلمي والمنطق تعد شرطاً لازماً أو أمراً لا محالة منه.

ترتكز الرؤية التقليدية لتطور العلوم على أمرين:

  • العلوم الحديثة تُبنى على العلوم القديمة بإضافة الحقائق الجديدة عليها.
  • العلوم الحديثة هي مقاربات أكثر دقة للحقيقة من العلوم القديمة.

أما وفقاً لرؤية كون فإن تطور العلم لم يكن دائماً مستقيماً وتقليدياً، بل إنه لم يكن منتظماً وإنما كان بشكل ثورات. عند الكلام عن العلوم الإعتيادية يضرب كون مثلاً بحل اللغز، حيث إمكانية حل اللغز موجودة أساساً. في حين أن النظرة الثورية للعلوم التي يطرحها كون تتطلب مراجعة المعتقدات العلمية الحالية أو الممارسات العلمية بشكل كامل[3].

لدى كارل بوبر مبدأ مشابهة حول الثورات العلمية لكنها تعتبر فكرة معتدلة جداً مقارنة بالمبدأ الثوري لتوماس كون، بوبر يرى أن النظرية الجديدة يجب أن تتضارب منطقياً مع النظرية السلف، وأن تكون قادرة على شرح ما كانت تقدمه النظرية السابقة. غير أن كون يرفض هذه القيود ويرفض قابلية التخطئة لكارل بوبر، ويرفض مبدأ تقدم النظريات المتلاحقة في مقاربتها للحقيقة.

يرى كون أن الثورة العلمية يجب أن تقلب النظام الذي قامت على أساسه النظريات السابقة بشكل كلي، أن يستوعب النموذج جميع الشذوذات وأن يكون النموذج ذلك جديداً هو الآخر، أي الاسئلة وطبيعة التفكير التي يطرحها الباحث.

تأثير توماس كون ونقد آراءه

أثر توماس كون على مجالات عديدة ومنها أن بنية الثورات العلمية أدى إلى بزوغ جماعة من الإجتماعيين الذين يعتبرون علم الإجتماع علماً، مستندين إلى طروحات كون حول النماذج في الوقوف بالضد من المنطقية الامبريقية التقليدية التي تنفي عن علم الاجتماع صفة العلم. فيما شكك آخرون بأهمية نظرة كون حيال تطور علم الإجتماع[4] .

بعض الإقتصاديين أيضاً نادوا بإمتلاكهم لنموذج من نماذج الثورات العلمية وأنهم يمثلون علماً إعتيادياً (normal science) ولم تلاقِ تلك النداءات صداها حتى في علم الإقتصاد ونالت الشجب من كثيرين.

أما العلوم السياسية فقد كان كتاب بنية الثورات العلمية هو ثاني أكثر الكتب استشهاداً في العلوم السياسية عام 1974[5] وقد استخدمها مختصي العلوم السياسة في نقد السلوكية التي نادت بوجوب خضوع التصريحات السياسية الدقيقة لقابلية التخطئة وأن تكون قابلة للإختبار.

تعرض كون للنقد من كثيرين ومن زملاءه في تاريخ العلم وفي الفلسفة خصيصاً، أشهر ذلك هو الندوة التي ترأسها كارل بوبر في جامعة بيدفورد عام 1965 والتي صدرت بشكل كتاب تضمن المزيد من الآراء الناقدة، بلغت طبعات ذلك الكتاب أكثر من 21 طبعة في عام 1999. وقد قال كون عن الكتاب إنه غير متوافق مع ما يراه هو وما يقع عليه فهمه[6].

ستيفين تولمين (Stephen Toulmin) الفيلسوف البريطاني قال في كتابه – فهم الإنسان –  الصادر عام 1972 أن  “واقع ما تجري عليه التطورات العلمية ليست بالدراماتيكية التي يتكلم عنها توماس كون، التغيرات التي تجري عادةً ما تكون أكثر تردداً، وهي تشبه ما يسميه كون (العلوم الإعتيادية)”، وفقاً لذلك تكون وجهة نظر كارل بوبر حول الثورات العلمية أقرب للواقع بكثير.

فرضية عدم إشتراكية القياس هي الأخرى محط نقد للكثيرين، حيث يستشهد كون بمفهوم الكتلة لدى كل من نيوتن وآينشتاين قائلاً:

“كتلة نيوتن ثابتة بشكل دائم؛ بينما كتلة آينشتاين قابلة للتحول إلى طاقة. وفقط ضمن سرعات محدودة جداً يمكن قياس الكتلتين بنفس الطريقة، وبعدها يتم الإيهام بأنهما الشئ نفسه”.

وفي واقع الأمر يُظهر الفيلسوف الأمريكي هارتي فيلد (Harty Field) أن الكتلتين مختلفتان أصلاً[7]، فكلمة “كتلة” في عهد نيوتن كانت غير محددة مرجعياً لكن هذا لا يعني أن الكتلة كان لها معنى مختلف عن الكتلة حالياً، الأمر لم يكن واضح مرجعياً بشكل كبير. لم نكن نعرف كيف يُفكر نيوتن بالكتلة، لكن ما نعرفه أن هذين المفهومين ليسا نتيجة لثورة علمية بل من الأنسب أن نقول أن المصطلح الأول تم صقله في النظرية الجديدة ليظهر بهذا الشكل، وهو ما يتطابق مع الامبريقية المنطقية التقليدية. يُنتقد كون من ناحية معرفية حول أخذه لتلك المصطلحات وكأن لها معنى واحد بينما في الواقع إنها تختلف كلياً.

وينتقد كون ابستمولوجياً حول مبدأ النموذج الذي يجعله يعتمد على إدراكنا للعالم، فلو كان هناك عالمان يراقبان ظاهرة معينة وكان لهما أحكام مختلفة فإن تفسيرنا للعالم عندها يعتمد على ما نراه، على ما يطرحه العالم من اسئلة، على اللغز، على النماذج المختلفة.

المصادر

[1] قاموس المعاني، ترجمة كلمة (incommensurability)

[2] Bird, Alexander, “Thomas Kuhn“, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Fall 2013 Edition), Edward N. Zalta (ed.)

[3] Nickles, Thomas, “Scientific Revolutions“, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Winter 2016 Edition), Edward N. Zalta (ed.)

[4] Longino, Helen (April 12, 2002). “The Social Dimensions of Scientific Knowledge”. Stanford Encyclopedia of Philosophy. The Metaphysics Research Lab, Center for the Study of Language and Information (CSLI), Stanford University. Retrieved March 28, 2016.

[5] Fox, Charles (1974). “Whose Works Must Graduate Students Read?”. A NEW Political Science: 19.

[6] Imre Lakatos and Alan Musgrave, eds. Criticism and the Growth of Knowledge: Volume 4: Proceedings of the International Colloquium in the Philosophy of Science, London, 1965, (Cambridge: Cambridge University Press, 1970), pp. 231.

[7] Field, Hartry. “Theory change and the indeterminacy of reference.” The Journal of Philosophy 70.14 (1973): 462-481.