من اللقاء مع سبينسر كيلي النص الكامل للقاء بالعربية منشور في العدد 55 من مجلة العلوم الحقيقية

كيف يمكن أن تقترن الخصائص الذهنية / السيكولوجية بالجينات؟ وهل يمكن أن يشكل ذلك تحدياً لعلم النفس التطوري؟

نعم أنا أقر أن هذه ليست بالمهمة اليسيرة، بل هي مهمة شديدة الصعوبة. نعتقد أنه لو تم القيام بها بالطريقة الصحيحة فإنه لا يوجد سبب للخوف من الجينات في محاولة فهم التعقيد في دماغ الإنسان. في بعض الأحيان يلجأ الأشخاص للتبسيط الشديد حين نتكلم عن الجينات، وقد تكون لديهم بعض الأجندات حين الحديث عن الجينات بالقول مثلاً أنك لا يمكن أن تساعد شخصاً وأن المسؤول الوحيد هو جيناته أو قد يقول قائل أن الجينات لا علاقة لها على الإطلاق بل كل شيء يرجع إلى البيئة. وهذه الانقسامات في الآراء تبسيطية جداً وفي أغلب الأحيان إن الأمر هو مزيج بين الاثنين.

رؤيتي هي أنه لكي تبدأ فعليك أن تعلم أن الأمر مترابط جينياً ومن ثم ننطلق من هناك، ويمكن أن نبني على ذلك. سأعطي مثالاً، هناك مرض جيني يدعى ببيلة الفنيل كيتون (Phenylketonuria) والذي هو شكل من أشكال التأخر في النمو. يتسبب هذا المرض بعجز معرفي في الذاكرة واللغة ونعلم بأن هناك عامل وراثي في الإصابة به، كما تم تعريف التسلسل الجيني لذلك، وحين يكون هناك تسلسل جيني معين فإن هناك نسبة عالية لتطوير هذا المرض. رغم ذلك، إذا ما تم تغيير حمية الأم الحامل لمن له خطر الإصابة بهذا المرض لتقييد تناول بروتينات معينة، فإن هذا سيحول دون تفعيل المرض بنفس الكيفية التي ينتهي فيها الأشخاص بتطوير المرض بنمطه العصبي.

أظن أن ذلك مثير للاهتمام لسببين، أولهما، أنه يرينا أن أشياء كالدماغ والذاكرة واللغة والتي هي كلها أمور عالية المستوى – لها عوامل جينية ترتبط بها. لكن في نفس الوقت فإنها ليست قابلة للاختزال بالجينات فقط رغم ارتباطها بها. السبب الثاني هو أنني معجب بشدة بدور البيئة في تلك الآلية المصيرية، أما من حيث تشغيل او إطفاء الجينات وأظن أن تطبيق هذا النموذج على أمور كاللغة فإن علينا أن نتكلم عن التفاعل بين النزعات الجينية والمدخلات البيئية. من الممكن إذن أن نربط الجينات بالمفاهيم العليا كاللغة شرط ألا نختزلها بهم. أظن أن هذان هما الأمران المهمان في هذا الصدد.

وفيما يتعلق باللغة خصوصاً، فإن أحد الأخطاء التي نعتقد أن الباحثين يقومون بها تاريخياً حين يدرسون اللغة: هي النظر للجينات المصممة خصيصاً للغة، أو جينات اللغة. معظم علماء الجينات خصوصاً في هذه الأيام سيقولون أن هذه ليست الطريقة الصحيحة للنظر إلى الجينات واللغة والتفكير بهما. بل، يجب التساؤل عن العمليات الفرعية التي تسمح للغة بالتكون. اللغة إذن هي فرع من عمليات أصغر تحتاج للعمل سوية لكي تعمل. وإذا ما نظرنا إلى الجينات في تلك المكونات الصغيرة، سنفهم حينها كيفية ربط أمور معقدة جداً من اللغة بالجينات.

أظن إذن، أن الفكرة الرئيسية هي أننا سنرى في السنوات الخمس أو العشر القادمة حين سنشاهد تلك الاكتشافات الكبيرة في الجينات حول بعض السلوكيات المعقدة كاللغة، هي أن تلك الاكتشافات ستصغر اللغة إلى عمليات أصغر ومن ثم سنرى الروابط.

أحد تلك الروابط مثلاً، هناك روابط جينية بين بعض خصائص الكلام لتوليد الحركة في الفم. هذه مهارة بسيطة،إنها ليست سهلة لكنها بسيطة من حيث أنها لو تم التأثير عليها فستتسبب بمشاكل في اللغة. نحن نعتقد أن الجينات تميل إلى الإرتباط بقدرات حركية بسيطة لتوليد أصوات اللغة. لذا، فالفكرة هي أننا لو استطعنا العثور على المزيد من تلك الجينات التي ترتبط بتلك العمليات الفرعية، فسنتمكن حينها من أن نضع القطع سوية لفهم جميع الآليات الوراثية للغة.

أعتقد أن الامر ممكن، وأظن أنك محق، إنه تحدٍ، وحول أي تفسير تبسيطي يجب التفكير أن من يتبناه يحاول تمرير أمر غير صائب.

بأخذ علم النفس التطوري بنظر الاعتبار والذي يفترض أن يكون قائماً على الوراثة للصفات النفسية، ألن يكون ذلك تحدياً لهذا التخصص؟

أعتقد أن علم النفس التطوري يأخذ منحى معقد في كيفية ربط الجينات بالصفات النفسية، إنه ليس تحدياً كبيراً، نعم إنه صعب لكن من الناحية المبدئية فهو ليس كذلك بالنسبة لعلم النفس التطوري.

مفهومي لعلم النفس التطوري أنه حقل يحاول شرح سلوك البشر بمعيار وظيفته التكيفية ووظائفه التكيفية التاريخية. وإذا كنت ستقوم بذلك فعليك أخذ الجينات بنظر الاعتبار باعتبارها احدى طرق الوراثة، لذا لا اعتقد أن ذلك سيعد تهديداً لعلم النفس التطوري، أنا أرى أن التهديد هو لعلم النفس التطوري شديد التبسيط.

أحياناً يظهر علم النفس التطوري في الأخبار لأنه يقدم تصريحات جريئة جداً حول جينات للعدائية مثلاً، والتي هي سلوك معقد، وقد تساهم فيه بعض الجينات، الأمر حقيقي. لكن جين للحب، أو جين للغة – التي هي تخصصي – هذه الأشياء معقدة جداً، ولن تجد فيها جين أو عنقود من الجينات يمكنك من تخطيط وفهم كل ما هو معقد. لذا فإن الأمر فيه تهديد لعلم النفس التطوري شديد التبسيط.

هناك ما يكفي من الباحثين اللامعين في المجال اليوم ممن بدأوا بالحديث وكأنهم علماء وراثة جزيئية، علم النفس التطوري الذي لا يتكلم عن الأحياء الجزيئية يعد مشكلة. على المجالين أن يتحدثان لبعضهما لكي ينمو المجال أكثر.

تفسيركم لعمل جين FOX2P في الكتاب كان رائعاً، وهو مما أنصح المستمعين للرجوع له في الكتاب. وسأشارك ما أظن أنني ذكرته في أحد المقالات عن شرحكم المبسط لدور هذا الجين في كائنات أخرى.

نعم، بالضبط، هناك شيء آخر فقده علم النفس التطوري وهو أن هناك الكثير من الآليات الجينية في الكائنات الأخرى التي لا تختص بالبشر لوحدهم، والتي تنعكس على قضايا معقدة في البشر فيما لا تنعكس على ذات الأشياء في تلك الكائنات. من الواضح أن البشر هم الكائنات الوحيدة التي لديها لغة، بكل مجدها وتعقيدها. مع ذلك، فإن هناك كائنات أخرى لديها جين FOX2P مثل الفئران والكلاب، وهذا الجين هو أحد الجينات المحفوظة تطورياً وقد تم إعادة استخدامه من قبل كائنات عديدة وحيثما تراه فمن المحتمل أنه قد تم استخدامه لعمليات أساسية تخدم وظائف أخرى.

قد قرأت الكتاب، وتعلم الآن أننا ولأننا لا نمتلك جينات للغة، فإن السبب لذلك هو لأننا لا نحتاج لجينات للغة، بل نحتاج إلى الجينات لجميع تلك الأشياء التي تساعدنا لبناء اللغة فوق التطور الذي نمتلكه. يحتاج البشر ذلك، ويتضح أن هناك الكثير من الجينات والآليات الجينية للغة التي نتشاركها مع كائنات أخرى، وهو أمر مثير للإعجاب، يجعلك تفكر بأنها قصة أعقد من مجرد الجينات حينما نرى أننا نشارك تلك المكونات مع الكائنات الأخرى.

ليس هناك جزء في الدماغ مخصص للغة، هل يمكن أن نقول ذلك بثقة الآن؟ ما هي الأجزاء الرئيسية المنخرطة في اللغة في الدماغ وما هي وظائفها الأخرى؟ نفهم أن هذا كان رأي اليزابيث بيتس التي كتبنا عنها مقالاً [وجعلنا صورتها على غلاف العدد] قبل بضعة أشهر.

قبل كل شيء، حين كنت أنظر لموقعكم، رأيت أن هناك صورة لاليزابيث بيتس على غلاف إحدى المجلات، وقد أعجبت بذلك، أعتقد أن اليزابيث بيتس كانت متقدمة على الحقبة التي كانت فيها، من حيث التفكير باللغة في الدماغ وقد كان لديها تأثير كبير علي. وأنا سعيد بأن قرائكم سيقرؤون عن هذه المرأة اللامعة.

اللغة هي ماكنة حديثة بنيت من قطع قديمة

لأستشهد بما قالته: “اللغة هي ماكنة حديثة بنيت من قطع قديمة”، اقتباس صغير وعظيم، وهذه القطع القديمة هي قطع محددة جينياً. إنها ليست قطعاً مما يجب عليك تجميعه خلال النمو، بل ولدنا مع هذه القطع. إذا كان لدينا دماغ، فلدينا إذن الأجزاء المفيدة للغة، ثم ومن خلال الخبرة واللدونة العصبية نقوم بربط هذه الأجزاء لنكون دماغاً للغة.

أنت تقوم إذن بربط النظام، غير أن الأجزاء في محلها، السؤال إذن: “ما هي هذه الأجزاء، وإذا لم تكن قد صُممت تطورياً للغة، ثم تكيفت مع اللغة، ما الذي تفعله هذه الأجزاء؟”. في الحقيقة، هناك الكثير من هذه الأجزاء، وإن لم تقترح للقراء فسأقترح بحثاً لغريغ هيكوك (Greg Hickok) وديفيد بوبيل (David Poeppel) [1].اللذان يقيمان الدليل على شبكة شديدة الدقة بين الجانب الأيسر والجانب الأيمن من الدماغ، وهذه خاصية مميزة، حيث أن تلك الشبكة ليست منحازة للجانب الأيسر أو واقعة فيه، وهي أيضاً تتضمن أجزاء فاعلة مهمة جداً مثل منطقة بروكا في الفص الجبهي (frontal lobe)، الفص الصدغي العلوي (superior temporal lobe) التي ندعوها منطقة فيرنيكه (Wernicke’s area) وأجزاء أخرى منها ما يتحدد وفق اللغة التي نتكلمها مثل التلفيف الصدغي العلوي (superior temporal gyros). هذه بعض التسميات لبعض تلك الأجزاء والكثير من الناس ربما سمعوا بمنطقتي بروكا وفيرنيكه.

تعد منطقتي بروكا وفيرنيكه مركزين لمسارين للغة، وفي كتابي، أتحدث عن هذين المسارين وهما المسار الظهري (Dorsal Pathway) والمسار البطني (Ventral Pathway). يلتقي المسار الظهري عند قمة الرأس أما البطني ففي أسفل الرأس. وهناك مسار، حيث أتكلم الآن وتنساب الكلمات عبر أذنيك فإن أي اهتزاز يحدث في طبلة أذنك ويمر عبر العصب السمعي إلى القشرة السمعية وهناك ترسل القشرة السمعية الإشارات نحو المسار البطني حيث تقوم بفصل المهام هناك.

في منطقة فيرنيكه إذن، يذهب أحد المسارين نحو الجزء الأسفل من الدماغ ويبدأ بربط تلك الأصوات بالمعاني. ليبدأ حينها: ما هذه الأصوات؟ ما الذي أسمعه؟ ثم: كيف تمتزج هذه الأصوات لتُشكل الكلمات وماذا تعني هذه الكلمات؟ وهكذا نحو الجمل تستمر معالجة المعاني. ثم المسار الظهري، ذلك الذي يذهب نحو أعلى الرأس – وهذا قد يفاجئ الكثيرين – يقوم بتخطيط تلك الأصوات على المخرجات الحركية. ما يفعله هذا المسار في الحقيقة هو أنك حين تسمع الكلام، تقوم بمحاكاة لتوليد ذلك الكلام بنفسك بالمسار الظهري عبر تراكيبك الحركية في الدماغ.

يمثل هذا جانباً مما يمكن وصفه بالمعرفة عبر الفعل (Knowing by doing)، قد تكون سمعت بالخلايا المرآتية، وتفهم أن فعل الوصول إلى الشيء يحفز عبر محاكاة ذات السلوك في الدماغ. يعتقد الباحثون أنك تقوم بالشيء ذاته حين تستخدم اللغة، غير أن الأمر يحدث بسرعة جداً، ولهذا السبب فإنك تجد صعوبة حين تستمع إلى لغة ثانية لأنك لا تستطيع محاكاتها. إن الأمر يقتصر فقط على عدم امتلاكك المهارات الحركية، كالطفل. لذا لا يمكنك معالجتها على الاطلاق، يكون لديك انفصال في المسار الظهري.

يلتقي كل من المسارين في منطقة بروكا، في الفص الجبهي للدماغ، يدعو البعض ذلك نقطة الاتحاد، حيث يجتمع المعنى بالاشارات الحركية، وهناك يمكنك وضع كل شيء سوية. هذا هو المسار البسيط والذي من اللطيف فيه أنه ليس شارعاً ذو مسار واحد. بل إنك تستخدمه باستمرار وترسل الإشارات عبر المسارين لتنبؤ ما سيحدث لاحقاً. فحين تستمع إلى اللغة، أنت تحاول أن تتنبأ بالكلمة القادمة، أو ما سيأتي بنهاية الجملة لأنك تريد أن تسهل على نفسك فهم المعنى. هذا ما يحدث في الجانب الأيسر.

أما في الجانب الأيمن، فهناك تحليلات مختلفة لهذا النظام. اللحن، الأشياء التي تربط الكلمات عبر فترات أكبر، وبشكل عام، تلك الشبكة تساعدك على تشكيل المعنى بشكل سريع جداً. وحالما تبني المعاني، يصبح من السهل جداً بناء معاني جديدة، ولهذا السبب فإن الكلمات في نهايات الجمل أسهل فهماً من الكلمات في بداياتها حيث يكون هناك المزيد من السياق للبناء وفقه.

هذه الشبكة إذن تتضمن اجزاءاً من الدماغ تدخل فيها أشياء كثيرة، ذكرت منها الخلايا المرآتية (mirror neurons). وذكرت أن منطقة بروكا في الجانب الأيسر تدخل في سلوك الوصول. حين يقوم شخص بفعل الوصول، فإن منطقة بروكا تقوم بمحاكاة ذلك، لذا فنحن نظن أن مسار اللغة هذا يحتل نظام تطوري قديم جداً يستخدم للوصول إلى الأشياء وقد تكيف هذا ليقوم بتلك المهمة الفخمة التي يمتلكها البشر وهي اللغة.

هذا مثال واحد فقط على قطعة قديمة للماكنة، وهي قطعة الماكنة المسؤولة عن فعل الإمساك بيديك.

[1] Hickok, Gregory, and David Poeppel. “The cortical organization of speech processing.” Nature reviews neuroscience 8.5 (2007): 393-402.

من اللقاء ذاته اقرأ أيضاً:

لغز التأتأة وقراءة القرآن

اللغة في المهد