نشأت الرياضيات مُنذ قيام الإنسان بقياس ما يُشاهده من ظواهر الطبيعة، بُناءً على فطرة في الإنسان، ألا وهي اهتمامه بقياس كُل ما حوله.

قد لا تكون الرياضيات عِلم الصواريخ، ولا عِلم الغِذاء، ولكن هل هي عِلم ؟، كثيراً ما ترتبط الرياضيات مع العلم وبالتأكيد يُعتَمد عليها من قِبل العلماء – سواء في البيولوجيا الحديثة، أو الكيمياء، أو الفيزياء، أو الجيولوجيا، أو مجلة علم نفس تشمل  بعض الحسابات والإحصاءات والرسوم البيانية والنماذج الرياضية – ولكن كيف تُشبه الرياضياتُ العِلمَ إلى حد كبير؟

الجواب يعتمد على وجهات نظر الفلاسفة حول طبيعة الرياضيات، وفي هذا المجال، لم يصل الفلاسفة وعلماء الرياضيات إلى توافق في الآراء. حيثُ يعتقد عدد من الفلاسفة أنه من غير الممكن تخطئة الرياضيات تجريبياً، وبالتالي، فهي ليست علم. ولكن في ثلاثينات القرن العشرين، جاءت مُبرهنات عدم الاكتمال للعالِم “غودل” لكي تُقنع العديد من علماء الرياضيات، بأنه لا يُمكن اختزال الرياضيات في المنطق وحده. مما دَفع العالِم “كارل بوبر” إلى إستنتاج أن أعظم النظريات الرياضية هي – كما هو الحال في الفيزياء، والبيولوجيا – فرضية، ثم استنتاج إستنباطي. في حين أن البعض يرى الرياضيات مجموعات من القواعد شُيدَت لمعالجة كيانات مُجردة، كيانات قد تكون، أو قد لا تكون لها أي علاقة بالعالم الحقيقي. وآخرون يرون أن الرياضيات هيكل مُتأصل من العالم الطبيعي نفسه، الذي يجب أن يُكتَشف، كما اكتُشِفت البروتونات والنيوترونات والإلكترونات. كما توجد العديد من وجهات النظر الاُخرى حول الرياضيات. من هنا نستطيع إعتبار هذه وجهات نظر مشتركة عن الرياضيات، واستخدام المرجعية العلمية؛ لنرى كم التشابه الحقيقي بين العِلم والرياضيات.

حسناً، هناك سبعةُ أسئلة يُحتَمُ الإجابة عليهم؛ لكي نحسم إذا ما كانت الرياضيات علماً أم لا.

أولاً: هل تُركِز الرياضيات على العالم الطبيعي ؟

غالباً ما يُنظر إلى الرياضيات عند التعامل معها على أنها كيانات لها نظائر في العالم الطبيعي، ولكنها لا توجد في هذا العالم فعلياً. فمثلاً، النمل، أو الذرات، والعدد إثنين “2” لا يُنظر إليه عادةً باعتباره كيان مادي، ولكن كتجريدٍ قوى يُمكن أن نستخدم العدد إثنين “2” لوصف هذه الكيانات التي ذُكِرت (النمل / الذرات). من ناحيةٍ اُخرى، يُمكن القول أيضاً أن تجريدات الرياضيات تنشأ مباشرةً من العالم الطبيعي. حيثُ حقيقة أن نملتين زائد نملتين، ينتُج مجموعة من أربع نملات، هو مجرد وصف لكيفية وجود الأجسام في العالم الطبيعي.

ثانياً: هل تهدُف الرياضيات إلى تفسير العالم الطبيعي ؟

يعمل العديدُ من علماء الرياضيات على المشاكل التي تُساعدنا في فهم وتفسير العالم الطبيعي. على سبيل المثال، إكتشاف العالِم “اسحاق نيوتن” للقواعد الأساسية للحركة؛ بفضلِ التقدم الذي أدلى به في حساب التفاضل والتكامل. في حين تهدف بعضُ التخصصات الرياضية (الرياضيات التطبيقية) إلى مساعدتنا على فهم الكيانات المادية في العالم الحقيقي. والبعض الآخر (الهندسة الجبرية) يُركز بشكل رئيسي على تطوير المعرفة الرياضية البحتة. فعلى الرغم من أنه كثيراً ما وُجدَت هذه المعرفة البحتة، إلا أنه لم تُعرف تطبيقاتها في العالم الحقيقي إلا في وقتٍ لاحق. بالتالي جميع التحقيقات الرياضية يجب أن تهدف إلى تفسير العالم الطبيعي.

ثالثاً: هل الأفكار الرياضية قابلة للإختبار ؟

الأفكار الرياضية قابلة للاختبار، ولكن هذا ليس تعميماً ضد الأدلة من العالم الطبيعي. كما هو الحال في علم الأحياء، والكيمياء، والفيزياء، وتخصصات مشابهة. بدلاً من ذلك، الأفكار الرياضية لا يُمكن اختبارها حسابياً. وهذا المثال للتوضيح: يُمكننا إختبار فكرة أن كل عدد زوجي صحيح أكبر من اثنين “2” هو مجموع عددين أوليين. لإختبار هذا، ببساطة فلنفترض أي عدد زوجي أكبر من “2”، ثُم نحاول إيجاد عددين أوليين يمكن جمعهما لينتج عدد زوجي. ماذا عن العدد “6” ؟. هذا ينفع؛ لأن “3” عدد أولي،  و( 3 + 3 = 6 ). ماذا عن “24” ؟. أيضاً ينفع، حيث إن “17” و “7” أعداد أولية، و( 17 + 7 = 24 ). وإذا وجدنا العديد من المجموعات من الأرقام التي تتناسب مع هذه الفكرة، بالتالي تكون هذه الفكرة صحيحة. وإذا وجدنا حالة واحدة فيها عدد زوجي أكبر من “2”، ولا يُمكن كتابته على أنه مجموع عددين أوليين، بالتالي تكون الفكرة غير صحيحة. وتُعرف هذه الطريقة “تخمين غولدباخ”. وسواء كان ذلك صحيحاً أم لا، فالسؤال لا يزال مفتوحاً في الرياضيات. وبالتالي طريقة الإختبار الموصوفة هُنا تحتوي البحث عن مضاد لفكرة معينة، ولكن علماء الرياضيات لديهم طرق اُخرى لاختبار أفكارهم. وكثيرُ من هذه الأفكار قد تم تطبيق “تخمين غولدباخ” عليها. هذه الأنواع من الاختبارات الرياضية عموماً لا تنطوي على الخروج إلى العالم؛ لإبداء الملاحظات التي قد تدعم أو تتعارض مع أي فكرة على الرغم من ذلك. حيثُ ببساطة  3 + 3 = 6  يمكن النظر إلى كونها نابعة من العالم الطبيعي.

رابعاً: هل تعتمد الرياضيات على الدليل ؟

في العِلم، الأدلة من العالم الطبيعي باستطاعتها صُنع، أو محو فكرة مُعينة. ولكن ذلك لا ينطبق بالضرورة على الرياضيات. مفهوم اللانهاية -على سبيل المثال- صحيح رياضياً سواء أمكننا إيجاد دليل مادي عليها أم لا. ولَعَل الأهم من ذلك، أن ظهور أدلة وجهات نظر جديدة يُمكن أن يؤدي بنا إلى مراجعة هذه الفكرة، كما أن الأفكار العلمية لا يُمكن أن تُثبت بطريقة مُطلقة. بعض الأفكار الرياضية -من ناحية اُخرى- يمكن أن تكون مُثبتة تماماً. على سبيل المثال نظرية فيثاغورث.  وبوجهٍ عام علماء الرياضيات يقبلون المبادئ الأساسية حول كيفية عمل الأرقام، ويُمكنهم بعد ذلك إستخدام المنطق لإثبات ما إذا كانت الأفكار الاُخرى الفرعية يجب أن تكون صحيحة، وقائمة على الأفكار الأساسية.

خامساً: هل تشمل الرياضيات المُجتمع العلمي ؟

تعتمد الرياضيات على المُجتمع الخاص بها. تماماً كما في الأوساط العلمية، والأعضاء من المجتمع الرياضي يتعاونون في المشاريع، والتدقيق في أفكار بعضهم البعض، وتقييم عمل بعضهم البعض، والحفاظ على المعايير الأخلاقية داخل المجتمع.

سادساً: هل تؤدي الرياضيات إلى الأبحاث الحالية ؟

تُساهم الإنجازات الرياضية في اكتشافات جديدة في الرياضيات، وغالباً في طُرق جديدة للبحث في العلوم القياسية، مثل: علم الأحياء، والكيمياء، والفيزياء. حتى المعرفة الرياضية التي تم تطويرها تجريدياً وبحتياً، دون أي تفكير نحو التطبيقات العلمية المحتملة، فكثيراً ما تتحول إلى إفادة في البحث العلمي. -على سبيل المثال- في عام 1909، بدأ عالِم الرياضيات “ديفيد هيلبرت” تطوير أدوات رياضية لدراسة المساحات ذات الأبعاد اللانهائية، والتي كانت تُستخدَم منذ أكثر من 10 سنوات لإضفاء الطابع الرسمي على ميكانيكا الكم (واحدة من النظريات الأساسية للفيزياء الحديثة).

سابعاً: هل يتصرف الباحثون الرياضيون علمياً ؟

من المُتوقَع من الرياضيين أن يلتزموا نفس مجموعة القواعد، كما يفعل الفيزيائيون، والكيميائيون، وكما المُتوقَع أن يتتبع عُلماء آخرون أعمالاً لعلماء رياضيات سبقوهم، ويتبادلون الأفكار ونتائجها مع الآخرين، ويستجيبون لتلك النتائج والتي قد تتضمن بعض الانتقادات. ويُتوقَع منهم أن يتقنوا عملهم، -على سبيل المثال- تقرير نتائجهم بدقة، وموضوعية، لتقييم أبحاث الآخرين، وتَجَنُب سرقة أفكار بعضهم البعض، وما إلى ذلك.

ومن أشهر عُلماء ومُطوري الرياضيات على مر العصور: إقليدس، أرخميدس، فيثاغورس، طاليس،الخوارزمي، إسحاق نيوتن، غوتفريد لايبنتز، لابلاس، بليز باسكال، هنري بوانكاريه، جاوس، ديفيد هيلبرت، ستيفن باناخ، ابن الهيثم، مايكل عطية، ليونارد أويلر، كورت غودل، جون فون نيومان، برنارد ريمان، رينيه ديكارت، جورج كانتور، جورج بول، عمر الخيام، إيمي نويثر.

 

في نواحٍ كثيرة، الرياضيات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالعلم. فهي مجال العلماء، وهكذا يفعل المجتمع الرياضي كما يفعل المجتمع العلمي. فعلماء الرياضيات يبنون ويطورون على عمل كلٍ منهم، ويتصرفون بطرق تدفع الانضباط إلى الأمام. هذا التقدُم يُسهم في تحقيق إنجازات علمية عظيمة.

الرياضيات هي أداة مُفيدة بدونها لا يستطيع العلم أن يصنع بعض التقدم. ومن الواضح أن الرياضيات ومعيار العلوم -مثل علم الأحياء، والفيزياء، والكيمياء- في اتجاه واحد. كما وكيفية إختبار الأفكار وقبولها على أساس الأدلة. الرياضيات لا تعتمد على اختبار الأفكار ضد الأدلة من العالم الطبيعي بنفس الطريقة التي تعمل بها غيرها من العلوم. وغالباً ما تُقبل الأفكار الرياضية القائمة على البراهين الاستدلالية، في حين الأفكار في العلوم الأخرى تُقبل عموماً على أساس تراكم كثير من الملاحظات المختلفة التي تدعم هذه الفكرة.

سواء كانت ميزات الرياضيات تتماشى مع تلك العلوم التي تعتمد على التزامات فلسفية أم لا. فعند السؤال: هل الرياضيات علم أم لا ؟، تكون الإجابة: نعم، الرياضيات بالتأكيد تبدو مُجردة ويُمكن إزالتها من العالم المادي بطُرق عديدة، لكنها تقوم بعمل جيد بشكل ملحوظ لوصف ما يحدث في هذا العالم المادي. إن الرياضيات ليست فقط جزءٌ لا يتجزأ من الطريقة التي يعمل بها الكون، بل هي مَلكَة العلوم.

المصدر:

, “The science checklist applied: Mathematics“, Understanding Science, March 11, 2017