إذا ما قام أحد الذكور بفحص السلالة في عصرنا هذا وكان يعيش في الهند فإن هناك نسبة أن يبتدئ رمز النتيجة الطويل بالحرف H. يعني ذلك المجموعة الفردانية H أو الصبغي H (Haplogroup H) والتي تعرف أيضاً بـ H-L901/M2939 وهي إحدى المجموعات الفردانية للكروموسوم واي في الحمض النووي. غير أن التاريخ المرتبط بالذكور الذين يحملون هذه المجموعة الفردانية لا يتوقف عند الهند، بل كان يوماً ما يمثل جزءاً كبيراً من الذكور المنتشرين من الهند إلى إيران فالقوقاز والشرق الأوسط ومن ثم إلى أوروبا. يمكن ملاحظة هذه المجموعة الفردانية اليوم أيضاً لدى الغجر بإمتدادهم الواسع من الهند وحتى جميع أنحاء أوروبا حيث يعد هذا دليلاً جينياً على تحدرهم من الهند.

الأصل والتواجد الحالي للمجموعة الفردانية H

ذكرنا في المقال السابق المجموعة الفردانية F وفرعها G، وذكرنا الفرع الآخر وهو HIJK، وH هو أحد الفروع الأساسية لتلك المجموعة الافتراضية. يعتقد أن أقدم شخص تم تحديد انتمائه للمجموعة الفردانية H تواجد في حقبة ما بين 13 ألف – 14 ألف سنة قبل الميلاد أي حوالي 15 – 16 الف سنة قبل الآن.2 غير أن نقطة افتراق هذه المجموعة عن المجموعة الفردانية الأصل لا تقل عن 48 ألف سنة من الآن. ويفترض أن تتواجد نقطة الأصل لهذه المجموعة في مكان ما بشمال الهند حالياً.

في الدراسة التي قام بها سينغوبتا وزملائه[1] والتي غطت عدداً كبيراً من العينات، كان جميع من تم فحصهم ينتمون للمجموعة الفردانية H باستثناء عدد قليل من كمبوديا يُعتقد أنهم ينتمون لهذه المجموعة نظراً للتأثير الهندي على جنوب شرقي آسيا. كان هذا على الرغم من أن الدراسة غطت العديد من الأقاليم المجاورة للهند فمثلاً غطت الدراسة عدداً كبيراً من العينات الصينية. أما في موقع فاملي تري دنا (Family Tree DNA) فتظهر نتائج الأشخاص الذين ظهر لديهم الصبغي H أنهم في الغالب من الهند، يلي ذلك باكستان وبنغلاديش مع فئة أخرى في بقية أنحاء العالم ربما تعود ايضاً لهذه البلدان في هجرات حديثة أو للدول المجاورة لها[2]. سنعود لهذه الدراسة في المقال القادم للمجموعة R، حيث يقترح هذا المقال أن تواجد المجموعة R في الهند يعود لبدايات الهولوسين ولا يرتبط فقط بغزو شعوب وسط آسيا للهند قبل حوالي 5000 سنة.

الانتشار من الهند حتى أوروبا في العصر الحجري

تتفرع المجموعة H إلى ثلاثة مجاميع رئيسية تعرف بأرقامها H1، H2، H3. يُعرف الفرع الأول بأنه الفرع السائد في الهند حالياً، وبالإشارة إلى هجرة الغجر التي ذكرناها، فإن الغجر ينتمون أيضاً لأحد التفرعات من H1. كما يقع السواد الأعظم من الذكور الذين يحملون هذه المجموعة الفردانية ضمن المجموعة H1. يعتقد أن هذه المجاميع الثلاثة قد تكونت في فترة متقاربة تصل إلى 4000 سنة من فترة انفصال المجموعة الأصلية عن سلفها. المجموعتين الأولى والثالثة نشأتا قبل حوالي 44 ألف سنة، أما المجموعة الثانية فقد نشأت قبل أكثر من 45 ألف سنة.

غير أن القصة المثيرة تكمن في أن تلك المجموعة لم تكن قد استقرت في الهند وبقيت هناك، وليس من الواضح طبيعة الصلة بين من هم في الهند ومن انتشروا في العالم، غير أن الخارطة الجينية في العالم القديم كانت تختلف. يظهر من خلال أدلة كثيرة أن المجموعة H لم تقتصر على التواجد في الهند. حين تم إجراء فحص الحمض النووي لرفات رجل مصري قديم عاش في فترة السلالة الثانية عشرة بمصر أي قبل 4000 سنة من الآن، وجد أنه ينتمي للمجموعة الفردانية H. وكذلك فقد عثر على المجموعة الفردانية في رفات رجال دفنوا في عهود سابقة في إيران والأردن والهند وباكستان وتركمانستان والأناضول وحتى في بأوروبا 2.

تخصصت دراسة رورلاش وزملاءه، من جامعات عديدة على رأسها معهد ماكس بلانك، بهجرة حاملي المجموعة الفردانية H بالفرع H2 منها من الشرق الأدنى إلى جميع أنحاء أوروبا.[3] تمثل تلك الهجرة انتقالاً كبيراً للفلاحين من الأناضول إلى أوروبا الغربية. حدث ذلك التوسع، المعروف في أبحاث أخرى أيضاً، في الفترة بين 10 آلاف إلى 15 ألف سنة قبل الآن.[4] فيما وصلت المجموعة H2 قبل ذلك إلى الشرق الأدنى قبل حوالي 10 آلاف سنة وكانت مرتبطة أيضاً بانتشار الزراعة هناك. وفيما كانت الخارطة الجينية الأوروبية مغطاة بنسبة أكبر من هذه المجموعة الفردانية يوماً بحسب العينات الواردة في دراسة معينة، فإن من يمتلك هذه المجموعة اليوم من الأوروبيين هم نسبة نادرة جداً تصل إلى 0.2%. حيث تعزو الدراسة اختفاء فئات السكان القديمة أمام القادمين الجدد من الشعوب الهندوأوروبية لاحقاً ممن يحملون المجموعة الفردانية R بنسبة كبيرة، فانخفض وجود تلك المجاميع القديمة في أوروبا ومنها أيضاً G2 وT1a. ويذكر الباحثون أن المجموعة H كانت من الأساس أقل كثافة لو قورن الذكور الذين تم العثور على رفاتهم في أوروبا بالمقارنة مع المجموعة G2a المرافقة زمنياً لها.

يرى الباحثون أن إنخفاض نسبة وجود المجموعة H بالمقارنة إلى المجموعة G إلى الظاهرة المعروفة بفرز السلالة أو الفرز غير الكامل للسلالة (Incomplete linage sorting). ووفقاً لهذه الظاهرة في الجينات السكانية فإن تمايز المجموعات أو تقاربها قد يبقى مختلفاً من حيث وجود أحد الخصائص الجينية القديمة من الأسلاف. فربما تعد المجموعة H وG مجموعتان متقاربتان وتشكلان ذات الفئة من الفلاحين الأناضوليين الذين انتشروا في أوروبا لكن مع بقاء المجموعة الفردانية مختلفة لتعكس مجموعة أخرى. في مفهوم الفرز غير الكامل للسلالة يمكن أن تغدو السلالات الأقرب مختلفة تماماً بالنظر إلى تنوع في جين معين، ويمكن أن تغدو السلالات الأبعد متقاربة بالاستناد إلى تنوع في جين معين.

تظهر الخارطة في دراسة رورلاش تواجد المجموعة H2 في بقاع واسعة من أوروبا تمتد من الأناضول، ثم في نقاط عديدة في البلقان، وكذلك في وسط أوروبا وفرنسا بالإضافة إلى إسبانيا وإيطاليا الحاليتين، وحتى في بريطانيا وايرلندا. كما نرى في الدراسات التي تذكر ثقافات العصر الحجري في أوروبا مثل ما يعرف بثقافات الجندل أو الميغاليث (Megalith) أو ثقافة فينتشا (Vinca) أن المجاميع التي كانت تقطن أوروبا كان الذكور فيها يشكلون مزيجاً يغلب فيه المجموعة  G بالإضافة إلى المجموعة I و H وC حتى فترات تتراوح بين 5 آلاف إلى 8 آلاف سنة قبل الآن وبحسب المواقع التي تم العثور فيها على رفات رجال من تلك الحقب.[5]

يعتقد أن هجرة الغجر قد بدأت قبل فترة حديثة جداً من الآن.3 وتشكل هجرة الغجر ظاهرة مثيرة للاهتمام ذات صلة بهذه المجموعة الفردانية ويمكن اعتبارها أيضاً، رغم حداثتها، هجرة شبيهة في نمط هجرة المجموعة ذاتها في العصر الحجري قبل أكثر من 10 آلاف سنة، حيث تتجه هذه الهجرة غرباً من الهند إلى الشرق الأدنى ثم إلى الأناضول فالبلقان وإلى جميع أنحاء أوروبا. قامت ايزابيل مينديزابال وزملائها بتحليل بيانات الحمض النووي بشكل واسع لشعوب الغجر المعروفة أيضاً بتسمية روما ونشروا دراسة في ذلك عام 2012. توصلت تلك الدراسة إلى القرابة الشديدة للغجر في أوروبا مع شمال شرق الهند وبفترة هجرة يتوقع أن تكون قد بدأت قبل 1500 سنة، ومن ثم بدأ الانتشار من البلقان إلى أنحاء أوروبا قبل حوالي 900 سنة. [6]

المراجع

[1] Sengupta, Sanghamitra, et al. “Polarity an d temporality of high-resolution y-chromosome distributions in India identify both indigenous and exogenous expansions and reveal minor genetic influence of Central Asian pastoralists.” The American Journal of Human Genetics 78.2 (2006): 202-221.

[2] Family Tree DNA, Haplogroup Story – The H-M82 Story

[3] Rohrlach, Adam B., et al. “Using Y-chromosome capture enrichment to resolve haplogroup H2 shows new evidence for a two-Path Neolithic expansion to Western Europe.” Scientific Reports 11.1 (2021): 15005.

[4] Fu, Qiaomei, et al. “Complete mitochondrial genomes reveal Neolithic expansion into Europe.” PloS one 7.3 (2012): e32473.

[5] Lipson, Mark, et al. “Parallel palaeogenomic transects reveal complex genetic history of early European farmers.” Nature 551.7680 (2017): 368-372.

[6] Mendizabal, Isabel, et al. “Reconstructing the population history of European Romani from genome-wide data.” Current Biology 22.24 (2012): 2342-2349.

نشر هذا المقال ضمن مجلة العلوم الحقيقية العدد 56 وراجعته لغوياً ريام عيسى