الميتوكوندريا “دولة داخل دولة”، جسم يتواجد داخل الخلية لكنه غريب، له مادة نووية ويبدو وكأنه خلية أخرى تستوطن في الخلية الحية. متى ظهرت في الكائنات الحية؟ ما هي وظائفها الأخرى؟ كيف يُمكن أن تتسبب بشيخوخة مبكرة والاصابة بالسكري والفشل الكلوي والوفاة المبكرة في حالات معينة؟

رابط المقال على الموقع: https://real-sciences.com/?p=13726

لقراءة نص الحوار في المجلة: العدد 42 من مجلة العلوم الحقيقية.

رابط البودكاست على جوجل بودكاست

حوارنا لهذه المرة في بودكاست العلوم الحقيقية هو مع الدكتور علي البهادلي، بكالوريوس وماستر في العلوم الصيدلانية من جامعة جوتنبرج ودكتوراه من نفس الجامعة في البيولوجيا الجزيئية والكيمياء الحيوية وقد ناقش رسالة الدكتوراه مؤخراً في مجال استنساخ الحمض النووي للميتوكوندريا وهي موضوع حديثنا في هذا البودكاست.

أهلا وسهلا بك عمر وبالمستمعين الأعزاء، من سعادتي ان اتواجد في هذا البودكاست وأن اتواصل مع متابعي العلوم الحقيقية.

شكراً جزيلاً لحضورك، وانا متشوق للبدء بالموضوع، الفكرة الأولى او السؤال الأول لدي هو ما هي قصة الميتوكوندريا، نرى أن هناك حمض نووي للميتوكوندريا، يبدو الأمر وكأن هناك دولة داخل دولة، خلية داخل خلية؟ فما هي القصة؟

جميعنا نذكر في كتب العلوم ما يسمى ببيوت الطاقة أو المتقدرات او الميتوكوندريا بحسب اختلاف التسميات وهي واقعا جزء من العضيات الموجودة في الخلايا. يعود اكتشافها الى سنة 1857 على يد العالم البيرت فون كوليكر (Albert von Kölliker). ظهر تحت المجهر في حينها ان هناك شيء اشبه بالخيوط. لكن هذه الخيوط بقيت مجهولة حتى سنة 1898 عندما أعطيت الاسم ميتوكوندريا على يد العالم كارل بندة (Carl Benda). وتسمية ميتوكوندريا تعني المتقدرات الخيطية. والميتوكوندريا كما يوحي اسمها بالعربية هي المركز الذي تصنع به اهم جزيئة او العملة للطاقة في الجسم وهي الادينوسين ثلاثي الفوسفات (ATP). والاي تي بي هو بمثابة العملة في الطاقة للعمليات الحيوية المختلفة، مثلما ان الدولار في العالم اليوم هو العملة في الكثير من العمليات الاقتصادية.

أصل الميتوكوندريا بقي مجهولاً حتى جاء آلتمان (Richard Altmann) الذي بحث في أصول الميتوكوندريا، وبعد تحليله لشكلها – في وقت لم تتوفر فيه الأجهزة الحديثة اللازمة – اسماها بالخيوط الشبيهة بالأحياء المجهرية (bioblasts) أو الأرومات الحيوية. وأصل الميتوكوندريا حتى الآن يقترب من ملاحظة آلتمان في ذلك الوقت وهي كونها شبيهة بالأحياء المجهرية أو كأنها خلية داخل الخلية، فهي قد تكون خلية هاجمت خلايا الكائنات الحية متعددة العضيات في وقت ما في تاريخ سحيق. وفي العام 1963 حاول كل من مارغريت وسيليفان ناس (Margit and Sylvan Nass) ان يفهما الميتوكوندريا في أجنة الدجاج، وقد رأوا أن هذه العضيات تحمل حمضاً نووياً خاصاً بها، وهنا كان الاكتشاف الكبير بأن لهذه العضيات حمضها النووي الخاص بها المنفصل عما موجود في النواة الاعتيادية.

هناك مجال آخر قد يعلمون بهذه القصة، وهم المختصون بفحوصات الحمض النووي الذين يستخدمون هذا الحمض النووي في تتبع سلالة الأمهات، فهل هو قادم من الأم؟

المميز بهذا الحمض النووي هو أننا نرثه عن طريق الأم فقط. وهناك نظريتان لتفسير ذلك، الأولى ما يصب حول أن استنساخ الحمض النووي للميتوكوندريا يكون محدوداً جداً اثناء تكوين النطف، اما الثانية فهي أنه رغم قلة الميتوكوندريا في خلايا الحيوانات المنوية فإن هناك آلية خاصة لتكسير الحمض النووي القادم من ميتوكوندريا الرجل بعد التخصيب. وبذلك يمكن للعلماء أن يتتبعوا خط وراثة الأمهات عبر الحمض النووي للميتوكوندريا ومعرفة أنها قادمة من الأمهات وهناك تسمية شعبية للميتوكوندريا (عضية حواء) لأنها آتية عن طريق الأم فقط. رغم ذلك، حتى الان الدراسات لم تظهر السبب الرئيسي لوجود الميتوكوندريا من الأمهات فقط. لكن لو حللنا مقدار بيوت الطاقة بين النطف والبيوضات، لوجدنا بحدود 100 ألف نسخة من الحمض النووي للميتوكوندريا في البويضات بينما في النطف هناك فقط خمسة آلاف نسخة. إذاً هناك نوع من السيطرة من خلال العدد. تفسير وجود هذا العدد الكبير من نسخ الحمض النووي هو عدم وجود آلية لإصلاح الحمض النووي في الميتوكوندريا فنجد ذلك التراكم في تلك النسخ. لذا وللسيطرة على الطفرات الوراثية في الحمض النووي للميتوكوندريا صار هناك نوع من الانتقال الأحادي للجينات والذي يمكن تفسيره أيضاً بنشوء الميتوكوندريا التي نجدها شبيهة بخلايا البكتيريا البدائية وهذا ما يعزز الفرضية بأنها كانت خلية اقتحمت الخلية الحية، وصارت جزءاً منها.

متى حدث ذلك؟ ما هي الكائنات التي نتوقع ان نجد فيها الميتوكوندريا؟

جميع الحيوانات التي تملك نواة للخلية او عضيات الخلية والتي تختلف عن البكتيريا والكائنات البدائية، جميع هذه تمتلك الميتوكوندريا، فقط هناك نوع من الأسماك لا تمتلك الميتوكوندريا بالصيغة التي نعرفها بها لكنها تمتلك ذات الجينات الموجودة لدى الميتوكوندريا في الانسان بنواة خلاياها. أيضا هناك نوع من الأسماك لديها نوع من الميتوكوندريا لكن دون وظائف.

يعني نحن نتكلم عن أمر حدث في الفقريات؟

أو ما قبل الفقريات ربما، إذ يمكن ان نجد الحمض النووي الموجود لدى الميتوكوندريا في الخميرة. لديها ميتكوندريا ذات جينوم معقد جداً.  متى حصل ذلك التطور؟ ما زال النقاش محتدما حول هذا الأمر، فمعرفتنا بهذا المجال ما زالت محدودة ولا يعتبر هذا المجال من المجالات غزيرة الأبحاث، فلم نكتشف الميتوكوندريا حتى عام 1963 ولم تحلل جيناتها حتى عام 1983. لكن نظرية البكتيريا التي هاجمت الخلايا البدائية واندمجت بها هي النظرية الأكثر شيوعاً.  لو حللنا الجينات الأخرى الموجودة في الميتوكوندريا لوجدنا أنها من الصعب أن تنتقل عبر الغشاء البلازمي، لذا يعتقد ان الخلايا بقيت محافظة على الخلايا المنتجة للطاقة بداخلها لانه كان من الصعب انتقال تلك الجينات الى النواة. لكن الموضوع ما زال مجهولاً في الكثير من نواحيه وما زال محل نقاش.

هل الميتوكوندريا مخزن أم مصنع للادينوسين ثلاثي الفوسفات؟

الميتوكوندريا هي المصنع الأساسي لعملة الطاقة الادينوسين ثلاثي الفوسفات. لكن لو بحثنا أكثر فيما وصل اليه العلماء في السنوات السابقة لوجدنا أنها محطة مهمة للكثير من العمليات الأيضية، مثلا عملية تدوير البروتينات، كما نعلم تتكون البروتينات من عقد من الاحماض الأمينية. تتكسر البروتينات الى احماض امينية ثم نحتاج إعادة استخدام الاحماض الامينية بعد إزالة بعض الجزيئات منها، من يقوم بهذه المهمة هي الميتوكوندريا. لذا فإن كثيرا من الامراض الايضية تظهر لدى المصابين بخلل في الميتوكوندريا. أيضاً تدوير الحديد والجزيئة الأولى للهيموغلوبين تصنع في الميتوكوندريا. وتبرمج الميتوكوندريا عملية الموت المبرمج للخلايا. هناك في الميتوكوندريا مكونات تشبه المقصات، وعند حلول موعد الموت المبرمج للخلايا تخرج تلك المقصات من خارج غشاء الميتوكوندريا ثم يبدأ الموت المبرمج. هناك عدة وظائف إذا، لكن الوظيفة الأساسية هي عملية انتاج عملة الطاقة “الاي تي بي”.

هذه الوظائف التي ذكرتموها، هل الميتوكوندريا هي الجزء الوحيد التي يقوم بها؟ شاهدنا سابقاً آليات لها بدائل أخرى في جسم الانسان، فلو لم تكن الميتوكوندريا موجودة الن يكون هناك أي تي بي؟ الن نكون قادرين على امتصاص الحديد او استخدام البروتينات او خسارة الية معينة في الموت الخلوي؟

هناك مدرسة تميل الى ان الميتوكوندريا هي عضية ثانوية، وهناك من يرى أنها أساسية. لكن ما اثبتته الدراسات انه دون الميتوكوندريا لن يكون هناك أي تي بي. من يحملون طفرات شديدة في الميتوكوندريا تؤدي الى إيقاف انتاج الاي تي بي مثلما أحدث في بعض الفئران يتوفى هؤلاء بسرعة كبيرة، يمكن أن تحدث الوفاة خلال 3-4 أسابيع مثلما حدث في تلك الدراسة حول الفئران. وسبب عدم وجود حالات كهذه لدى البشر هو أن الامر ذاته يحدث مع البشر حيث يموتون مبكراً جداً. اما الموت المبرمج فتتم السيطرة عليه من عدة أماكن في الخلية، لذا من الممكن ان يحدث الموت الخلوي لدى بعض المرضى الذين لا يمتلكون تلك المقصات الآتية من الميتوكوندريا لكنهم يعانون من الشيخوخة المبكرة. أيضاً يحدث الامر ذاته مع الفئران. اما البروتينات، فهناك مصادر أخرى يمكن ان تحل محل الوظيفة التي تقوم بها الميتوكوندريا لكن هناك قضية مهمة يمكن ملاحظتها لدى المرضى الذين يعانون من طفرات في الميتوكوندريا بهذا الجزء هو أنهم يعانون من ارتفاع نسبة اليوريا وذلك نتيجة لتصريف الاحماض الامينية لعدم وجود إمكانية لاعادة تدويرها بواسطة الميتوكوندريا. لكن تبقى عملية انتاج الـ ATP  هي العملية التي لا يُمكن العثور على بديل لها.

واربورغ (Otto Warburg) في الثلاثينات عمل على قضية البيئة المحيطة بالسرطانات ناقش بأن الخلية السرطانية كانت تستغني عن الميتوكوندريا ولا تحتاج الى الاي تي بي. ويتم توفير الطاقة عن طريق عمليات بديلة مثل حرق الدهون وغيرها. وقد حصل على جائزة نوبل في وقتها فيما عرف بتأثير واربورغ (The Warburg Effect). لكن هذه النظرية بدأت بالخفوت والتراجع في 2008 بعدما رأوا انه عند تثبيط الميتوكوندريا في الخلايا السرطانية فإن هناك أثر على نمو الخلايا السرطانية. في ديسمبر 2020 نشرت مجموعتنا البحثية بحثاً في مجلة نيتشر عن مواد صغيرة جداً تستهدف الحمض النووي للميتوكوندريا تساعد تلك المواد في انهاء الخلايا السرطانية في سرطان الدم في الفئران. وهناك مشروع لتقديم ذلك العمل كجزء من دواء جديد ضد السرطان. إذاً نظرية واربورغ هي تحت المجهر اليوم في التساؤل حول إمكانية عيش الخلايا السرطانية دون الميتوكوندريا. وانا كباحث متحيز للميتوكوندريا اميل الى القول انه يتعذر للخلية ان تعيش دون ميتوكوندريا حتى وان كانت خلية سرطانية.

اود اغتنام الفرصة للسؤال عن الطاقة لاسيما وانني أقوم بكتابة سلسلة عن الطاقة في الجسم، وعن العمليات الثلاث للحصول على الطاقة. هل تلعب الميتوكوندريا دوراً في جميع هذه العمليات؟ مثلا هل ستحتاج الخلايا الى الميتوكوندريا في تكسير الدهون؟

بعد تكسير سلسلة بيتا في الدهون تتم اكسدتها، ما يعرف باكسدة سلسلة بيتا. وهذه الاكسدة تتم في الميتوكوندريا ايضاً. إذا لا مفر من الميتوكوندريا.

ننتقل الى مجال آخر، استنساخ الحمض النووي داخل الميتوكوندريا، نذكر من الدراسة الإعدادية ان موضوع استنساخ الحمض النووي كان معقداً جداً، لكننا هنا نجد هناك لاعبين آخرين في عملية الاستنساخ، فأيهما أعقد من عمليتي الاستنساخ وما هي قصة استنساخ الحمض النووي للميتوكوندريا باختصار؟

الحمض النووي للميتوكوندريا يختلف عما موجود في نواة الخلية اذ انه صغير جداً، والحمض النووي الموجود في نواة الخلية والذي يشكل 99% من الحمض النووي هو خطي وهو ينتج 25 ألف جين اما الحمض النووي للميتوكوندريا فيكون دائري وهو ينتج 16 جين فقط وشكله الدائري يشبه الحمض النووي الموجود في البكتيريا. لكن رغم بساطة الحمض النووي للميتوكوندريا لكن منذ 1963 حتى اليوم يتم البحث في كيفية استنساخه وهناك نظريات عدة في ذلك. لكن بشكل عام فإنه لاستنساخ أي حمض نووي هناك انزيمات تسمى البوليمريز ووظيفتها استنساخ الحمض النووي. ونحتاج أيضاً إلى ما يعرف بالهيليكاز (Helicaseٍْ) والذي يعد مطلوباً لفتح الخيط المزدوج للحمض النووي. ولبدء عملية الاستنساخ بشكل عام، ستحتاج الى نقاط محددة من الرنا، ولن يبدأ أي نسخ للحمض النووي دون وجود تلك النقاط من الرنا. هذه الخيوط من الرنا كانت موضع بحثي، لاسيما حول كيفية نشوؤها وما يحدث لها بعد الاستنساخ. وتتلخص أهمية تلك الخيوط من الرنا التي تبدأ بالاستنساخ بما سنعرفه في القصة التالية. اكتشف المركز التخصصي لأمراض الميتوكوندريا بكامبرج في سنة 2015 عائلة تعاني من زيادة كبيرة عدد خيوط الرنا المستخدمة في البدء بعملية الاستنساخ، وهذا يؤدي الى كثرة استنساخ الحمض النووي للميتوكوندريا. أفراد هذه العائلة كانوا يعانون من السكري، وامراض الكلى والشيخوخة المبكرة والوفاة لأطفالهم بعمر 15 سنة.

في الأحوال العادية يجب أن يزال الرنا المسؤول عن الاستنساخ بعد تمام الاستنساخ، فهو أشبه بزر مكتوب عليه ابدأ الاستنساخ. ويجب أن ترفع يدك عنه بعد حدوث الاستنساخ لكن لدى هذه العائلة فإن هذا الزر مضغوط دائماً فكانت تحدث الشيخوخة المبكرة.

أخذنا من هؤلاء عينات من الجلد وقمنا بزراعتها في المختبر ثم قمنا بتنقيتها بعملية معقدة نوعاً ما لتنقية الميتوكوندريا، ثم لاحظنا أن هناك الكثير من حالات الحذف والاستنساخ في الحمض النووي والناتجة عن الخلل في الرنا المسؤول عن الشروع بالاستنساخ. ثم حاولنا البحث عن البروتين المسؤول عن الخلل في الرنا الذي يبدء عملية الاستنساخ، ونتيجة للتشابه بين الميتوكوندريا والبكتيريا فقد بحثنا في أنواع من البكتيريا عن بروتين مشابه ووجدنا بالفعل البروتين المسؤول عما يجري والذي يعمل كعمل المقص للرنا. كان هذا هو الريبونيوكليز H، وبحثنا كان يتركز حول عمل هذا الريبونيوكليز والخلل الحادث فيه.

يعني هل كانت الميتوكوندريا تتكاثر باستمرار لدى افراد هذه العائلة؟

هنا قضية مهمة، الميتوكوندريا لا تتكاثر هنا، بل يستنسخ الحمض النووي الخاص بها مجدداً بمعدل فوق المعتاد، وهذا يؤدي الى ذهاب الخلية الى الموت المبرمج.

الخلية معدة للاستنساخ نفسها عدة مرات ثم تبدأ علائم الضعف والشيخوخة اليس كذلك؟

نعم، لكن عملية الاستنساخ غير الطبيعية كانت تُفهم الخلية بأن موعد الموت المبرمج قد تم، وهذا يؤدي الى الشيخوخة المبكرة لدى هؤلاء والموت المبكر.

تقنيا وكشخص غير مختص بمجالكم ينتابني الفضول تجاه كيفية قيامكم بالأمر، فالخلية بحد ذاتها هي امر بالغ الصغر وأنتم تتعاملون مع أجزاء من أجزاء صغيرة منها؟

بشكل مبسط، أكثر ما نقوم به يعتمد على اخذ جزء من جلد الشخص المصاب بمرض ميتوكوندريا معين ثم نقوم بزراعته [هل تزرعونه مثلما يحدث في أبحاث الخلايا الجذعية؟] كلا نقوم بذلك بواسطة الخلايا الليفية الموجودة في الجلد. نعطي لتلك الخلايا البيئة الضرورية للنمو في المختبر بأعداد هائلة تصل الى مليار و500 مليون خلية من خلية واحدة مما يؤدي الى ان تستغرق عملية الزراعة وقتاً طويلاً يصل الى ثلاثة أشهر. ثم نقوم باستخلاص الميتوكوندريا من تلك الخلايا ودراسة الحمض النووي للبكتيريا. لكن ما يميز بحثنا هو أننا استطعنا لأول مرة أن ندرس العملية باستخدام البكتيريا وذلك بجعلها مصنعاً لتلك الانزيمات المؤثرة واستنساخ الحمض النووي للميتوكوندريا خارج الخلية – أي في البكتيريا – مثلما كنا نتصورها. كنا نعرف مسبقاً ان هناك متطلبات معينة تحتاجها الميتوكوندريا للقيام بعملية الاستنساخ فقمنا بتوفيرها للبكتيريا لتقوم بهذا العمل خارج الخلية. وهذا كان اثباتا لصحة النظرية أن هذه المواد كانت تمثل كل ما تحتاجه الخلية للقيام بالاستنساخ. بعدها فحصنا المرضى جينياً ووجدنا خللاً حقيقياً في  الريبونيوكليز (المقص) مثلما رأينا في البكتيريا بالتجارب. ربما بعد 25 سنة قد يكون هذا هو القاعدة الأساسية لتطوير أدوية خاصة بأمراض الميتوكوندريا.

لماذا ظهر مرض السكري والفشل الكلوي لدى المصابين بأمراض الميتوكوندريا، لماذا لم تظهر حالات أخرى؟ فهمنا الشيخوخة المبكرة لكن لم نفهم سبب ظهور هاتين الحالتين

عدد جزيئات الحمض النووي للميتوكوندريا تختلف بحسب نوع الخلايا. ففي خلايا البنكرياس هناك قرابة 100 الف جزيئة للحمض النووي. لذا فإن الخلايا التي تمتلك عدد كبير من الحمض النووي للميتوكوندريا تكون غالبا خلايا منتجة للطاقة او مستهلكة للطاقة وسيظهر أي خلل في الميتوكوندريا على تلك الخلايا قبل غيرها لان عدد جزيئات الحمض النووي فيها كبير جداً.

وهل ينطبق ذلك على الكلية أيضاً؟

نعم، وبالنسبة للكلية فإن السبب في ذلك يتعلق بعملية تدوير الأحماض الأمينية التي تقوم بها الميتوكوندريا أيضاً. كثرة تراكم الأحماض الأمينية في الكلية سيسبب مشاكل فيها أيضاً. وسبب ظهور الجلطات القلبية لدى المصابين بتلك الأمراض هو لأن عضلة القلب لها خلايا تستهلك الكثير من الطاقة. فنجد المصابين بتلك الأمراض يعانون من أزمات قلبية.

لو كان هناك سبيل لمعالجة أمراض الميتوكوندريا فكيف سيكون العلاج؟

بحسب ما نمتلكه من أدوات المعرفة حول امراض الميتوكوندريا فإنه لا يوجد علاج حتى الآن والأمر صعب لعدة أسباب أولها قلة عدد المرضى لأن الطفرات تلك غالبا ما تكون مبكرة في فترة مبكرة من حياة الجنين، هناك 1 من 140 ألف شخص فقط يصاب بتلك الحالات. وهذا يقلل من تسليط الضوء عليها من قبل شركات الأدوية. أما السبب الثاني فهو صعوبة الوصول للميتوكوندريا، فلو أراد البعض انتاج دواء لأمراض الميتوكوندريا فإن الأمر يستغرق أشهر للقيام باستخلاص الميتوكوندريا. الافاق إن وجدت فستكون عبر العلاجات الجينية. لكن سنحتاج الى علاجات جينية متطورة جداً.

هل يمكن أن ينفع كريسبر كاس في أمراض الميتوكوندريا؟

هناك مشكلة في امراض الميتوكوندريا هي أنه لا يمكن استخدام تقنية كريسبر كاس معها، لأن هناك غشاءان يحيطان بالميتوكوندريا وسيتم قطع أي شي يدخل الى الميتوكوندريا عبر المقصات التي ذكرناها في الموت المبرمج للخلايا. لكن هناك تقنية تعرف بمايتوتالن (MitoTALEN)، وهي تستخدم انزيمات معينة تلصق بها إشارة لإيهام المقصات بأن هناك انزيم تابع للميتوكوندريا بدلا من استخدام الحمض النووي او الرنا. لكن هذا ما زال قيد التطوير وقد يحتاج سنوات عديدة قبل الوصول الى السوق.

ذكرتم حالة تودي بحياة أصحابها وحالات جدية، لكن هل يمكن ان تكون هناك حالات أكثر شيوعاً وأقل حدة وتعود لمسببات مرتبطة بآلية عمل الميتوكوندريا؟

عندما اجيب على هذا السؤال فسأكون متحيزا للميتوكوندريا، فالميتوكوندريا غائبة عن مفهومنا لمسببات الأمراض ليس لأنها ليست مسبب فعلي بل لصعوبة كشف ذلك. ولو درسنا لوجدناها ضمن المسببات في بعض الحالات. والسبب في جهلنا بالأمر هو قلة التمويل لهذه الحالات. على سبيل المثال وجد بدراسة أجريت على الاف الأطفال المصابين بالتوحد أنه كان هناك خلل في الميتوكوندريا لدى هؤلاء. باختصار، الأدوات التشخيصية ما زالت غير كافية.

هناك حالات قد لا تكون مرضية، لكن هل يمكن أن تكون هناك تباينات في طاقة الأشخاص ونشاطهم مرتبطة بكفاءة الميتوكوندريا؟

ذكرت انه في حال وجود خلل في الميتوكوندريا فلن يتم اصلاح الخلل، بل سيتم اتلاف الحمض النووي ذو الخلل، لذا سنجد الكثير من جزيئات الحمض النووي للميتوكوندريا نتيجة هذا. مع التقدم في العمر قد يكون هناك عدد قليل جداً من جزيئات الحمض النووي لدى الأشخاص الذين يكون معدل اتلاف الحمض النووي أكبر من انتاجه وهذا قد ينتج تباينات بين الطاقة لدى الأفراد وارتباط الشيخوخة بالميتوكوندريا.

سؤال أخير قبل الختام، هل تحدث اضرار الميتوكوندريا قبل الولادة أم بعد الولادة؟

نرجع إلى قضية عدم وجود ماكنة لإصلاح الحمض النووي للميتوكوندريا والذي يجعلها أكثر عرضة لمشاكل ما بعد الولادة والتي قد تكون أكثر من مشاكل ما قبل الولادة. باعتبار أن الجنين ذو المشاكل الكبيرة في الميتوكوندريا قد يموت بشكل مبكر أساساً. هناك دراسة نشرت حديثاً ربطت بين حدوث الالتهابات في الجسم وبين ارسال إشارات تؤدي بالميتوكوندريا لإتلاف ذاتها، والعكس عندما تبدأ الميتوكوندريا بإتلاف نفسها يتم ارسال إشارات معينة للجهاز المناعي. وهناك قضية الجزيئات الحرة أيضاً والتي يمكن ان تأتي عن طريق التدخين وغيره وأن تؤثر على صحة الميتوكوندريا. وهناك نوع آخر من المؤثرات، وهو الصلة بين أدوية معينة تستخدم بشكل يومي وبين الاضرار الحاصلة على الميتوكوندريا. أيضاً، بعض المضادات الحيوية مثل الأمينوغليكوزيد (Aminoglycoside) لو استخدم بشكل متكرر دون سبب ودون وصفة الطبيب فإنه سيؤدي الى اضرار بالميتوكوندريا. باختصار هناك اضرار للتدخين واضرار من الأدوية وأضرار من التقدم في العمر.

شكراً لكم، نتمنى أن نعقد حواراً آخر في أقرب انجاز بحثي لكم ولعل بعض وسائل دراسة الميتوكوندريا تتقدم حتى ذلك الحين.

شكراً لكم على الاستضافة وآمل أنني قد كنت خفيف الظل على المستمعين أيضاً.