تجارب جون كالهون (John Calhoun) على الفئران والجرذان
تعني كلمة يوتوبيا (Utopia) مكان خيالي يعيش فيه مجتمع في ظروف مثالية نتيجة العدالة والمساواة في نظام الحكم والمعيشة الاجتماعية والاقتصادية. نشر جون كالهون عام 1973 دراسة يشرح فيها التجارب التي قام بها في الخمسينات والستينات وما تقود إليه فيما لو توفرت الظروف المثالية للكائن الحي مع الاكتظاظ السكاني وزوال التحديات مثل نقص الموارد والافتراس والأمراض مسببات الهجرة فضلاً عن الطقس. كثير من التجارب التي تجري على الكائنات الحية تختبر حياة الأفراد في ظل نقص عامل ما من الغذاء أو في ظل الخوف أو زيادة درجة الحرارة، لكن التجربة المعروفة بـ “كون25 ” اختبرت ما هو عكس ذلك، وعلى مستوى اجتماعي، كيف ستكون الحياة في الاكتظاظ السكاني والظروف المثالية؟
اول تحدي يواجه الكائن هو الهجرة، حيث أن الأفراد الذين يفشلون في الحصول على حق البقاء في الموطن الذي ولدوا فيه يضطرون إلى النزوح إلى أماكن أقل من المستوى المطلوب وبالتالي يصبحون عرضة أكثر للموت.
ثم نقص الموارد متمثلاً بقلة الطعام أو الشراب التي تهدد بالموت، لأن نقصهما يؤدي إلى المرض ونقص في تكاثر الأنواع. أما الطقس فقد طور كل نوع من أنواع الحيوانات تكيفًا جينيًا مع مجموعة معينة من الظروف الخارجية التي تؤثر على فسيولوجيا هذا الحيوان. أي أن ظروف الرياح أو المطر أو الرطوبة أو درجة الحرارة التي تتجاوز الحدود المعتادة تؤدي إلى الوفاة على الفور أو تزيد من خطر الوفاة. ولا ننسى تأثير الفيضانات والحرائق التي تؤدي إلى تغيرات كارثية لها تأثيرات واسعة النطاق وطويلة الأمد على أعداد السكان.
أزال جون كالهون جميع تحديات البقاء التي يمكن أن يواجهها الفئران، حتى أطلق على المكان الذي يعيش فيه الفئران تسمية الجنة
المرض: على الرغم من أن معظم الحيوانات تكتسب بعض القدرة على تحمل الطفيليات والبكتيريا والفيروسات التي تغزو أجسامها، إلا أن معظم الأنواع لا تزال عرضة للهلاك الوبائي بالإضافة إلى الاستنزاف الطبيعي من المرض. كما أن الكثافة العالية بشكل غير طبيعي تزيد من احتمالية انتشار المرض. ثم يأتي الافتراس؛ في كل الأنواع، خلال مسيرة التطور، توجد حيوانات مفترسة مهددة لها قادرة على قتل بعض أفرادها.
رغم الموت نتيجة العوامل السابقة إلّا أن بعض الأفراد ثابر على البقاء، نتيجة تطوير استراتيجيات جديدة للتكاثر و لتعويض الخسائر.
ما قام به كالهون بناء على ذلك في العديد من التجارب على الفئران والجرذان هو خلق بيئة مثالية مثبطة لعوامل الوفاة وللمصاعب السابقة. لمنع الهجرة مثلاً صنع مسكن مثالي للفئران مؤلف من جدران يصعب على الفئران تسلقها وتتوفر فيه مساحة كافية للعدد المستخدم في التجربة بالإضافة إلى توفير الكثير من موارد الطعام والشراب مع إمكانية الوصول إليها بسهولة. ثم ضبط كالهون البيئة من خلال التحكم بدرجات الحرارة خلال أوقات الشتاء والصيف وإبقائها مناسبة مثالية بما يناسب حياة الفئران. كما قام كالهون بالسيطرة على الأمراض من خلال التغيير المستمر للطعام واجراء الفحوصات الدورية المستمرة واتباع الاحتياطات القصوى لمنع انتشار الأمراض الوبائية بين الفئران. أما الفئران التي اختارها للتجربة فقد كانت عبارة عن نخبة خالية من الأمراض أُخذت من مستعمرة التكاثر التابعة للمعاهد الوطنية للصحة. وبالتأكيد لم يكن هناك حيوانات مفترسة. أطلق كالهون على هذا المكان (الجنة).
بعد 104 يوماً من الاضطرابات لحين تعرّف الفئران على عالمها الجديد، بدأت بالتكاثر. في جنتهم المجهزة بالكامل، ازداد عدد السكان بشكل كبير، حيث تضاعف كل خمسة وخمسين يوماً. عاشت أعداد كبيرة من الفئران حتى عمر 800 يوم، أي ما يعادل 80 عاماً للإنسان. كانت تلك هي الأوقات الجيدة. لكن بعد فترة بدأت الأمور تأخذ منحى آخر؛ وجدت الفئران نفسها في عالم أكثر ازدحاماً كل يوم، ومع وجود المزيد والمزيد من الأقران، وجد الذكور صعوبة مرهقة في الدفاع عن مساكنهم، لذلك تخلوا عن هذا النشاط. انهار السلوك الاجتماعي الطبيعي داخل مجتمع الفئران، وانهارت معه قدرة الفئران على تكوين روابط اجتماعية. ضحايا هذه الهجمات العشوائية تحولوا إلى مهاجمين. تُركت الإناث بمفردهن في أعشاش معرضة للغزو، وتخلت الإناث عن صغارهن. تراجعت معدلات الإنجاب، وارتفع معدل الوفيات. ارتفعت حالات الاعتداء والاعتداء الجنسي واكل الفئران الاخرى، انخفضت رغبة الذكور في ممارسة الجنس. ونظرًا لأن السكان توقفوا عن تجديد أنفسهم، كان طريقهم إلى الانقراض واضحًا.
أيضاً يذكر كالهون:
لم تستطع العديد من الإناث تحمل الحمل حتى النهاية أو البقاء على قيد الحياة عند الولادة هذا لو وصلوا إلى ذلك. وإذا ما تمت الولادة بنجاح فإن عدداً أكبر من الإناث كن مقصرات في واجبات الأمومة. أما الاضطرابات السلوكية بين الذكور فقد تراوحت من الانحراف الجنسي [كما يصطلح كالهون] إلى سلوك أكل لحوم الفئران الأخرى ومن النشاط المفرط إلى الانسحاب حيث يخرج الأفراد للتنقل وتناول الطعام والشراب فقط عندما يكون أفراد المجتمع الآخرون نائمين. كما أظهر النظام الاجتماعي اضطرابًا مماثلاً.
أصبح المصدر المشترك لهذه الاضطرابات أكثر وضوحاً في المجموعات السكانية في سلسلة تجاربنا الأولى المكونة من ثلاث تجارب، والتي لاحظنا فيها تطور ما نسميه بالبؤرة السلوكية. كانت الحيوانات تتجمع معًا بعدد كبير في احدى الحظائر الأربعة المترابطة التي تم تشكيل المستعمرة فيها. ما يصل إلى 60 من 80 من الفئران في كل مجموعة تجريبية كانت تتجمع في حظيرة واحدة خلال فترات التغذية. نادرًا ما كانت تأكل الفئران إلا بصحبة فئران أخرى. ونتيجة لذلك، نشأت كثافات سكانية شديدة قائمة على الأكل، تاركة مجموعات أخرى متفرقة.
… في التجارب التي تطورت فيها البؤرة السلوكية، وصل معدل وفيات الرضع إلى 96 في المائة بين الفئات الأقل انضباطاً من السكان.
يعتبر كالهون أن فقدان الفئران رغبتها في تنفيذ السلوكيات الطبيعية المتعلقة بالبقاء الفسيولوجي والتكاثر هو بمثابة الموت الأول (الموت الروحي) الذي أدى بدوره إلى العنف وبالتالي إلى الموت الثاني (الجسدي). وبرأيه يمكن أن تنطبق هذه النتائج على أي نوع من الثدييات التي تعيش ضمن مجموعات عند تقليص العوامل المميتة. التي تؤدي إلى زيادة مفرطة في عدد الأفراد. الأمر الذي يخلق جواً من التنافس بين الأفراد الجدد مع الأفراد الأكبر سناً في المجموعة. تتطور المنافسة لتصبح عنفاً يؤدي إلى الموت. وبالنسبة لحيوان شديد التعقيد مثل الإنسان، يرى البعض أنه لا يوجد سبب لعدم تسبب تسلسل مماثل للأحداث في انقراض البشر. سيؤدي فقدان هذه السلوكيات المعقدة عند البشر، كما كان عند فئران التجربة، في مجتمع ما بعد الصناعي والثقافي والمفاهيمي والتكنولوجي، إلى إنقراضهم.
يشبه البعض حالة هيكوموري (Hikikomori) الاجتماعية الناشئة لدى الشباب في اليابان بما تعاني منه الفئران التي تفضل الانعزال في تجربة “كون 25″، وفي حالة هيكوموري يعزف الشباب عن مخالطة المجتمع والعمل والدراسة ورؤية أي شخص ويعيشون في غرفهم لسنوات عديدة دون أن يكونوا مشخصين بالفصام أو الاضطراب ثنائي القطب أو الإعاقة الذهنية.
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يبني فيها كالهون عالماً للقوارض. حيث بنى بيئات مثالية للجرذان والفئران منذ الأربعينيات، وكانت النتائج متسقة تماماً. الجنة دائما تتحول إلى جحيم. كانت تجاربه بمثابة تحذير من ارتفاع عدد السكان في الولايات المتحدة والعالم. حذر علماء البيئة الرائدون مثل وليام فوكت (William Vogt) وفيرفيلد أوسبورن (Fairfield Osborn) من أن تزايد عدد السكان سيضغط على الغذاء والموارد الطبيعية الأخرى، وكلاهما نشر أكثر الكتب مبيعًا حول هذا الموضوع. كما نشر بول إيرليش (Paul Ehrlich) كتاب القنبلة السكانية، وهو عمل مثير للقلق يشير إلى أن العالم المكتظ على وشك أن تجتاحه المجاعات وحروب الموارد. بحلول عام 1972، وصلت القضية إلى ذروتها الرئيسية مع تقرير لجنة روكفلر حول السكان في الولايات المتحدة، الذي أوصى بإبطاء النمو السكاني أو حتى عكسه.
في كثير من الحالات لا يمكن أن نرى نفس التطابق بين معدلات الجريمة والاكتظاظ السكاني لدى البشر، فنرى مدن غير مكتظة ترتفع فيها معدلات الجريمة والعكس صحيح
ألهمت تجارب كالهون مجموعة كبيرة من أعمال الخيال العلمي مثل Soylent Green وComics، وأيضاً كتاب الأطفال لعام 1971 السيدة فريسبي والجرذان، والذي حُوّل إلى فيلم عام1982. لكن مثلما لاقت تجارب كالهون تأييداً وشعبيةً، لاقت أيضاً نقداً لاذعاً. أوضحت إنجليس آركيل (Inglis-Arkell) أن المساكن التي أنشأها لم تكن مزدحمة بالفعل، لكن هذه العزلة مكنت الفئران العدوانية من السيطرة. وأضافت أن” جنة كالهون لديها مشكلة توزيع عادل. وبالتالي ليست المشكلة بعدد السكان”. يمكننا أن نشعر بالراحة لأن البشر ليسوا فئراناً بطبيعة الحال.
يقول رامدسن(Ramdsen) “يمكن للبشر التأقلم. لم يُنظر إلى بحث كالهون على أنه مشكوك فيه فحسب، بل على أنه خطير أيضاً”. يذكر عالم الرئيسيات فرانس دي وال في سلسلة مقالات بموقع ساينتفك امريكان أن الحالات المشابهة لدى الرئيسيات كالبشر والقردة العليا الأخرى لا تعطي نفس الاقتران بين الكثافة السكانية والجريمة، بعض المناطق في الولايات المتحدة ترتفع فيها الجريمة بمعدلات كبيرة لكنها ليست مكتظة على الاطلاق والعكس صحيح في مناطق أخرى.
ومن التجارب التي تأثرت بهذه الدراسة تجربة بارك الفئران (Rat Park) الذي اختبر استهلاك المخدرات لصنفين من أصناف السكن للفئران، العيش باقفاص منفصلة أم بمستعمرة، حيث وصل استهلاك الفئران المنعزلة لمخدر المورفين الممزوج مع الماء 16 مرة أكثر مما هو عليه لدى فئران المستعمرة وللإناث أكثر من الذكور وذلك بعد أن منح العلماء الفئران الخيار بين تناول الماء لوحده أو الماء المخلوط بالمورفين.
أجمع الباحثون بأن “عمل كالهون لم يكن يتعلق فقط بالكثافة بالمعنى المادي، كعدد الأفراد في كل وحدة مربعة من المساحة، ولكن كان حول درجات التفاعل الاجتماعي. يضيف رامسدن أن الانحلال الأخلاقي لا يمكن أن ينشأ من “الكثافة، ولكن من التفاعل الاجتماعي المفرط”. لم يكن هناك ندرة في الطعام والماء في عالم كالهون. الشيء الوحيد الذي كان ينقصه هو المساحة.
لم يقدم لنا عمل كالهون إجابات، ولكن من النادر أن تتمكن أي دراسة أو سلسلة من الدراسات من استخلاص استنتاجات متشابهة. كما أنه لا يمكن الانكار أن تجربته كانت ومازالت محفزاً للكثير من التجارب والكثير من الخيالات.
المصادر:
Death Squared: The Explosive Growth and Demise of a Mouse Population by John B Calhoun MD (Section on Behavioral Systems, Laboratory of Brain Evolution & Behavior, National Institute of Mental Health, 9000 Rockville Pike, Bethesda, Maryland 20014, USA) 1973
Fessenden, M. (2015). How 1960s Mouse Utopias Led to Grim Predictions for Future of Humanity. Smithsonian Magazine. https://www.smithsonianmag.com/smart-news/how-mouse-utopias-
Wiles, W. (2011). The Behavioral Sink | Will Wiles. Cabinetmagazine.org. https://www.cabinetmagazine.org/issues/42/wiles.php
Hadaway, Patricia F., et al. “The effect of housing and gender on preference for morphine-sucrose solutions in rats.” Psychopharmacology 66.1 (1979): 87-91
Frans De Waal, “Frans de Waal on the human primate: Is it “behavioral sink” or resource distribution?”, July 21, 2010, scientificamerican.com
إعداد: رؤى الشيخ، عمر المريواني