ضيفنا لهذه الحلقة هو الدكتور أحمد عليوة، درس التكنلوجيا الحيوية في جامعة القاهرة بين الأعوام 1997 و 2001 ليغادر نحو الولايات المتحدة بعدها لدراسة الماجستير حيث درس بمختبر كريغ ميلو (Craig Mello’s lab, University of Massachusetts Medical School) ورسالة الماجستير خاصته كانت بعنوان دور ترميز الحمض النووي بتمييز الأديم في دودة الربداء الرشيقة (C. Elegans) وقد أنهى دراسة الماجستير هناك في العام 2007 ثم شرع بدراسة الدكتوراه في ذات المختبر وكانت أيضاً دراسة الدكتوراه له حول أحد البروتينات لدى أجنة دودة الربداء الرشيقة. أنهى دراسة الدكتوراه في العام 2014، ليتجه الى السويد حيث يعمل زميلاً لأبحاث بعد الدكتوراه في مؤسسة كارولينسكا.

الرابط على موقع العلوم الحقيقية: https://real-sciences.com/?p=28035

على جوجل بودكاست

على آبل بودكاست

نشرنا نص اللقاء في العدد 54 من مجلة العلوم الحقيقية وأدناه نص الحوار:

ضيفنا لهذه الحلقة هو الدكتور أحمد عليوة، درس التكنولوجيا الحيوية في جامعة القاهرة بين الأعوام 1997 و 2001 ليغادر نحو الولايات المتحدة بعدها لدراسة الماجستير حيث درس بمختبر كريغ ميلو (Craig Mello’s lab, University of Massachusetts Medical School) وكانت رسالة الماجستير خاصته بعنوان “دور ترميز الحمض النووي بتمييز الأديم في دودة الربداء الرشيقة (C. Elegans)” وقد أنهى دراسة الماجستير هناك في العام 2007 ثم شرع بدراسة الدكتوراه في ذات المختبر وكانت أيضاً دراسة الدكتوراه له حول أحد البروتينات لدى أجنة دودة الربداء الرشيقة. أنهى دراسة الدكتوراه في العام 2014، ليتجه إلى السويد حيث يعمل زميلاً لأبحاث بعد الدكتوراه في مؤسسة كارولينسكا. أهلاً وسهلاً بكم د. أحمد.

 

شكراً لكم، أهلاً وسهلاً بك وبالمستمعين، أضيف فقط للسيرة هو أنني أعمل حالياً كباحث مستقبل في جامعة برشلونة باسبانيا وأقسم وقتي بين ستوكهولم وبرشلونة خلال السنة. ولي خط بحثي في برشلونة يختلف عن الخط البحثي في ستوكهولم إلى جانب بعض التدريس. 

 

كما لاحظنا في سيرتكم الذاتية، ولكل من يقرأ أبحاثكم، سنجد الكثير من الاهتمام بدودة الربداء الرشيقة التي نجد أنها مشهورة جداً حيث ترد في الكثير من الأبحاث وهناك الكثير من الاهتمام حولها في البحث العلمي، فلماذا تعد مهمة؟ 

تكمن أهمية النماذج الحيوانية بشكل عام في أن معظم التجارب والأسئلة البيولوجية يستحيل دراستها في الإنسان مباشرة، لذا يجب دراستها في كائن يشبه الإنسان إلى حد ما، لكن دون الدخول في تعقيدات أخلاقية أو قانونية بخصوص التجارب على الإنسان. وكذلك فإن الإنسان من أعقد الكائنات التي يمكن دراستها مختبرياً، لذا نلجأ لكائنات ابسط من الإنسان نستطيع من خلالها أن نفهم عمليات حيوية مختلفة، كما يمكن أن نقيس من خلال التشابه مع الانسان ما يمكن أن يحدث مع الانسان. 

كانت دودة الربداء الرشيقة كما تسمى باللغة العربية من ضمن الكائنات التي ظهرت على الساحة في أواخر الخمسينات والتي تعد فترة مهمة لأن تركيب الحمض النووي قد اكتشف وتم فهم كيفية حدوث الوراثة وأصبح الهدف هو فهم كيف أن الوراثة والحمض النووي يمكن أن يعملا في الخلية لخلق جنين. ليس هذا فحسب، بل يفعل في الكائن بعد نضوجه للتحكم بسلوكه وتصرفاته بشكل عام. لذا فإن مسألة السلوك والتطور للجهاز العصبي إلى جانب نمو الجنين عقبة كان يجب اقتحامها بعد اكتشاف الحمض النووي، وكان للربداء الرشيقة مزايا غير موجودة في نماذج حيوانية أخرى مثل الفئران أو ذبابة الفاكهة، ومن هذه المزايا بساطة جسم دودة الربداء الرشيقة. 

للربداء الرشيقة ألف خلية فقط، وهي شفافة بحيث يمكن تحت المجهر تمييز كل خلية عن الخلية التي بجانبها. ليس هذا فحسب، بل يمكن تتبع ولادة كل خلية من الخلية الأولى، من أين جاءت وكيف تمايزت وما إلى ذلك. لذا كان من الممكن انشاء خريطة دقيقة ومفصلة لكل خلايا الكائن. 

كانت الخلايا تنقسم وتتكشف بشكل نمطي جداً لا يختلف من دودة إلى أخرى وبالتالي فقد كان التطور أو النمو يحدث بشكل حتمي (deterministic) أي أن ما يجري على دودة ما، يجري على الديدان الأخرى ايضاً. أضف إلى ذلك أن رغم بساطة الدودة غير أن لديها سلوكيات معقدة مثل البحث عن الطعام أو تمييز الاكل المفيد من الضار أو البحث عن دودة من الجنس الآخر للتزاوج أو الهروب من المخاطر. لذا فنحن نتكلم عن دودة من 1000 خلية هناك 300 منها تشكل الجهاز العصبي، لكن فيها كل التعقيد الذي نتكلم عنه. لذا قرر سيدني برينر (Sydney Brenner) في بريطانيا أن الربداء الرشيقة هي كائن مثالي لدراسة تفعيل المادة الوراثية خلال نمو الجنين وسلوك الكائن بعد اكتمال نموه. وكون برينر مجموعة عمل كان أهم من فيها روبيرت هوروتز (Robert Horvitz) وجون سولستن (John E. Sulston) وقد حصل الثلاثة على جائزة نوبل لاسهاماتهم في مجال الطب والفسلجة من خلال تدشين الربداء الرشيقة كنموذج لدراسة علم الأحياء. وخرج مئات الأبحاث من تلك المجموعة ومئات المختبرات في العالم لدراسة تلك الدودة ولفهم شتى الأسئلة والمسائل البيولوجية إلى يومنا هذا.

 

قد يسأل سائل، في الوقت الذي يمكن لدودة ان تقدم كل هذا، لماذا هناك من يدرس الفئران، أو من يقوم بإجراء بعض التجارب على الشمبانزي، ما الفرق بين نموذج حيواني كالدودة ونموذج حيواني كالفأر؟ 

الدودة لها مزايا ولها عيوب ولها عيوب تتكامل مع مزايا وعيوب الفئران والنماذج الحيوانية الأخرى. مثلاً، الدودة الواحدة بعد أن تكون بيضة ثم تفقس خلال 12 ساعة ثم تبيض 300 بيضة خلال ثلاثة أيام. أي أن دورة حياتها قصيرة جداً، وتتكون من بضعة أيام فقط. الفأر يمكن أن يأخذ عدة شهور بعد الولادة لينضج جنسياً، وحتى حين يلد فلن يلد أكثر من مجموعة فئران. في حين أننا في الديدان نتكلم عن دودة إى بضعة مئات من الديدان في بضعة أيام. وبالتالي فإن القيام بالتجارب يعد أسرع بكثير. كما يمكنك وضع 1000 دودة بطبق في درج، في حين أن ألف فأر سيحتاجون إلى ميزانية واكل وأقفاص وغير ذلك. لذا فإن عدد الحيوانات التي يمكن أن تعمل بها في نفس الوقت يختلف. هذه هي مزايا الربداء الرشيقة. 

جرى العرف أن حيوان مثل الربداء الرشيقة يسمح بالقيام بتجارب متعددة بنمط سريع، ثم حين نفهم شيئاً، نتسائل: هل سينطبق الأمر ذاته على الفئران؟ السؤال سيكون أكثر دقة هنا

أما عيوبها، فهي أننا نتكلم عن دودة، في حين أن الفأر هو حيوان ثدي كالإنسان، وما يكتشف في الفأر غالباً ما يكون أقرب للوضع في الانسان. لذا فإن العرف جرى أن حيوان مثل الربداء الرشيقة يسمح بالقيام بتجارب متعددة بنمط سريع، ثم حين نفهم شيئاً، نتسائل: هل سينطبق الأمر ذاته على الفئران؟ السؤال سيكون أكثر دقة هنا. نفهم شيئاً في الربداء الرشيقة ثم نعيد سؤال السؤال على الفئران، ثم قد نتمكن من طرح نفس السؤال عما سيجري في الإنسان كذلك. نموذج من هذا العمل هو العمل على موت الخلايا المبرمج وقد درسه بوب هوروتز والذي وجد أن في الربداء الرشيقة هناك بعض الخلايا تولد خلال نمو الجنين من انقسام الخلية ثم تموت بعد بضع ساعات، ويحدث الأمر ذاته لذات الخلية في كل جنين ويتم ابتلاعها من الخلايا فأسموه موت الخلايا المبرمج. 

كما وجدوا أن في حال حدوث طفرات ببعض الجينات تبقى تلك الخلايا ولا تموت. فعرفوا أن موت الخلايا المبرمج في الربداء الرشيقة هي عملية حيوية منظمة بجينات معينة، ثم تسائلوا، هل تلك الجينات موجودة في الفئران؟ فوجدوا جينات شبيهة لما في الدودة لدى الفئران. ووجدوا الأمر ذاته، حيث الخلل في الموت المبرمج للخلايا ووجدوا صلة ذلك بالسرطان (راجع اللقاء المفصل حول موت الخلايا المبرمج مع الدكتور محمد الربيعي المختص بموت الخلايا المبرمج) حيث تعلم أن فيها مشكلة لكنها لا تستطيع إماتة نفسها حيث تتفاقم المشكلة ويبدأ ورم سرطاني بالنمو. كما وجدوا أن الجينات التي لها علاقة بموت الخلايا المبرمج في الفئران هي ذاتها في الإنسان والتي هي من أهم أسباب حدوث السرطان في الإنسان. 

وهكذا يمكن أن نرى كيف جرى الخط البحثي من الربداء الرشيقة ثم الفئران فالإنسان. التكامل بين النماذج الحيوانية شائع جداً في البحث العلمي. هناك من يتخصص بدراسة الفئران أو ذبابة الفاكهة، لكن هناك دوماً انتباه للعلاقة بين تلك الكائنات وما يحدث في الإنسان وغالباً ما تكون بعض الثدييات كالفئران والجرذان هي الجسر لفهم ما يحدث في الإنسان. 

 

نفهم هنا أن الربداء الرشيقة يمكن أن توفر خيار رخيص أو سهل، وبعده يمكن الانتقال لمراحل أخرى. 

نعم، مع الاخذ بنظر الاعتبار أن البحث العلمي لا يتصل بالضرورة لإكتشافات طبية تفيد الانسان. أو على الأقل ليس على المدى القريب أو المتوسط. لذا فإن هناك من يدرس سلوكيات الربداء الرشيقة، مثلاً كيف تتحرك؟ كيف تجد الطعام؟ كيف تتصرف خلاياها العصبية؟ وهذا يمكن أن يجعل العلاقة بينها وبين التطبيق الطبي للإنسان بعيد أو غير مرئي حالياً. لكنه مع ذلك يعتبر مفيد، ويعد معرفة مهمة لأنه يفتح أفاق للإنسان لكيفية عمل الجينات وتفعيلها في الكائن.

 

جرى العرف على ربط البحث العلمي بفائدة تخص الانسان والطب، رغم أن كثير من الباحثين يبحثون دون تحمل عبء إيجاد العلاقة بين اكتشافاتهم والطب، بل يبحثون بدافع الفضول، وبدافع الرغبة في استكشاف المجهول ويتمنون أن اكتشافهم يفيد المجتمع في يوم من الأيام، غير أن الجائزة الكبرى تكمن في نشوة الاكتشاف وفهم أمر جديد لم يفهمه أحد قبلهم، وأنك، ولو لبضع ساعات، تعرف شيئاً لم يعرفه أحد سواك

 

أحياناً لا يتمركز البحث حول الإنسان، أذكر من حوار مع بيرند هارينريش متخصص بسلوك الحيوانات وقد درس الغربان وطرحت عليه بعض الأسئلة فانزعج من بعض الأسئلة لأنها تتمركز حول الانسان فقال ما معناه أن لا تحاولوا أن تأنسنوا هذه السلوكيات فربما هذا هو مفهومنا فقط لسلوكيات معينة لكنه لا يعني الأمر ذاته بالنسبة للحيوان. ما نفهمه منكم أن النماذج الحيوانية قد تكون نوع من الدراسة الأحياء وهناك فائدة محتملة لها مستقبلاً للإنسان. 

صحيح رغم أن العرف قد جرى بمعظم الأحيان أن تبرير التمويل الذي يحتاجه البحث العلمي لابد أن يرتبط بعلاقته بالإنسان وكيف سيفيد المجتمع وكيف سيفيد الطب. يشبه هذا الديباجة في معظم الأحيان بالأطروحات البحثية لتبرير تمويلها من دافعي الضرائب. رغم أن كثير من الباحثين يبحثون دون تحمل عبء إيجاد العلاقة بين اكتشافاتهم والطب، بل يبحثون بدافع الفضول، وبدافع الرغبة في استكشاف المجهول ويتمنون أن اكتشافهم يفيد المجتمع في يوم من الأيام، غير أن الجائزة الكبرى تكمن في نشوة الاكتشاف وفهم أمر جديد لم يفهمه أحد قبلهم، وأنك ولو لبضع ساعات تعرف شيئاً لم يعرفه أحد سواك، مع وجود أمل أن في يوم من الأيام يمكن أن يكون هناك عمل يفيد الإنسان لكن ليس هذا هو الهدف الأساسي رغم أنه قد يظهر بصفته الديباجة الأولى في أي أطروحة بحثية.

 

كيف يتطور مجال دراسة النماذج الحيوانية؟ وجدنا لكم أبحاثاً حول السلمندر أيضاً فأين تتجهون وأين يتجه هذا المجال؟ 

هناك نقطة مهمة وهي لماذا التركيز على الربداء الرشيقة في حين أن هناك الآلاف من الديدان التي تمتاز بمميزات الربداء الرشيقة مثل السي بريكسي وهناك فصائل كثيرة تحت جنس الربداء أيضاً. الفكرة، هي أنه قديماً على الأقل، فإن البحث العلمي مكلف وكان من المهم تركيز المعرفة على عدد محدد من الكائنات بحيث لا نحتاج أن نعيد اختراع العجلة لكل كائن يود أحدهم دراسته، لكن هناك حالة من الاستثمار في كائن معين أو عدد معين من الكائنات لأن البحث العلمي مكلف.

لكن حدثت في العشر سنوات الأخيرة عدة طفرات في البحث العلمي جعلت من الممكن تحويل أي كائن إلى كائن نموذجي. ماذا يعني كائن نموذجي؟ أي كائن من المفهوم كيفية تربيته في مختبر، ومن المعروف تسلسل مادته الوراثية (sequencing) وطبيعتها. ومعرفة أشياء أساسية عن فسلجته وسلوكه وما ‘لى ذلك. بالإضافة إلى عدد من الأدوات لتعديل المادة الوراثية. تلك التطورات سهلت عملية سلسلة الجينوم ومعرفة المادة الوراثية وخفضت من كلفة وسهلت عملية تعديل المادة الوراثية. وبالتالي، أصبح من الممكن دراسة كائن ما لو كان يتمتع بصفات تستحق أن نفتح آفاقنا عليها وتحويله إلى كائن نموذجي في غضون بضعة سنوات وبعشر الميزانية التي كانت مطلوبة لأي كائن آخر في الماضي. 

على سبيل المثال فإن السلمندر هو كائن برمائي كالضفدع لكنه يختلف عن الضفدع بعدة نواحي من أهمها هو أن السلمندر يحافظ على ذيله طيلة حياته في حين أن الضفدعة تفقد ذيلها بعد اكتمال نموها، أو بعد حدوث عملية التحور. غير أن الفرق الأهم بينهما هو قدرة السلمندر على إعادة تكوين الأعضاء. السلمندر طبعاً غير شائع في البلاد العربية وقد يكون موجوداً فقط في شمال المغرب. لكن بالعودة للسلمندر، فالمذهل به هو أنه لو خسر ذراعاً مثلاً فإن ذراعاً جديداً قد ينمو له خلال شهر، وهكذا مع الرجل او الذيل، ويحدث أيضاً مع الوزغ (البرص) للذيل فقط. 

أليس السلمندر جديراً بالدراسة كنموذج حيواني لفهم كيفية إعادة تكوين الأعضاء لعلنا نكتشف السر فنستفيد منه طبياً؟ بالتأكيد. لكن هناك عدة عراقيل أمام استخدام السلمندر كحيوان نموذجي، لكن في السنوات العشر الأخيرة زالت كثير من تلك العوائق. وبالتالي فإن عملي في ما بعد الدكتوراه كان حول تحويل أحد أنواع السلمندر إلى حيوان نموذجي من خلال سلسلة الحمض النووي مع الاخذ بنظر الاعتبار أن المادة الوراثية في السلمندر تبلغ عشر أضعاف المادة الوراثية لدى الإنسان، لكن التكنولوجيا كانت موجودة فاقتحمنا العقبة هذه وسلسلنا المادة الوراثية وطبقنا تقنية كرسبر لتعديل المادة الوراثية. وبالتالي صار لدينا أهم دعامتين للحصول على كائن نموذجي، الحصول على المادة الوراثية والقدرة على تحويرها وتعديلها. فضلاً عن قدرتنا على تربية السلمندر وإجراء التجارب عليه. 

 

تكلمتم عن سلسلة الحمض النووي، الحصول على جينوم كائن معين، نرغب أن نسألكم وحيث كانت بدايتكم في دراسة التكنولوجيا الحيوية، هل يمكنكم تلخيص الخطوات لعملية سلسلة الحمض النووي والحصول على جينوم كامل؟ أعلم أنها قد تكون معقدة الشرح لكن هناك طريقة لتبسيطها؟ 

ميزة المادة الوراثية هي أنها موجودة في كل خلية. هناك بعض الاستثناءات لكن بشكل عام فإن هناك نسخة من المادة الوراثية في كل خلية. بمحاليل بسيطة يمكن اذابة الخلايا وفصل المادة الوراثية عن بقية مكونات الخلية. ويمكن إزاحة المادة الوراثية في انبوبة جديدة وإذابتها في محاليل وإجراء عملية السلسلة عليها. تقدمت السلسلة جداً اليوم حيث أن هناك شركات متخصصة لعمل أجهزة لسلسلة الحمض النووي. وكان ذلك بطيئاً وباهضاً في الماضي. 

عملي كباحث ينتهي بإذابة الخلايا وفصل الحمض النووي، وإرسالها لإحدى الشركات أو المختبرات المركزية التي تقوم بالسلسلة والتي تعيد لي ملف يتضمن حروفاً تكون المادة الوراثية. في معظم الأحيان تكون تلك الحروف مجزأة لآلاف القطع، حيث لا ينفع سلسلة المادة الوراثية كقطعة واحدة بل تتم سلسلتها بأجزاء صغيرة. فيما مضى كان هناك حوالي 100 حمض نووي، ثم صارت 250، أما اليوم فهناك بعض التقنيات التي يمكن أن تسلسل اكثر من 10 آلاف حمض نووي دفعة واحدة. لذا فإن الملف يأتي بسطور عديدة قد يكون في كل منها 10 آلاف حرف من حروف الحمض النووي. ثم تأتي خطوة ترتيب كل تلك الأجزاء لاعادة تشكيل الحمض النووي بعد تفتيتها لآلاف أو عشرات الآلاف من الأجزاء. 

هناك برامج متعددة تعرف كيف تجد الأجزاء المتطابقة بين القطع المتفرقة تلك وتقوم بتجميعها سوية كاللغز. حتى تترتب المادة الوراثية من البداية حتى النهاية. هذه العملية أيضاً أصبحت أسهل. 

في السلمندر ونظراً للحجم الكبير للمادة الوراثية، فلم يكن هناك برامج حاسوبية يمكن أن تستوعب الكمية تلك من البيانات، لذا كان يجب أن يتم تطوير عملية إعادة تركيب الأجزاء الصغيرة تلك حتى نعيد ترتيب أجزاء الحمض النووي. العملية تتعلق أكثر بالحاسوب وتحليل البيانات أما الجزء المختبري فيكون بسيطاً. 

 

ربما سأشارك هذا المثال من الملف الذي أمامي للحمض النووي لو وافقتم أنه الناتج النهائي لعملية التسلسل. أمامي نتيجة لفحص الحمض النووي الذي أجريته – فحص السلالة – وفي الملف هناك اسم التعدد الشكلي المنفرد (SNP) ومن ثم رقم الكروموسوم والموقع وأخيراً هناك الحرف، وهناك 700 ألف سطر في هذا الملف. فهل هذا هو الناتج الذي تحصلون عليه في النهاية؟

الناتج الذي أتكلم عنه يختلف. الاختبار الذي تتكلم عنه يعرف بالنوع الوراثي (Genotyping) والذي يمكن القيام به بعد عملية السلسلة. لكن تعطي السلسلة ملف فيه سطور طويلة جداً من الأحماض النووية. بعد مقارنة المادة الوراثية أو الحمض النووي لآلاف البشر، وجدنا أن 99.9% من المادة الوراثية للبشر متطابقة، لكن 1 من كل ألف حمض نووي يمكن أن يكون مختلفاً بين إنسان وآخر، وفي ذلك ما نسميه التعدد الشكلي المنفرد، اختلافات محددة بين المادة الوراثية للبشر. 

حين تتوفر لدينا المعرفة هذه يمكننا أن نقوم بإنشاء شرائح تركز على المناطق المختلفة من إنسان لآخر ونعطي ارقاماً مختلفة لتلك المناطق وهي ما ذكرته أنه RS ثم الرقم، وبالتالي فحين نحب أن نعلم كيف هو شكل المادة الوراثية لعمر أو أحمد فليس من الضروري أن ننظر للـ 3 مليار حمض نووي. لكن من الممكن أن نركز على الـ 700 ألف نقطة الذين فيهم اختلاف. والملف الذي تشير له يشير لمناطق الخلاف بين البشر ويوضح موقفك منها وأي من الأحرف لديك في تلك الاختلافات، ولا يمكن القيام بهذا دون وجود دعامة أو أساس الجينوم لالاف البشر للتفريق بين المناطق المشتركة والمناطق التي فيها اختلاف.

 

نفهم من ذلك أن هذه الفحوص لا يمكن اجراؤها لو لم يكتمل مشروع الجينوم البشري؟

نعم والاختبار الذي تشير له متوسط كلفته 100 يورو أو دولار في حين أن سلسلة الجينوم البشري بالكامل يبلغ ثمنه حوالي 1000 دولار. وبالتالي فهو ليس منتج يمكن أن يكون شائعاً في السوق لمن يرغب بالمعرفة عن مادته الوراثية. لذا فإن اختبار النوع الوراثي هو الأكثر شيوعاً لمن يريد فهم مادته الوراثية من الأساس الوراثية.

 

نود أن نستفيد منكم حول تعريف آخر لاحظناه في أبحاثكم وهو الانتراكتوم (Interactome) [يعرف بالعربية بالتآثروم] فما هو وما هي صعوبة الحصول عليه؟ 

الانتراكتوم هو مصطلح من جزئين انتراكشن بمعنى تفاعل أو تشابك ويشير لتفاعل البروتينات مع بعضها ومقطع ـوم للدلالة على الكل، فالجينوم هو كل الجينات والبروتيوم هو كل البروتينات، والانتراكتوم هو كل التفاعلات والتشابكات (ومن ذلك جاء كرومسوم). والانتراكتوم هو شبكة العلاقات بين البروتينات المختلفة في الخلية. الخلية مكونة من الماء بمعظمها لكن من أهم العناصر التي تبني خلية هي البروتينات، وتخلق البروتينات في الخلية بناءاً على المعلومات الموجودة في المادة الوراثية. حين يفعل الجين يعرف الخلية بوصفة تخليق بروتين معين، فيخلق البروتين من أحماض أمينية بناءاً على تعليمات موجودة في الحمض النووي. ثم حين يخلق البروتين من الأحماض الأمينية تحصل له بعض التحورات ويتشكل بشكل معين ثم يخرج للخلية ويؤدي وظيفة معينة. يمكن أن تكون وظيفة دعامية ليدعم هيكل الخلية، يمكن أن يكون له وظيفة إنزيمية أو غير ذلك من الوظائف الشتى للبروتينات. 

البروتينات هي الطبقة العاملة للخلية. لفهم وظائف البروتينات هناك طرق كثيرة. من الممكن أن نلغي البروتين نفسه أو الجين نفسه. من الممكن أن نلغي الخلية بغياب البروتين. وبناءاً على أثر غياب البروتين يمكن أن نستنبط وظيفته من الأساس. ولكي نقوم بذلك فإن لهذا خط بحثي معين له مصاعبه ومزاياه. لكن هناك طرق أخرى لمعرفة وظائف البروتينات من أهمها معرفة كيفية ملامسة البروتين الذي تتم دراسته لبروتين آخر وكيف يتفاعل معه. تتركب البروتينات مع بعضها بما يشبه الليغو او المكعبات، فتقوم بعمل مركبات أعقد تقوم بوظائف أكبر تعقيداً لا يستطيع البروتين القيام بها.

فلو كان لديك بروتين معين تعلم أنه مهم لإنشاء قناة في غشاء الخلية، لينظم دخول الأملاح للخلية، وعرفت تلك المعلومات بعد 10 سنوات من الأبحاث. ثم وجدت أن هناك بروتين جديد لم تفهم دوره سوى أن له علاقة بالبروتين الأول، تستطيع حينها افتراض أن البروتين الجديد لديه دور ما في دخول الأملاح للخلية بحكم إرتباطه ببروتين آخر يقوم بذلك الدور. ففكرة معرفة العلاقات بين الخلية كانت من أهم اتجاهات البحث قبل 20 سنة وحتى آخر 10 سنوات. 

يتطلب الانتراكتوم عزل كل بروتين على حدة وأن تسأل: لو تركت البروتين في الخلية، فهل سيرتبط بأي بروتين آخر؟ هناك طريقة معينة تم تطويرها من 20 سنة لمقارنة كل بروتين بكل بروتين آخر في الخميرة. أي أننا نستخدم الخميرة كأنبوبة اختبار، ندخل بروتينين في الخميرة من الربداء الرشيقة، ثم نسأل، هل سيرتبطان سوية بحيث ستنمو وتتكاثر الخميرة؟ لو لم يرتبطوا فستموت الخميرة. ومن خلال مقارنة الـ 20 ألف بروتين بالـ 20 ألف بروتين نستطيع أن نسأل في أي حالة نمت الخميرة وأي من البروتينات كانت موجودة في حينها في الخميرة لنستطيع تدريجياً بناء شبكة متشعبة تشمل جميع بروتينات الربداء الرشيقة. 

قد يكون الشرح الشفهي صعباً لتوصيل العملية غير أن الموضوع يستخدم الخميرة كأنبوبة اختبار وطرح السؤال في كل مرة هل سيرتبط البروتينين أم لا، ولو ارتبطا فإن الخميرة ستنمو (نعم) أو (لا). يمهد ذلك لإعطاء قاعدة عن وظائف تلك البروتينات لتتم اختبارها بتجارب شتى. 

 

لا يتمحور مجالكم في شكل من أشكاله حول كائن بعينه لكنه أشبه بدراسة نظام، نظام من البروتينات أو الجينات وأنتم لا تركزون على جين معين أو بروتين معين بل قد تكتشفون عشرات أو مئات أو آلاف الحقائق بعملية معالجة حاسوبية.

صحيح، يسمى المجال ببيولوجيا الأنظمة أو Systems biology ويتمثل المجال بدراسة البيولوجيا كنظام، وكيف أننا بدلاً من التركيز على جين أو بروتين واحد فإننا نركز على النظام. بنفس الهيئة لو نظرنا إلى التركيز على شخص واحد أو على مدينة بأكملها وعلى طبيعة العلاقات بين البشر. هذا المستوى من البحث موجود في البيولوجيا ايضاً. ومن المثير للاهتمام أننا وجدنا من الحقائق التي تسري على تلك الأنظمة فيها من الحقائق ما يمكن أن نجده في أنظمة أخرى نألفها كبشر مثل أنظمة الأسواق المالية أو الكائنات مثل النمل والجراد. الأنظمة بشكل عام لها حقائق تحكم أفرادها وقواعد وهي أمر مشوق جداً ومما ظهر في العشرين سنة الأخيرة.

 

يتساءل الكثير من الباحثين عن كيفية الوصول إلى جامعات أمريكية أو أوروبية أو في العالم المتقدم بشكل عام، هناك من يذهب عن طريق زمالة أو على نفقته، هل هناك من إرشادات حول طريقكم شخصياً للوصول؟ 

في مجال البيولوجيا بشكل عام، لا داعي أن ينفق أحد لدراسة الدكتوراه أو الماجستير لأن العرف جرى على تقديم منحة تشمل مصروف شهري يغطي تكاليف المعيشة، كما جرى العرف الآن على إمكانية التقديم للدكتوراه مباشرة بعد البكالوريوس دون ماجستير. فنصيحتي هي بالقيام بالعمل المعملي لتحصيل الأساسيات المعملية، كيف تعمل بمعمل وكيف تتعامل مع الأجهزة الشائعة في أي معمل. وعبر عن اهتمامك بالبحث العلمي من الخطاب الذي تكتبه في الجامعة واحصل على خطابات توصية من الأساتذة في الجامعات، وهذه النقطة تحديداً هناك فهم خاطئ حولها. 

تحتاج طريقة كتابة خطابات التوصية للتطوير لدينا في الجامعات، حيث يذهب الطالب للدكتور ويطلب منه خطاب توصية فيقول له الأستاذ اكتب وسأوقع لك، غير أن ما يحدث هنا هو أن الدكتور لم يقم بدوره كمعلم والذي لا ينتهي في المدرج ولا ينتهي بعد الامتحان. يجب على المعلم أن ينظر لمصلحة طالبه لما بعد التخرج أيضاً. وبالتالي فإن دور الأستاذ يجب أن يكون فيه معرفة عن الطالب، وأن يكون الطالب حريصاً على تذكر المعلومات حول الطلبة مثلاً أن الطالب الفلاني سأل سؤالاً. كما يجب أن يسجل الأستاذ تلك الأمور فيجب أن يكون لدى الأستاذ شيء يرجع له من معلومات لا أن يقول للطالب اكتب وسأوقع لك. في ذلك بداية غير سليمة في البحث العلمي. حينما تبدأ بالعمل عرفهم باهتمامك وببناء علاقتك بالاستاذ مما يساعده على كتابة خطاب توصية جيد. 

عدا قضية الخطاب فإن الطلب مرتفع والعرض قليل، وبالتالي فقم بالتقديم على جامعات كثيرة واحرص على أن يكون لديك ثلاثة مستويات من الجامعات، جامعات عالية جداً، وجامعات لن يكون لك مشكلة لو لم تحصل على زمالة فيها، وجامعات في المنتصف. وبذلك تغطي كافة المراكز وبالتوفيق. 

 

حدثت معي قضية خطاب التوصية ويعتقد البعض أنه أمر غير مهم، وأنه مطلب هامشي أو ثانوي ضمن طلبات التقديم على المنحة. فهل هذا صحيح؟

هذا غير صحيح خصوصاً في مرحلة الدكتوراه حيث تستثمر بك الجامعة كعضو في مجتمعها العلمي، فيجب أن تعرف إن كان هذا الشخص جاداً، منظماً وغيرها من صفاته. خطاب التوصية هو ما يدل على هذا الأمر. ولو أحست اللجنة أن خطاب التوصية رديء أو غير جدي فقد يؤثر كثيراً على قبولك وإلا فكيف سيقيمونك؟ يجب أن يكون خطاب التوصية محترماً فيه شعار الجامعة والإمضاء والكلام فيه على الأقل صفحة يصف الطالب واهتمامه ومعرفة الأستاذ به وغير ذلك. 

 

شكراً لكم دكتور، هل من كلمة ختامية؟ 

اشكرك على اللقاء يا عمر وادعو لك بالتوفيق وللعلوم الحقيقية بالرواج وأرجو أن يفيد حوارنا المستمعين.