هل ترى كل ذلك التنوع من البشر حولك؟ التنوع العرقي، التنوع في الأنماط الظاهرية للبشر كالشعر الأشقر أو البشرة السوداء أو الأعين الشرقية، الأوروبيون والهنود الحمر والسود والصينيين وغيرهم كثير، كل ذلك هو بضعة خطوط نسب جينية من بين خطوط كثيرة من أبناء الأعمام من ذات الخط الجيني الأكبر من صنف الإنسان العاقل الذي ينتمي بدوره لشجرة كبيرة من البشرانيات (Homos) على الأغلب أبيد آخر الأقارب فيها على أيدي البشر قبل 30 ألف عام. نعلم أن صنف الإنسان العاقل يقف على ركام كبير من الخطوط الجينية المنقرضة للاسلاف والأقارب وربما ساهم هو بالقضاء على كثير منهم، عازياً لهم ربما أولى الأساطير عن الغيلان والوحوش. عملياً، لو فكرت بأنك ستتوقف عن الانجاب وقد كنت الابن الوحيد لأبيك فأنت أيضاً تقضي على سلسلة جينية طولها جيلين، ولو عدنا بالزمن لنقضي على جدك العاشر فلن تكون والكثيرين موجودين في هذه اللحظة. غير أن الصورة دراماتيكية أكثر من ذلك بقليل.

المحزن في زوال خط جيني كامل هو واقع أن كارثة ما لابد أن تكون قد حصلت لتقضي على الكثير من البشر بما يشمل خط جيني كامل، قد تكون عملية إبادة، قد تكون أزمة مناخية نتجت عنها مجاعة وأمراض، فالفترات الجيدة مناخياً في تاريخ البشر لا تشهد ذات كثافة الأوبئة في الفترات السيئة مناخياً. حتى التنازع العنيف الذي يفضي إلى غزوات شديدة القسوة هو من نتائج الرغبة اليائسة للنجاة وليس ناتجاً من فترات الرخاء. أو أن رخاء مجموعة معينة سمح لها بالتكاثر الذي يفضي إلى تفوقها العددي وابادة الخصوم المجاورين ذوي الصحة الاسوء والمناخ الاسوء.

انقراض ثقافي أم جيني؟

منذ ما يزيد على القرن وماكنة الحضارة الحديثة القائمة على التقنيات تسحق مفردات عديدة من الثقافة بكل ما تتضمنه من أطعمة وأغاني ومنتجات محلية وأشكال محلية من الفنون، ليس هذا فحسب، بل إن توسع المدن وتوسع مفهوم الحكومة وما توفره من خدمات على المستوى الوطني في كل بلد كالتعليم، صار يسحق كثيراً من اللغات المحلية ويعزز لغة أو لغتين رسميتين فيما تنال اللغات تلك درجة من درجات الخطورة كأن تكون لغة للمخاطبة في الشارع فحسب أو لغة منازل أو لغة يتكلمها كبار السن فقط أو لغة يتكلمها بضعة أفراد وتقع على شفير الانقراض. كل سنة تنقرض عدة لغات حول العالم واللغة هي إحدى أكبر السلات الثقافية التي تضم لوحدها نطاقاً واسعاً من المفردات التي تشكل مفهومنا للثقافة كالشعر والأغاني والأمثال وغيرها.

لكن هذا لم يكن الحال لقرن من الزمان فحسب، فالتاريخ يدون انقراض الكثير من اللغات والثقافات في الماضي أيضاً لكن بظروف أقل ضراوة ربما (بالطبع ما لم نقصد انقراض الثقافة لانقراض أفرادها وهو الأشد ضراوة).

هذا ليس الحالة الوحيدة. هناك ثقافات كثيرة استطاعت النجاة والتوسع وإن لم تنج بذات الهيئة التي كانت عليها تاريخياً وهذا محال ما لم تثبت الظروف التاريخية.

لكن بشكل عام يبدو أن الانقراض الثقافي أسرع وتيرة بكثير من الانقراض على مستوى الجينات، كما أن هناك الكثير من الدراسات والمعايير التي توحد مناهج دراسة الانحسار والتغير الثقافي لكن انقراض الخطوط الجينية للبشر ليس موضوعاً شائعاً بكثرة.

 

وبال انخفاض التنوع الجيني

مفهوم التنوع الجيني لم يكن وارداً في مفاهيم البشر باستثناء ما لاحظته بعض المجاميع البشرية البدائية في الماضي من حدوث بعض الأمراض كنتيجة للتزاوج بين المحارم، الأمر الذي بالرغم من حدوثه حتى عهد متأخر (وربما حتى عصرنا هذا) سواء على نطاق اجتماعي محدود أو على نطاق أسر ملكية مثل أسرة بلانتاجنت التي حكمت بريطانيا سابقاً، غير أن معظم البشر يمكن أن يقولوا بثقة أنهم يشمئزون منه حتى على مستوى يفوق المنع الثقافي. وبذات الطريقة فإن هناك بعض المجاميع من البشر التي صارت تمنع الزواج بين علاقات أكثر قرباً مثل أبناء العمومة رغم أن ذلك المنع قد يعد ثقافياً – عرفياً بالدرجة الأساس. غير أن البشر لم يتمكنوا من فهم أن الأمر هذا قد يحدث على نطاق واسع جداً، بل على مستوى شعوب تقطن قارات بأكملها مثل سكان الأمريكتين الأصليين، أو من يعرفون بالهنود الحمر.

القصة باختصار لا تتعلق بزواج الأقارب. لكن شعوب كثيرة تصل إلى ملايين الأفراد تمثل نتاج تكاثر مجموعة صغيرة من الأفراد. أثر تزاوج بضعة أسر حتى وإن كان بطريقة مقبولة ثقافياً (دون زواج أقارب أو سفاح) ثم انتشار ذرية هؤلاء لوحدهم لتشكل سكان قارة بأكملها ليس أثراً جيداً. سبب حدوث حالات كهذه يعرف في التاريخ بأحداث عنق الزجاجة، حيث يشبه الأمر تعرض تعداد البشر إلى المرور بعنق زجاجة ضيق يؤدي إلى نجاة عدد قليل من الأفراد، ثم تأتي الأجيال القادمة من التزاوج الحاصل في تلك المجاميع الصغيرة الناجية ويعرف هذا بتأثير المؤسس، حيث تصبح المجموعة الصغيرة تلك مجموعة مؤسسة لتعداد كبير. ويترتب على ذلك أن المجاميع الناتجة من تأثير المؤسس يكون التنوع الجيني فيها قليلاً. أكثر المجاميع تنوعاً هم الأفارقة، والأقل هم الهنود الحمر.

في الماضي القريب انقرض الكثير من البشر أيضاً، الهنود الحمر تعرضوا لابادة جماعية غير مباشرة عبر البكتيريا التي جلبها البشر من الجانب الآخر من العالم والتي تطورت كثيراً في بيئة البشر المتنوعة لتغدو شديدة الخطورة على أبدانهم التي تعاني بجيناتها من تنوع جيني محدود جداً[1]. من الصعب بطبيعة الحال تأكيد العلاقة بين انخفاض التنوع الجيني لدى الهنود الحمر وبين انخفاض كفاءة أجهزتهم المناعية مقارنة ببقية البشر، لكن هناك دراسات عديدة وجدت ذلك. منها دراسات قارنت بشكل مباشر بين مجاميع البشر بين عالمنا القديم والعالم الجديد[2]، لتعزو قابلية الموت بالأوبئة لذلك الفارق في التنوع الجيني، ومنها دراسات وجدت بالفعل أدلة على حالات معينة[3] مثل تعددات شكلية (SNPs) ذات صلة بوظيفة مناعية ولها اقتران مع الوفاة بمقدمات الارتعاج (pre-eclampsia) وهي حالة تصيب النساء عند الحمل وتعد من مضاعفات الحمل الخطيرة والتي تضر بالطفل والأم على حدٍ سواء. كما وجدت دراسة أخرى اختلافاً واضحاً بين جميع الهنود الحمر وتحديداً في الامازون – وهم أقل البشر في التنوع الجيني على الإطلاق – وبين باقي البشر من حيث طبيعة عمل مستقبلات الخلايا المناعية القاتلة (Natural killer cell immunoglobulin-like receptors – KIRs).[4]

مع هؤلاء انقرضت خطوط عديدة من الحمض النووي وسلالات من البشر عمرها 15 ألف سنة في ذلك المكان لوحده. طريقة معرفة هؤلاء الذين انقرضوا بنسبة معينة هي عن طريق الحمض النووي الميتوكوندري للبشر الموجودين حالياً. يكشف هذا الحمض المتناقل عبر الأمهات جانباً آخر من القصة عبر خط آخر من السلالة ويسير باتجاه آخر أي من الام إلى ابنتها. أظهر الحمض النووي للميتوكوندريا كيف أن 50 مليوناً من البرازيليين الحاليين يحملون حمضاً نووياً للميتوكوندريا شاركوه قبل 500 سنة مع سلالات أخرى انقرضت[5].

لم يكن البيوثوك (Beothuk) سكان نيوفاوندلاند (كما تسمى الآن) سكاناً شديدي العدائية، لكنهم كانوا أكثر انعزالاً ولم يكونوا غير راغبين بالاختلاط مع القادمين الجدد. محاولات الاختلاط التي يبادر بها الأوروبيون كثيراً ما انتهت بحوادث مفجعة رغم حيادية النوايا في بعض حالات الاحتكاك معهم، هذا فضلاً عن الاحتكاك غير السلمي من الصيادين الذين ينافسون البيوثوك على مصادر الصيد. لكن مع ذلك، لم يتخذ الأمر شكل المجزرة على الإطلاق ولم يكن هناك حالة تخالط شاملة يمكن أن تنقل وباءاً. الغريب أن المرأة الوحيدة التي جلبها الاوربيون قسراً لتعلم اللغة منها ماتت بالسل، ثم ماتت ابنتها بالمرض ذاته، وكان السل نصيب كل من خالط الأوروبيين. غير أن التواصل المتقطع هذا اعطى بعض المعلومات أن المجموعة كانت في تناقص عددي كبير خلال 20 عاماً، وأن البشر في منطقة البيوثوك كانوا أكثر بقليل قبل 20 سنة. بغض النظر عن التفسير، ورغم أن احتمالية ورود بعض الأمراض من الجو أو من خلال التواصل المحدود جداً هي احتمالية مثيرة للاهتمام حول سبب كهذا، غير أن النتيجة المفجعة ذاتها تحدث مع قوم ينتمون لتلك المنطقة الشديدة البرد تحديداً لـ 1500 عام على الأقل. انقرضت الثقافة واللغة وخط عريق آخر من البشر. لو كان لهؤلاء البشر دين على شاكلة الأديان الإبراهيمية لفهموا أن الرب قد غضب عليهم وأبادهم، أو ربما قد حلت الساعة وأحيل الجميع للموت على نحو بطيء، أو أن مخالطة الكفار تجلب العقاب وبالتالي فإن كل من اقترب منهم كان جزاؤه الموت. غير أن فرداً واحداً من تلك المجموعة لم يبق ليفكر بهذه الاحتماليات العقائدية، كما أن أحداً منهم لم يبق ليفكر بمصير مجموعته وشعبه، إنه أشبه بوفاة شخص، هل سيفكر بشيء؟

نيوفاوندلاند حيث كان يعيش البيوثوك:

نيوفاوندلاند

نيوفاوندلاند

بالطبع يمكن أن نأخذ امثلة كثيرة من الشعوب التي انقرضت في الأمريكتين وانخفاض التنوع الجيني لديها سواء بصفته سبباً في مشاكل مناعية أم بصفته أمراً مقترناً فحسب مع حالات الانقراض الجماعي. سنتكفي بمثال آخر واحد. كان كل من شعبي الكاريب (Caribs) والتاينوس (Tainos) من شعوب جزر الكاريبي التي كانت أول الجزر التي وصلتها سفن كولومبوس. ولسوء حظ هذين الشعبين فقد كانا من أوائل المنقرضين. كارلز لالويزا-فوكس (Carles Lalueza-Fox) البيولوجي الأسباني درس مع زملائه نماذجاً من هذين الشعبين، وقد خمنوا أن هذين الشعبين قد تعرضا لتأثير مؤسس آخر عبر انتقالهم من بر الأمريكتين إلى جزر الكاريبي. درس الباحثون سلالات الحمض النووي الميتوكوندري (mtDNA). لكنهم لم يبحثوا قضية المناعة بالتحديد.[6]

السؤال الذي يجب أن يطرح أمام تأثير المؤسس حقاً: لماذا حصلت أحداث عنق الزجاجة – تأثير المؤسس في الماضي؟

أثر المناخ

قبل عدة أعوام وتحديداً عام 2016 نشرت مجلة البيولوجيا الحالية (Current biology) بحثاً لكوسيمو بوسث وزملائه، وبوسث هو باحث في جامعة توبينغين الألمانية وكان البحث حول حالة انقراض ذات أثر مناخي. قام بوسث وزملائه بتحليل الحمض النووي الميتوكوندري لـ 33 عينة من مختلف أنحاء أوروبا تعود للأعوام 35 ألف سنة قبل الآن إلى 7 آلاف سنة قبل الآن. يفترض أن لجميع الخارجين من افريقيا صنفين من الحمض النووي الميتوكوندري وهما صنف أم (M) وأن (N)، لكن ما نعرفه اليوم عن الأوروبيين هو أنهم يمتلكون صنف أن N فقط اليوم فيما يمتلك بقية البشر من غير الأفارقة الصنفين سوية. غير أن الدراسة أثبتت أن الصنف أم M كان موجوداً في السابق في أوروبا. لا تستطيع دراسة كهذه أو غيرها أن تحدد دور المناخ، لكن كثيراً من الدراسات تستطيع الوصول إلى نقطة زمنية تتوافق مع حدث مناخي كبير. في هذه الدراسة وجدوا أن الانقراض المحتمل قد حصل في نهاية العصر الجليدي[7].

في زمن مقارب قدر باحثون إسبان من المؤسسة الكاتالونية للتطور البشري الاجتماعي (Institut Català de Paleoecología Humana i Evolució Social) وآخرين من جامعات أخرى وجدوا انقراضاً آخر عند التحول بين العصر الجليدي والهولوسين (16 ألف إلى 12 ألف سنة قبل الآن) أو ما يعرف بأحداث عنق الزجاجة التي تنجو منها قلة من السكان.[8]

لماذا نعزو حالات الانقراض هذه للمناخ؟ أو بالأحرى، لماذا يلمح الباحثون لذلك رغم عدم وجود دليل راسخ؟ في الواقع إذا كان الانقراض تدريجياً وكان قد حدث على جماعة واسعة جداً فإن المسببات الأخرى أقل ترجيحاً، فمثلاً لا يمكن لمجزرة يقوم بها البشر في تلك العصور أن تستمر لآلاف السنين وأن تبيد أصناف كثيرة من البشر على مستوى قارة بأكملها، في الحقيقة لا يمكن القيام بذلك حتى الآن. الأمراض هي خيار وارد وأيضاً لها نطاقها في التسبب بكوارث من هذا النوع، لكن قلة الغذاء بسبب الأزمات المناخية هي عامل ما زال يهدد البشر على نطاق واسع حتى يومنا هذا. أكبر أعداد من الوفيات سجلت خلال القرن العشرين في بلد واحد ولمسبب واحد كانت نتيجة المجاعة التي حدثت في الصين إثر سياسات الحزب الشيوعي في نهاية الخمسينات حيث تقدر الوفيات بعشرات الملايين (الكوميديا السوداء في ذلك أن جانباً منها يعزى لحرب أعلنتها الحكومة على العصافير. نعم على العصافير). وحيث أن البشر في الحقب الأقدم يعيشون بتماس أكثر مع ظروف المناخ لعدم امتلاكهم التقنيات فإن أثر المناخ يكون أفدح.

تاريا سونديل الباحثة الفنلندية وجدت أيضاً من خلال تحليل الحمض النووي أن هناك عنق زجاجة سكاني حدث بين 4000 سنة إلى 3700 سنة قبل الآن (في الوقت الذي كان الشرق الأوسط في وضع جيد). لكن دون اقتراح سبب ذو صلة بالمناخ سوى أن الصيادين الجامعين، وهم بطبيعة الحال السكان الموجودون في فنلندا حينئذ، كانوا أكثر عرضة للأزمات السكانية الناتجة من الظروف المناخية. المميز في ذلك البحث الذي أُجري في فنلندا أنه لم يقتصر على الدليل الجيني، بل شمل احصاءاً لكافة المواقع الأثرية ويقصد بذلك أي موقع وجد فيه دليل على تواجد البشر وقد لوحظ أن هناك تطابق بين الدليل الأثري والدليل الجيني.[9] حين نراجع الدراسات المناخية حول فنلندا لا نجد ظرفاً خطيراً، سوى أنه لم يكن كما هو الحال في الفترة 8000 – 4000 سنة قبل الآن حيث يذكر بحث فنلندي انخفاض أشجار الصنوبر في الفترة بين 4000 و 3000 سنة قبل الآن.[10]

تطرقنا قبل عدة أعداد في مجلة العلوم الحقيقية إلى دراسة بحثت في تزامن انتشار اللغات السامية مع حدث عنق زجاجة تاريخي أصاب شعوب المنطقة ويتزامن أيضاً مع حالة الجفاف التي حلت في الشرق الأوسط قبل 6000 سنة.

وبذلك فإن المناخ رغم أنه لاعب رئيسي في تنظيم الموارد للصيادين الجامعين في العصور القديمة وحتى للحضارات القائمة على الزراعة فإن من الصعب تقديمه كدليل مباشر كما أن من الصعب غض النظر عن الخطوط الواضحة للتغير المناخي التاريخي في أحداث الانتشار السكاني والانقراض والهجرة. إذا كان للمناخ الدور في ذلك، فإن له دور في الأسباب اللاحقة التي ستؤثر على مناعة المجاميع البشرية مثلما ذكرنا في انخفاض التنوع الجيني.

 

المجازر وأعمال الإبادة الجماعية

هل يمكن أن تكون أعمال الإبادة الجماعية التي يقوم بها البشر لوحدها سبباً لإنقراض مجاميع من البشر؟ يستطيع البشر قتل أعداد كبيرة نسبياً من إخوتهم البشر لكن لو أردنا أن نتكلم عن مجموعة منقرضة فنحن هنا نتكلم عن خطوط وتنوعات من الحمض النووي. الجواب سيكون نعم بالتأكيد فلو قتلت عائلة بأسرها زال خط عمره بضعة أجيال، ولو قتلت مدينة فسيختفي المزيد. لكن هل أُبيدت مجموعة بمفهوم أوسع من مفهوم خطوط الحمض النووي كلياً وعلى أيدي البشر فقط دون العوامل السابقة؟ يصعب إثبات ذلك علمياً. بل هناك كثير من المغالطات حول الأمر.

يعتقد كثيرون أن السكان الأصليين في الامريكتين تعرضوا للابادة، لكن أفظع المجازر التي حصلت ليست كافية لإبادة سكان القارتين، كما أوضحنا فإن عامل انخفاض التنوع الجيني قد يكون سبباً محتملاً لضعف المناعة وبالتالي سهولة التعرض للوفاة من الأمراض التي جلبها الأوروبيون. كما أن الأزمات المناخية التي تؤثر على الغذاء يمكن أن تؤثر على الكثير من المجاميع. لكن لا يمكن للابادة المباشرة أن تفعل ذلك بذات الفاعلية. ولم يدون التاريخ ذلك، كما يصعب إثبات وجود أي حالة كهذه من الماضي.

بالطبع، يمكن أحصاء الكثير من المجازر الكبرى، وقد وجدت دراسات من حقب ما قبل التاريخ الكثير من حالات القتل سواء من الجماجم أم من آثار الدفن والهياكل العظمية والمعدات. وثقت احدى الدراسات مثلاً مجزرة حدثت في مجتمع زراعي صغير بكرواتيا الحالية قبل 6200 سنة شمل افراداً ليسوا بالأقارب ويرجح مقتلهم من قبل جماعة محلية وليس من قبل قادمين جدد يحملون جينات مختلفة.[11] وهكذا فإن هناك الكثير من الدراسات التي تشبه نشرة اخبار من العصر الحجري، تخبرنا عن مقتل عدد من الأفراد، كونهم من الأقارب أم لا، وسيلة قتلهم، تاريخ قتلهم. لكن ليس هناك مقتلة تاريخية موثقة علمياً يمكن أن تصل إلى حد كونها سبباً في إنقراض جماعة بشرية. لو نظرنا إلى الهولوكوست أو المجزرة الأرمنية وهي من المجازر الكبرى الحديثة والتي ساعدت على ارتكابها التقنيات المتقدمة في القرن العشرين بالإضافة إلى ظروف المجاعة. مع ذلك، فلم تتسبب هذه المجازر بانقراض جماعة ما.

في هذا المقال نحن لا نقدم استنتاجا بنفي وجود حالة لانقراض مجموعة بشرية نتيجة القتل المباشر، لكن ليس مما استطعنا العثور عليه في الدراسات العلمية.

المصادر:

[1] Wang, Sijia, et al. “Genetic variation and population structure in Native Americans.” PLoS genetics 3.11 (2007): e185.

[2] Lindenau, J. D., et al. “Distribution patterns of variability for 18 immune system genes in Amerindians–relationship with history and epidemiology.” Tissue Antigens 82.3 (2013): 177-185.

[3] Best, Lyle G., et al. “Genetic Variants, Immune Function, and Risk of Pre‐Eclampsia among American Indians.” American Journal of Reproductive Immunology 67.2 (2012): 152-159.

[4] Ewerton, Paloma Daguer, et al. “Amazonian Amerindians exhibit high variability of KIR profiles.” Immunogenetics 59.8 (2007): 625-630.

[5] Gonçalves, Vanessa F., et al. “Recovering mitochondrial DNA lineages of extinct Amerindian nations in extant homopatric Brazilian populations.” Investigative genetics 1.1 (2010): 1-11.

[6] Lalueza-Fox, Carles, et al. “MtDNA from extinct Tainos and the peopling of the Caribbean.” Annals of human genetics 65.2 (2001): 137-151.

[7] Posth, Cosimo, et al. “Pleistocene mitochondrial genomes suggest a single major dispersal of non-Africans and a Late Glacial population turnover in Europe.” Current Biology 26.6 (2016): 827-833.

[8] Fernández-López de Pablo, Javier, et al. “Palaeodemographic modelling supports a population bottleneck during the Pleistocene-Holocene transition in Iberia.” Nature Communications 10.1 (2019): 1-13.

[9] Sundell, Tarja, et al. “Archaeology, genetics and a population bottleneck in prehistoric Finland.” Antiquity 88.342 (2014): 1132-1147.

[10] Kultti, Seija. “Holocene changes in treelines and climate from Ural Mountains to Finnish Lapland.” (2004).

[11] Novak, Mario, et al. “Genome-wide analysis of nearly all the victims of a 6200 year old massacre.” Plos one 16.3 (2021): e0247332.

راجعت المقال لغويا ريام عيسى وتم نشره في مجلة العلوم الحقيقية العدد 51  لشهري سبتمبر-اكتوبر 2022