قام الطبيب الهنغاري “سمويلز”بأعماله خلال الاعوام 1844الى 1848 في مستشفى فينا العام.
وبوصفه عضوا في الهيئة الطبي في قسم الولادة”الاول”في المستشفى,كان سمويلز منزعجا عندما لاحظ ان نسبة كبيرة من النساء اللاتي يلدن اطفالهن ,في ذلك القسم ,يصبن بمرض خطير قد يكون مميتا احيانا ,يسمى حمى النفاس,لتصل نسبة الوفيات الى اكثر من 11%بينما القسم الثاني للولادة ,في المستشفى نفسها,قد استوعب تقريبا العدد نفسه من الحالات لكن النسبة كانت اقل بكثير 2%!!
بدأ سمويلز اعماله من خلال تناول تفسيرات مختلفة للمعضلة مما كان جاريا في ذلك الوقت ,وقام برفض البعض منها مباشرة لكنها لا تتماشى مع الحقائق المثبتة اثباتا جيدا ,واخضع البعض الاخر منها لاختبارات معينة .
لقد نسبت نظرة,مقبولة قبولا واسعا حينئذ,حمى النفاس الى تأثيرات وبائية”كانت بوجه عام توصف وصفا غامضا “كتغيرات جوية-كونية -ارضية”منتشرة فوق مناطق كاملة مسببة بذلك حمى النفاس عند النساء في اثناء الوضع.
ولكن كيف يمكن _تسائل سمويلز_لمثل هذه التاثيرات ان تنكب القسم الاول للولادة سنوات ومع ذلك تركت القسم الثاني للولادة سالما؟ّوكيف يمكن لهذه النظرة ان تتوافق مع حقيقة انه في حين كانت حمى النفاس تجتاح القسم الاول في المستشفى ,لم تحدث اي حالة لحمى النفاس في مدينة فينا او القرى المحيطة بها,وباء حقيقي ,مثل الكوليرا,لن يكون انتخابيا مثل هذا!!,لاحظ سمويلز ان لبعض النساء اللاتي دخلن القسم الاول للولادة ,واللاتي كانت بيوتهن بعيدة عن المستشفى ,وانجبن اطفالهن في الشارع”في طريقهن للمستشفى”ان معدل الوفيات من حمى النفاس مابين حالات الولادة بالشارع كانت اقل من معدلها في القسم الاول للولادة!
وذكرت نظرة اخرى ان الازدحام الشديد جدا في القسم الاول للولادة كان سببا للوفاة ,الا ان سمويلز ذكران الازدحام في القسم الثاني للولادة كان اشد وطأة وذلك بسبب جهود المرضى اليائسة للابتعاد عن القسم الاول للولادة سيء الصيت .رفض سمويلز ايضا,حدسين مشابهين كانا مقبولين حينئذ,وذلك من خلال ملاحظة عدم وجود اختلاف مابين القسمين فيما يتعلق بالغذاء او الاهتمام العام بالمرضى .
وفي عام 1846 ,نُسبت لجنة ,تشكلت للتحقيق في المسالة ,وجود المرض في القسم الاول للولادة الى الجروح المتسببة نتيجة الفحص الخشن من قبل طلبة الدراسات الطبية ,حيث مارس جميع هؤلاء الطلاب التدرب على التوليد في القسم الاول للولادة,ولاحظ سمويلز ,عند رفضه لهذا الراي ما يأتي:
1-ان الجروح الناتجة عن عملية الولادة الطبيعية اكبر بكثير من تلك التي يسببها الفحص الخشن.
2-ان القابلات اللاتي استلمن تدريبهن في القسم الثاني للولادة فحصن مريضاتهن بالطريقة نفسها ولكن من غير تلك التاثيرات السلبية.
3-عندما تم تقليص عدد طلاب الدراسات الطبية ,استجابة لتقرير اللجنة,الى النصف,كما تم تقليل فحصهم للنساء الى اقل ما يمكن ,فان معدل الوفيات ,بعد انخفاض قليل ,ارتفع الى مستويات اعلى من اي مستوى سابق.
وفي هذا الصدد ,تم تقديم الكثير من التفسيرات النفسية .فقد لاحظ بعض هذه التفسيرات ان القسم الاول للولادة مصمم بحيث يكون القس الذي يحمل السر المقدس الاخير لامراة تحتضر ان يمر خلال خمس قاعات قبل الوصول الى غرفة المريضات,حيث تم عد ظهور القس ,يتقدمه مرافق يدق الجرس ,على ان له تاثيرا مخيفا ومضعفا على المريضات في القاعات ,ومن ثم قد يجعلهن ضحايا لحمى النفاس.وفي القسم الثاني لولادة ,كان هذا العامل ,غير الملائم,غائبا,حيث كان للقس طريق مباشر لقاعة المرضى.قرر سمويلز اختبار هذا الحدس .حيث اقنع القس بالدخول من طريق غير مباشر وبلا دق الجرس ,وذلك لغرض الوصول الى غرفة المريضات بهدوء ومن غير ان يلاحظه احد.الا ان معدل الوفاة في القسم الاول للولادة بسبب حمى النفاس لم ينخفض.
بعد ذلك ,تم اقتراح فكرة جديدة لسمويلز من خلال ملاحظة ان النساء في القسم الاول للولادة ينجبن اطفالهن وهن على ظهورهن,اما القسم الثاني للولادة ,فكن ينجبن وهن على احد جوانبهن.وعلى الرغم من ان سمويلز لم يؤيد مثل هذه الفكرة ,فقد قرر “مثل الرجل الغريق المتمسك بقشة”ان يختبر ان كان هذا الاختلاف بالاجراء ذا اهمية,ولهذا ,فقد ابتدا باستخدام الموضع الجانبي في القسم الاول للولادة,ولكن تارة اخرى ,بقي معدل الوفيات على حاله بلا تغيير!!
واخيرا,وفي بداية عام 1847 ,قدمت حادثة وقعت لسمويلز الاشارة الحاسمة لحل المعضلة,وذلك ان احد زملائه وهو كولتشكا,اصيب بجرح عميق في الاصبع ,من مشرط احد الطلاب اثناء قيامه بتشريح جثة ,وتوفي بعد مرض مزعج ظهرت خلاله الاعراض في ضحايا حمى النفاس ,وعلى الرغم من ان دور الاحياء الدقيقة المسببة للعدوى لم يكن معترفا به,حينئذ,فقد تفهم سمويلز,ان “مادة الجيفة”التي ادخلها مشرط الطالب في دم كولتشكاتسبب في المرض القاتل لزميله.كما ان الظواهر المتشابهة مابين مرض كولتشكا ومرض النساء في القسم الاول للولادة ,اوصل سمويلز للنتيجة ان مرضاه ماتوا بسبب تسمم الدم من النوع نفسه.اي ان سمويلز وزملاءه وطلاب الدراسات الطبية كانوا حاملين المادة المعدية ,وذلك لكونهم كانوا ياتون مباشرة الى القاعات ,بعد اتمام التشريح في قاعة التشريح,لغرض فحص النساء بايديهم بعد غسلها سطحيا والتي غالبا ماكانت تحتفظ برائحة عفنة.
وتارة اخرى ,قرر سمويلز اختبار فكرته الجديد,وفكر,فيما اذا كان مصيبا ,ان يمنع مرض حمى النفاس وذلك من خلال القتل الكيمياوي للمادة المعدية الموجودة على الايدي,ولهذا اصدر امرا للطلاب ان يغسلوا ايديهم بمحلول حامض الكلورينايت قبل البدء بالفحص ,على اثر ذلك ,بدا معدل الوفيات من جراء حمى النفاس بالانخفاض المستمر,ولسنة 1848 انخفضت الى 1% في القسم الاول للولادة !
ولاسناد فكرته,لاحظ سمويلز ان معدل الوفيات القليلة في القسم الثاني للولادة ,لان القابلات كن يؤدين عملية الولادة ,دون ان يشتمل تدريبهن على ممارسة تشريحية ,وكذلك تفسر هذه الفرضية معدل الوفيات القليل مابين ولادات الشارع,اللاتي كن نادرا ما يفحصن بعد الدخول ,ولهذا كانت فرصتهن اكبر لتفادي الاصابة بالعدوى.
وكذلك,فسرت الفرضية وفيات الاطفال من حمى النفاس ,من الذين التقطت امهاتهم العدوى قبل الولادة ,وانتقال العدوى الى الطفل عن طريق مجرى الدم المشترك للام والطفل.
كذلك,فحص سمويلز مع زملاءه,,بعد ان طهروا جيدا ايديهم,اولا امراة قبل ان تلد وكانت تعاني من تقيح ورمي عنقي خبيث ,ومن ثم استمروا بفحص اثنتي عشرة امراة اخرى في الغرفة نفسها ,بعد غسل روتيني خال من المادة المطهرة,وقد ماتت احدى عشرة مريضة من بين الاثنتي عشرة بسبب حمى نفاسية ,لقد خرج سمويلز بنتيجة ان حمى النفاس يمكن لها ان تتسبب ,من مواد عفنة مشتقة من كائنات حية مازالت في طور الحياة ,وليس كما يخيل اليه من مواد جيفة فقط.

من كتاب :فلسفة العلوم الطبيعية
تاليف:كارل جي -همبل
ترجمة:سامر عبد الجبار المطلبي
دار الشؤون الثقافية العامة