في حالات الذهان المزمنة، الفصام بشكل خاص، لاحظت بعض المشاكل في إنتاج اللغة، حيث أن بعض المرضى يكونون كلمات جديدة، فيما يربط بعض المرضى الكلمات بقافية معينة رغم عدم وجود أي رابط معنوي بين الكلمات، ويقوم البعض الآخر بتوليد “سلطة الكلمات” حيث يمزجون الكلمات دون أي حس قواعدي أو معنوي أو صوتي. هل هناك أي علاقة أساسية بين الذهان واللغة؟ بعض الدراسات مثلاً ذكرت أن المرضى الذين يعانون من الصم الخلقي (congenital deaf) والمرضى الذين يعانون من الصم بشكل عام من النادر ما يعانون من الذهان*، هل هذا يعني أن هناك دور للغة في فهم الواقع وأن لذلك بعض الدور في الذهان بحيث أن فهم الواقع يتأثر حين تتدهور اللغة أو العكس؟ سؤال من رمزي محمد طبيب نفسي من المملكة العربية السعودية وأحد أعضاء موقع العلوم الحقيقية.

يا له من سؤال مذهل، في الحقيقة هذا يقع على حدود معرفتي، وقد استكشفت هذه المنطقة فقط لأنها مثيرة للاهتمام جداً. الأمر الأول هو الاعتراف بذلك الشيء بالتأكيد، إن اضطرابات اللغة في الفصام تشخيصية، خصوصاً وفق مقياس معين في الغرب لاسيما في دليل التشخيص النفسي (DSM) مما يشمل بعض حالات توليد الكلمات، تدفقات الوعي، وحتى انعدام القدرة على الكلام او الكلام ببطء أو بجمل قصيرة، لذا فهناك علاقة هنا بالتأكيد.

لم أفكر بالطريقة التي يسأل بها السائل هنا، والتي قد لا تكون فقط تجسيداً للفصام بل آلية لحدوثه، وهذا أمر رائع، سؤال مذهل حقاً. لدي بعض الأفكار حول هذا، أولها أننا نعلم أن العقل البشري – ويبدو أن هذا هو الحال عبر الثقافات، وسأتجرأ على القول أن هذا عالمي ويبدو الأمر قريباً – هو آلة لسرد القصص، إنه يخبرنا قصص، ويبني سرديات حول العالم، مكاننا فيه وهويتنا. هويتنا هي قصة إلى الحد الذي لو فكرنا به وبتركيبة تلك السرديات فإننا سنحتاج لبناء تركيب معين لرؤية التهديدات لذلك التركيب، لذا فإن السردية تحتاج أن تكون موجودة قبل أن تكون هناك مشكلة أو خلل فيها. هذه فقط فكرة سيكولوجية عن كيف يمكن للغة والقدرة اللغوية أن تكون آلية لذلك الخلل. أنا لا أعلم كيف يحدث ذلك الخلل وهذا الجزء لست متأكداً منه. قد يكون حين يتم تحدي السرديات لأنه في الكثير من المرات يتم تشخيص الفصام حين يتعرض الأشخاص للعالم بطرق جديدة، وحين تكون هناك أخطار لتلك السرديات مما قد يتسبب بانكسار فيها يمكن أن يحدث هذه الحالات النفسية الشديدة لبعض الأشخاص. هذه احتمالية.

الفكرة الأخرى هي الفترة الحرجة للغة، هذه الفترة تتراوح بين الولادة إلى البلوغ، وهي نافذة لإتقان اللغة. اذا ما تعلمت اللغة بعد ذلك، فلن تتقنها إلا إذا كنت ممثلاً بارعاً أو اذا كان بعض الأفراد ممن يمتلكون تلك المهارة لكن بشكل عام أنه من الصعب تعلم اللغة بعد عمر معين. من المثير للاهتمام أن 15 سنة من العمر هي الحقبة الزمنية التي يتم في غضونها تشخيص الأفراد – أو على الأقل حسب فهمي – باختلالات مثل الفصام. أتسائل إن كانت تلك صدفة؟ لم أسمع بشخص قدم هذه الفرضية من قبل، ولهذا السبب فأنا سعيد بالاستماع لهذا السؤال لأنني سأذهب للقراءة عن هذا الموضوع. الفكرة أنه بانقضاء الفترة الحرجة يحدث الخلل النفسي هي فرضية مثيرة للاهتمام. وهذه هي فكرة فقط.

شيء أخير، أود توجيه السائل إلى برامج لطيفة – وأنا أعلم يا عمر إنك مهتم بمعالجة اللغة الطبيعية – ويمكنني مشاركة هذه الورقة البحثية معك، إنها تحليل للكلام من الأشخاص الذين تم تشخيصهم لاحقاً بالفصام، تم التحليل قبل تشخيصهم باستخدام خوارزمية. يمكن للذكاء الاصطناعي التنبؤ بدقة تصل إلى 80% لبعض الأشخاص الذين يمكن أن يتم تشخيصهم بالفصام وهذا أمر مذهل[1]. يخبرنا هذا عن الرابط بين اللغة والفصام، هناك شيء عميق هنا.

هذه هي بعض الأفكار عن الموضوع وأنا بالفعل بحاجة للتفكير بالأمر أكثر.

بالعودة لسؤال رمزي، ذكرت أشياء كثيرة لكن أحدها علق بذهني منذ آخر مرة استمعت لكتابكم حين ذكرت عدم اليقين. هناك تجارب تضفيها اللغة على أدمغتنا غير أنها لا تقع موقع اليقين، وتبقى غير يقينية بالنسبة لعقولنا، وهناك أشياء تكون شبيهة بما هو مبني في عقولنا. في الكتاب الذي اقترحتموه “حاسة الرقم” (the number sense) نرى أن البشر مثلاً يستطيعون العد حتى 3 بشكل طبيعي حتى قبل تعلم اللغة. إذن، هل يمكن أن تكون العلاقة مع الفصام مرتبطة بالأفكار غير اليقينية أو بذلك المستوى من الأفكار التي تمثل قاعدة التفكير في أذهاننا ولاسيما حين تنال تلك الأفكار ذات الأولوية مع أفكار أخرى يجب أن تكون ذات أولوية في تفكيرنا (مما هو مبني في أذهاننا). [تم نقل هذا السؤال من نهاية المحاورة لصلته بالسؤال السابق]

مثير للاهتمام، هل تقول أن اللغة هي وسيلة لإضفاء شيء من عدم اليقينية على عالم غير يقيني مما يعطينا هيئة لعالم آخر نبحر به؟

هل تعطينا اللغة عالم غير واقعي؟ عالم غير مرتبط بالأحاسيس، لكن يمكن أن نبني شيئاً، قد ذكرتم السرديات، وكثير من الكتاب يكونون عالم آخر مثلاً في احدى القصص، وأنا لست متأكد بشأن الذهان، هل يمكن أن نعطي تشبيهاً له بذات الطريقة بأنه يشتمل على عالم آخر نعيش فيه لكنه ليس واقعي وله قواعد أخرى، قد يكون كل شيء متحركاً في ذلك العالم مثلاً.

هذا مثير للاهتمام حقاً، وأنا أعود للسؤال حول الفصام: هل يمكن للطريقة التي نفكر بها واللغة أن يتبعان بعضهما؟ التفكير باللغة، حيث أننا لا نتحدث عن الكلام فحسب، بل عن الكلمات والجمل، فهذا الأمر يختلف.

خلل ما في القدرة على استخدام اللغة بطريقة منظمة قد تسبب أثراً متتابعاً يكسر قدرتنا على التفكير بالعالم بطريقة منظمة. هذه فرضية مذهلة، عليّ التفكير بالأمر. في هذه الحالة، هذه تجربة معربة، إذا ما دمرت قدرة أحدهم على الحديث بشكل مستمر، ففي كل مرة عليهم أن يقولوا جملة فهي لا تحمل معنى، ولو فعلت ذلك بشكل كافي، فستكون قادراً على استحداث الذهان في ذلك الشخص. إنها تجربة مرعبة حقاً، اختبار تلك الآلية وضررها الفعلي.

ألا يمكن أن يتم تفعيلها حقاً؟ ما زلت أذكر في العراق، حين كان من الخطير أن تقول شيئاً عن الرئيس لأن ذلك سيؤدي بك أو بعائلتك الى القتل، أذكر رجلاً مجنونا كان يعدو في الشوارع ويسب الرئيس، الفرضية أن اشخاص كهذا قد قضوا أشهراً أو سنوات في سجن مريع وهذه كانت النتيجة، وهناك الكثير من القصص المشابهة في الأنظمة الشمولية.

في هذه الحالة هناك أشياء أخرى في تلك البيئة، الضغط الجسدي والأشياء المريعة التي يمكن أن تحدث لكن من بين ما افهم حدوثه هو التعذيب النفسي، مما يجعل الأشخاص يقولون أو يسمعون أشياء معينة. لست متأكداً إن كنت قد سمعت عن الامريكان في جوانتانمو حين كانوا يعرضون صوراً أو موسيقى أمريكية تخالف المعتقدات الدينية للسجناء أو جعلهم يقولون أشياءاً معينة، أظن أن هذا فيه شيء من محاولة كسر الشخص عبر محاولة إجباره ليستمع لشيء يعارض معتقداته. نوع من غسيل الدماغ. أظن أن هناك بعض الأشخاص ذوي النفوذ الذين يستخدمون اللغة لتغيير آلية تفكير أحدهم، وهذا ما يسبب للشخص أن ينهار كلياً. لأنك مجبر على التفكير بطريقة معينة أو التصرف بطريقة معينة. لذا، اعتقد أن العلاقة ليست فقط جسدية، بل هناك بالفعل أمر لغوي يحدث في السجن أيضاً.

  • بمراجعة هذا السؤال لاحقاً، نصحح بأنه يشير لرأي قديم وحيث لا توجد معلومات كثيرة عن هذا النوع من الذهان المتزامن مع هذا النوع من الصمم.

[1] Corcoran, C. M., Mittal, V. A., Bearden, C. E., Gur, R. E., Hitczenko, K., Bilgrami, Z., … & Wolff, P. (2020). Language as a biomarker for psychosis: A natural language processing approach. Schizophrenia research, 226, 158-166

من اللقاء مع سبينسر كيلي النص الكامل للقاء بالعربية منشور في العدد 55 من مجلة العلوم الحقيقية

من اللقاء ذاته اقرأ أيضاً:

لغز التأتأة وقراءة القرآن

اللغة في المهد

اللغة وإرث الأسلاف: حول الوراثة واللغة ووراثة الصفات النفسية

هل يمكن أن تمنحنا اللغة عالما جديدا من المشاعر؟